الأزمة بين الثقافة السياسية وشخصنة القيادات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وبداية، ينبغي التأكيد على أن ظاهرة شخصنه التيارات والمنظمات وحتى الحكومات لا تختص بالعراق فهي موجودة في العالم العربي وغيره، ولكن كلما تحرر مجتمع ما من خوف الحاكم وبطشه وتمتع بالحريات التي تسمح بانطلاق الطاقات الفردية والجماعية (حريات التعبير وتشكيل التنظيمات السياسية والنقابية والجمعيات)، كلما حصل توازن أكبر بين مختلف الأطراف وتمازجت ثقافاتها الفرعية بمرور الزمن لتخلق أرضية ثقافية مشتركة من شأنها تقليص ظاهرة الشخصنة والتشنج الذي ينسأ عنها. أما الدول الديمقراطية المستقرة، فتشهد علاقة جدلية (صراع دائم) بين الطابع الجماعي الضروري لنجاح العمل السياسي والاجتماعي العام والتوجه الطبيعي نحو صعود زعامة شخصية ما تمثل هذا التنظيم أو ذلك التيار. فهناك إذن نوع من الاتفاق على أن حل الإشكال يكمن في قبول الطابع الشخصي كأمر واقع مع ضرورة الصراع لحصره في حدود معينة ومنع استفحاله. وكما هو معلوم، تَحذر الديمقراطيات الغربية كثيراً من ظاهرة الكاريزما التي تشكل ذروة هذا الاتجاه نحو الشخصنة، لأنها (أي الكاريزما) تمهد لاستفراد القائد بالقرار السياسي وبمصير المجموعة التي تنقاد إليه، وكل استفراد يؤدي الى تنصيب القائد لنفسه فوق الواقع، إذ تهتم القيادات القريبة منه بإرضائه على حساب التواصل الحقيقي مع واقع المجتمع لقلة الاهتمام بالمعطيات الواردة من القنوات الاجتماعية المختلفة. وهكذا قد تؤدي الكاريزما بالتالي إلى استفحال سلوك دكتاتوري يؤثر على مصير المجتمع الديمقراطي بكامله.
وفي العراق، مارس النظام السابق القمع وجرائم القتل والإبادة الجماعية فدمر الثقافة السياسية ومسلماتها المشتركة وتفرقت الأحزاب المعارضة لتواجدها، ولسنوات طويلة، في مناف متباعدة أو في ظل القمع الداخلي. وأدى تشظّي الثقافة السياسية إلى ضعف العلاقة بين التنظيمات السياسية والى تمحور قيادات كل منها حول شخصيات قيادييها لصعوبة تواصلهم مع القواعد "المتبقية". ومنذ سقوط الصنم في 2003، يعيش العراق فترة تاريخية تتميز بانطلاق الطاقات الفردية والجماعية في ظل الحريات التي ذكرناها، فطورت التنظيمات السياسية نشاطها الحر واستعادت عافيتها تدريجياً في ظل قيادات تاريخية قائمة في أغلبها على الزعامة الشخصية أكثر من اعتمادها على حيوية التنظيمات ومتابعة مواقع الرأي والتأثير فيها وفي المجتمع. أما الكتل التي نشأت بعد 2003، فقد قامت أصلاً على مبادرات وشخصيات مؤسسيها ولا تتمتع في أغلبها بقواعد جماهيرية. وفي سياق ضعف الثقافة السياسية المشتركة، فيما بين هذه الكتل والأحزاب (قديمها وحديثها)، لم يتوفر الحد الأدنى الضروري من المسلمات المتفق عليها. وهكذا فالأزمة هي أساساً أزمة ثقافة سياسية نابعة من ظروف الفترة السابقة أنتجت، مع تأثير المحاصصة، أزمة التواصل والتفاهم الحالية بين قيادات الأحزاب المختلفة.
وتسمح المراجعة السريعة لأهم التيارات العراقية بالتعرف على نوعية قيادة هذا التنظيم أو ذاك من حيث مدى سيطرة الطابع الشخصي عليها ومدى الاختلاف بينها في الثقافة السياسية:
-يمتلك كل من حزب الدعوة والحزب الشيوعي قيادة جماعية نسبياً يسيطر كبارها على التنظيم بسبب ظروف الوضع السابق، وقد عرف هذان الحزبان انشقاقات تمحورت في أغلبها أيضاً حول شخصيات معينة. ولكن بدأ الوضع بالتغير، منذ 2003، لتوفر فرص أكبر للتواصل الحقيقي بين القيادات العليا والأطر والقواعد الحزبية.
-المجلس الأعلى: ويقوم أصلاً على شخصيات قيادية وكوادر انتظمت في المنفى. وقد اكتسب شعبية مهمة، بعد 2003، لأسباب أهمها شخصية القائد وكونه من أسرة قدمت قافلة من الشهداء وهي أسرة المرجع المرحوم السيد محسن الحكيم والذي لا زالت سمعته قوية بين عرب وأكراد العراق. ومهما يكن موقفنا منه، فالمجلس يشكل نموذجاً على شخصنة القيادة.
-التيار الوطني الديمقراطي: يمثل نموذجاً آخر على شخصنة القيادة ومتميز في بعض الوجوه، إذ لم يستطع النهوض مع نصير الجادرجي وعدنان الباججي، ولكنه حقق نجاحات انتخابية مهمة من خلال القائمة العراقية المتشكلة حول شخصية د. أياد علاوي.
-أما التيار الصدري فيستند أصلاً على شخصية مقتدى الصدر الذي مارس العمل السياسي بعد 2003 واستمد مشروعيته من مكانة والده السيد محمد محمد صادق الصدر الذي اغتالته مخابرات النظام السابق. وتعمل مكاتب التيار المذكور باسمه (الشهيد الصدر)، بينما ترفض التقاليد العريقة للمرجعية الشيعية أن يتكلم أحد باسم المرجع المُتوفى أو أن يتصرف أحد أولاده كوريث لصفته القيادية (المرجعية). ونجد شخصنة القيادة، بدرجة أقل، في حزب الفضيلة الذي انشق عن التيار الصدري واعتمد على شخصية الشيخ اليعقوبي مع وجود قيادات مهمة ومؤثرة من الصف الثاني.
-الأحزاب الكردية: تظهر شخصنة القيادة بصورة واضحة هنا، لا سيما في حالة الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، ابن الزعيم التاريخي مصطفى البارزاني.
-وفيما يختص بجبهة التوافق، فتشكل هذه الكتلة نموذجاً فريداً من نوعه، فهي مؤلفة من ثلاثة أطراف، أولاً: مؤتمر أهل العراق الذي أسسه د. عدنان الدليمي، مسؤول الوقف السني، صيف 2005. ثانياً: مجلس الحوار الوطني، وشكله الجنرال السابق خلف العلَيّـان الذي يتمتع كما يبدو بتأثير مهم على بعض التنظيمات المسلحة. ويشكل هذان التشكيلان مثلاً على تنظيمات عديدة تشكلت أساساً على يد قياديين لم يكونوا معروفين أصلاً على المشهد السياسي العراقي العام، قبل 2003. بينما يتميز الطرف الثالث والأقوى في جبهة التوافق، الحزب الاسلامي العراقي، بكونه يتمتع 1- بتاريخ طويل كامتداد لتنظيم الأخوان المسلمين في العراق، و2- بقواعد شعبية حقيقية، و3- بقيادة جماعية واضحة، رغم الصعود السريع، سنة 2005، لشخصية د. طارق الهاشمي. وهكذا تشكل جبهة التوافق مركباً هجيناً من حيث نوعية القيادات ومدى ارتباطها بجذور اجتماعية مهمة، وقد تستمر أزماتها إن لم يتفق الجميع على الدور الكبير للحزب الإسلامي العراقي في إطارها.
وجاء نظام المحاصصة ليضعف الثقافة السياسية المشتركة (أي الوطنية) بشكل خطير، حيث كرس تخندق القوى السياسية على أرضياتها الخاصة (مذهبية وقومية) وتصورت القيادات السياسية أن تفاهمها على "تقاسم" المناصب العليا في الدولة سيؤدي الى الاستقرار ولكنه أدى في الواقع إلى فساد الادارة وضعف كفاءتها وأدى تخندق القيادات إلى زيادة التشنج في المفاوضات ليس مع الخصوم وحسب بل حتى مع الحلفاء وفي داخل الكتلة كما في حالة جبهة التوافق، كمثل ليس إلا. ويمثل تشكيل الحكومة نموذجاً صارخاً لأزمة الاتفاق المستعصية بين القيادات السياسية. ويمكن اعتبار ظاهرة التخندق واحدة من أخطر نتائج ما يسمى بالديمقراطية التوافقية ووليدتها المقيتة، المحاصصة. وعلى عكس ما اعتقده بعض أنصاف المتخصصين، أدت هذه التوافقية الى غياب الاتفاق بين قادة الأطراف المختلفة. ويؤكد الواقع العراقي عدم الحاجة لهذه الوصفة القاتلة لأنه لم يحتضن الطائفية كبنية سياسية/اجتماعية كما في لبنان مثلاً، وحتى في هذا البلد بدأت الدعوة الى التخلص من التوافقية الطائفية والدينية لا تكريسها وتصديرها.
لذلك يجب علينا العمل الجدي على 1- استمرار وتأييد الجهود لتثبيت دولة القانون. 2- تخليص النظام الحالي من آفة المحاصصة الحديثة نسبياً والتي كرست تخندق الكتل وسيطرة قياداتها، كزعامات، على تنظيماتها وأوساطها الاجتماعية. 3- تعميق الثقافة السياسية المشتركة وربط التيارات المختلفة بها من خلال التواصل الدائم لقياداتها فيما بينها ومع واقع المجتمع ومشاكله وطموحاته عبر القنوات المختلفة. 4- توجيه الأحزاب الحالية والجديدة وحركات الصحوة في الأنبار وغيرها إلى تشكيل قوائم انتخابية ذات إطار وطني مفتوح للجميع، حتى مع احتفاظها بتسمياتها الحالية كتنظيمات. 5- استفادة القادة الكبار من قيادات الصف الثاني الحالية وتشجيع وصول قيادات شابة جديدة بفضل الانتخابات خصوصاً.
وأخيراً، من شأن هذه المبادرات خلق الشروط الموضوعية لتخليص البلد من أزمة اتفاقه "مع نفسه" وذلك بوضع الجميع على أرضية ثقافة وطنية (مشتركة) وتشجيع القيادات على التعامل مع أعضاء تنظيماتها وخصومها وعموم مواطنيها بعقلانية أكبر وعلى أساس المصلحة المشتركة والثقة المتبادلة.
التعليقات
يا ريت تكثر هيك مقال
غالب حسن الشابندر -عزيزي محمد سعيدتحية من الاعماق ، ياريت تكثر مثل هذه القراءات العملية كماأتصور ، ياريت اقرا لك اكثر واكثر في مثل هذها لمجالات ،وانت اهل لهاتحياتي، واحتاج اميلك بسرعة ، المخلص ابوعمار الشابندر
جزاك الله الخير
adil paris -كلامك سليم وتحليلك موضوعي يادكتور محمد سعيد كالعادة جزاك الله الخير
بناء دولة المواطنة
موسى -ان شرط بناء دولة المواطنة هو القضاء على النظام الطائفي، والمحاصصة السياسية الذي جلب المآسي على الكثير من الشعوب كما في لبنان والعراق، وان معرفة العلل هي من أهم الأسباب المؤدية الى الخلاص وبناء الدولة الوطنية، والثقافة السياسية هي سبيل الخلاص من الكثير من العقد السياسية التي تضع المصالح الشخصية أمام المصلحة الوطنية.نشكر الدكتور الشكرجي الذي عودنا على مقالاته وتحليلاته التي تناول بنية القضايا الأساسيةفي الدولة والمجتمع.
يا ريت تكثر هيك مقال
غالب حسن الشابندر -عزيزي محمد سعيدتحية من الاعماق ، ياريت تكثر مثل هذه القراءات العملية كماأتصور ، ياريت اقرا لك اكثر واكثر في مثل هذها لمجالات ،وانت اهل لهاتحياتي، واحتاج اميلك بسرعة ، المخلص ابوعمار الشابندر
جزاك الله الخير
adil paris -كلامك سليم وتحليلك موضوعي يادكتور محمد سعيد كالعادة جزاك الله الخير
بناء دولة المواطنة
موسى -ان شرط بناء دولة المواطنة هو القضاء على النظام الطائفي، والمحاصصة السياسية الذي جلب المآسي على الكثير من الشعوب كما في لبنان والعراق، وان معرفة العلل هي من أهم الأسباب المؤدية الى الخلاص وبناء الدولة الوطنية، والثقافة السياسية هي سبيل الخلاص من الكثير من العقد السياسية التي تضع المصالح الشخصية أمام المصلحة الوطنية.نشكر الدكتور الشكرجي الذي عودنا على مقالاته وتحليلاته التي تناول بنية القضايا الأساسيةفي الدولة والمجتمع.