المقامة العراقية: في حديث رمل الجزرة البغدادية (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
طوحت بي لواعج الأشواق، إلى وطني العراق، وعزمت على الترحال، بعد أن هدأت في العراق الأحوال، فتذكرت صاحبنا النازح العراقي، الذي يروي لنا بحرقة واشتياق ِ، عن ذكرياته وشجونه في العراق، فتشجينا لوعته وحنينه، ويطربنا بلهجتي الحوار الاسلامية واليهودية، والتي تشبه لهجة أهل تكريت واللهجة المصلاوية. فقلت لنفسي، والله لا بد من إخباره، بسفرتي ومغامرتي، الى العراق الحبيب، لعله إلى ندائها يستجيب، أو يطلب تذكارا من بغداد، فهو من الشوق إليها يصيح "الداد"، فكتبت له قائلة: "اطلب يا عزيزنا واتمنى، أية هدية عراقية تريد نجيب لك، خاطر بيها تتهنى؟" فإذا به يستحلفني أن أفتش له عن الثريا الفضية، التي فرهدها من أمه، أبو الجراوية. قلت له: والله هذا أمر عسير، ومسألة ما تصير، لأنني لا أعرف أوصافها، وطولها وعرضها وأصنافها، أحسن انتظر لما تهدأ الأحوال أكثر، وانروح سوا نتبختر، ويا الأستاذ كاظم حبيب، الصديق النجيب، فهو يطلع من الحق وبصير، وفي مثل هذه الأمور خبير، ما له نظير. قال صاحبنا، زين ما يخالف! جيببنا مكانها حفنة، من تراب الجزرة. فسررت لجوابه، وأخبرته بأن طلبه، على العين والراس، وعلى بختك، ليس في ذلك باس، وقد وفقني الله إلى تلبية طلبه، وتحقيق أمنيته، فتسلم شاكرا ،حفنة الرمل من الجزرة، فكتب إلي الرسالة التالية، ملأها بالممنونية العراقية، وها أنا أنقلها إلى للقراء الكرام، كاملة بنصها على التمام: تحية أخوية عراقية، وبعد،إلى ابنة العم الغالية الأديبة ومؤرخة الفن العراقي الحديث، السيدة أمل بورتر، محققة الآمال وحاملة هموم العراقيين النازحين من العراق، والمقيمين ببطولة وشجاعة فيما بقي آهلا من ربوعها الجميلة، متمسكين بتراب العراق الغالي، ويقولون نحن في سبيلها بالموت والمفخخات لا نبالي.
والله أثاري سويتيها صدك، ودزيتي لي حسب طلبي، حفنة غالية من تبر العراق الثمين، وآني ممنونج، وحياك الله على هل الدكة المردانة، والخزعلية المباركة اللي دكيتيها ويانا، مثل الدكة اللي بيها ابلانا، صديقي، وأعز أصحابي، الشاعر عبد القادر الجنابي، لما وهدنـّي بمقابلة في مجلته "إيلاف" التي لا تحابي، وأنا ما أزال منها أعاني. فقضت مضجع ذكرياتي إلى اليوم. ولكن علي يقع اللوم. بس تريدين الصاغ، آني جان متت من القهر والحنين، لو ما افرغ من قلبي كل الشجون، و لو ما إتدزيها الحفنة الرمل الغالية التي ولولاها، لبقيت مجنون هواها ، واللي حفنتيها بشجاعة من برسالتهم يؤمنون، فأنت، دام فضلك، من المشفقين على من أضناهم الى العراق الحنين، ولم تخشي عيون المخبرين، وأمام جميع الناظرين، صرت بشجاعة تحفنين، من رمل الجزرة، إللي الله يذكرها بالخير، أمام شارع أبو النويص (أبو نواس)، الذي كان أيام زمان يعج باليهود أيام السبوت والاعياد، فحفنت الحفنة بأريحية عراقية كريمة، والله يكثر خيرج ويزيد من أمثالج، ونحن لك يا ام الهلـّة، من الشاكرين. و آني اعرف العراقيين الكرام الميامين، ما يكسرون أبخاطر أحد وخاصة بخاطر أصدقائهم المخلصين.
ويا للفرحة، اليوم وصلني طرد الرمل المبارك بسلام، كاملا بالتمام، وألف شكر على تجشمك المصاعب لأجلها، جازاك الله خيرا عليها، فقد طار عقلي من الفرح، ولم يبق في قلبي ترح، وتمتعتُ بشميم رمال دجلة وعطرها، يا رفيقة، واجهشتُ بالبكاء لما شممتها، وكبـّرتْ للرحمن حين عرفتني، وأشرقت نجوم بغداد مرة أخرى على دامس ذكرياتي التي اجترها حنينا، والتي لا يصدق البعض أنه حنين صادق، بل يتهمونه بأنه حنين منافق، "ترى إللي ما يصدك لا يصدك، وكل واحد أيلوكله حليبه"، ولكني أخشى أنهم "راح ويايا يسووها"، مثل مسلمي الأندلس الذين كانوا يقولون عن كل أمر مريب: "هذا أمر مشكوك فيه، مثل إسلام الشاعر اليهودي الاشبيلي، إبراهيم بن سهل الاندلسي". واليوم كم أخشي أن يقول عني الشامتون، المعلقون والمغتابون: "هذا أمر مشكوك فيه، مثل حنين سامي بن ابراهيم اليهودي، الذي طردناه في العصر الفرهودي!"
وبعد، فقد تأملت في حفنة الرمل التي تعطرت بأنفاس العراق وبلمسة يديك، في أيام الوفاق، وقلت والله لو حفنت هذه العراقية المخلصة حفنة في الأيام التي كانت فيها بغداد تعج بالمخبرين والشرطة السرية وأيام قصر النهاية التي ولت إلى غير رجعة، لاتهموها بأنها تختلس كنوز العراق، أو تقوم ببث لاسلكي لشبكة تجسس نصبها أعداء العراق، والتي تمتد إلى جزائر واق واق، ولو علموا أن هذه الحفنة سترسل إلى يهودي اجبر على هجرة العراق، حتى صاح: "دعوني فأرض الله واسعة، غدا أبدل أحبابا وأوطانا"، لكان هؤلاء الجلاوذة، قد دبجوا محاضر الاتهام ، وحكموا بالاعدام، على الجاسوسة الحسناء، التي تتعاون مع الأعداء، والذين يريدون تحليل تربة العراق لمعرفة سر غناها، ليسرقوا خيراتها وسر عظمتها، رغم المآسي والويلات التي حلت بها عبر التاريخ. فقد كان خيال هؤلاء "الحريصين على مستقبل العراق وأمن العراق" لا يضاهيه سوى صانعي ملحمة كلكامش وأساطير تموز إله الخصب، بعل عشتار أم الخيرات.
ومنذ أن وصلتني هذه الحفنة المباركة من تراب العراق، وأنا أعيد النظر فيها، فتشع بذكرى الجزرة المقمرة ولياليها، وعطر غيد العراق الفاتنات وشذى أغانيها، وألحان البلامجية الحيارى من حرارة وجد عشاقها، وأريج المسكوف من أسماكها، المتبلة بالكاري وعليها تلال البصل والطماطة والعنبة الهندية.
إذن، فهذه هي الرمال الذهبية، الذهبية حقا كما أتذكرها من طفولتي الباكرة، رقيقة ناعمة كلمسة أم حنون تداعب خد ولدها الوحيد، وتقبله
إذن فقد تحقق حلمي وأنا المس رمال بغداد، هذه الرمال التي درجت عليها في طفولتي، واحتضنتها وتمرغت في ذراتها مع أصدقائي وإخوتي، ونحن نلعب في الجزرة، وكم بنينا قصور الأماني من رمالها، واصطدنا صغار السمك، من أبو سويف وشبوط وبني، وأذا علقت سمكة جرية، وأكلها محرم على اليهود، الذين حرمت عليهم الطيبات، لأن ماكو ابجلدها أفلوس، واليهود ايحبون كل شي بالفلوس مطروس، كنا نلقيها الى الكلاب، لان شكلها منحوس، وحين علـّمت أخي ريمون، كيف يصطاد السمك بالشص، واصطدنا أول سمكة، طار عقلنا من الفرح، وصار يركض واحنا نركض وراه، مكيفين على سمجة طولها سنتمترين ونص، وكم انحدرنا على أمواج دجلة الهوينا، أمام شارع أبو النويص، وغرّفنا بمجذاف زورقنا الذي صنعه لنا الوالد، المحاسب في شركة "أندرو وير"، ونحن نتطلع الى الكهاوي، وفيها لاعبو الدومنة والطاولي، ونسمع الزبون الأريحي ينادي "وير"، حين يدفع عن طيب خاطر عن كل الجالسين، أو نسمع لعلعة صوت عزاوي، صاحب المقهى وهو ينادي: "عبد أسود جيب للأسطا عشرة جاي كسكين، باستكان عليه صورة الملك غازي و الملك فيصل والتاج لابسين، وعمر إلنا كم نرجيلة تتنها امخمر بالنورة زين". وكانت آخر نظرة وداع أرسلتها إلى "بلمي" (زورقي) الأخضر هي نظرة كسيرة، ودعت فيها طفولتي وأحلام صباي، وهو ملقى حسيرا خجلا على أرض المقهى، قرب تخت في المزاد العلني، الذي بيعت فيه أثاثنا بسعر أخو البلاش، أقيم بسرعة قرب تمثال السعدون، والاستقلاليون والقوميون بيهم يشتفون، قبل الهجرة، أو الطرد، أو تبادل السكان، كما كان العارفون بسياسة الأمور، على هواهم يقولون. وفي أيام العز، كان بلمي هذا يتهادى بنا "حدر حدر" بكبرياء وجلال، وفداء ليلى الليالي الخرد الغيد، ويا ترى! هل مثل ذلك الماضي يعود. في 20 أيار، 2008
العنوان الألكتروني: Moreh2007@hotmail.com
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وأذن خطي من المؤلف،
أ.د./ شموئيل (سامي) موريه
التعليقات
صدقت
ابو نور -انت العراقي الحقيقي دكتور سامي في وقت اصبح العراق محتكرا على الاعراب الذين لايتقنون سوى لعبة الموت وامتصاص الدماءتحت كل حرف من حروفك يرقص تاريخ وينبض وجع مقدسليس غريبا ايها الشقيق العراقي علينا ان نتوزع في المنافي في زمن الشعارات اليابسهوليس غريبا على الدوله التي تعفنت في رئتها القوميه ان تطرد حتى الذكرى منكم
واحسرتاه
ورد جميل -الا ليت ذلك الماضي الجميل الذي تتحدث عنه ايها الدكتور يعود فواحسرتنا عليه .انت تتكلم عن ماضي الاربعينات والخمسينات وانا اتحسر على ماضي الستينات والسبعينات العطر الجميل ..فياللحسرة فقد ضاعت بغداد التي تتحسر عليها مثلما ضاعت بغدادي التي اتحسر عليها وذهبت هباء منثورا على يد البعثيين قبلا ولاحقا على يد الارهابيين والاسلامويين الذي خلفو صدام على سدة العراق نعم يادكتور راح ذاك العراق الجميل المزدهي باناسه الذين كانوا يعطون للجزرة والبلم ولابو النويص معنى وحياة ودفقا ينحفر بالذاكرة وبغداد ماعادت بغداد والاماكن فقدت طعمها فياحسرتاه
عراقي حتى العظم
مازن لطيف -كل يوم يزداد يقيني انك يادكتور سامي جزء لايتجزء من تاريخ العراق.. أقرأ كلماتك واشعر ان العراق لايزال بخير وان اهله وناسه الحقيقيين لازالون بخير لكنهم خارج اطاره الجغرافي، تربطك بتراب العراق علاقة روحية في وقت ان العديد من ساسة العراق الان لايربهم اي شعور بالوطن .. هويتك يادكتور عراقية حد النخاع واتمنى ان يقتدى بك كل عراقي بنهر دجلة كما يلتصق الدكتور سامي العراقي رغم انوف كل التافيهن.
لعنه على ذاك الزمن
ahmed -كل التاريخ يؤكد ان العرب واليهود هم اولا عمومة وهم الاقرب لبعض, ودخلت السياسة والمصالح والدول وصارت العداوات , لست افهم لماذا هذا الكره المتبادل بين العرب واليهود , عن نفسي اقول لعن الله ذاك الزمن الردىء ...
لك كل الأحترام
سارة -سيعود ياعزيزنا استاذ شموئيل, وستعودون معنا وسنعيش سوية في محبة وسلام الخالق معنا جميعا ان شاء الله
عراقي قح واصيل
قاسم محمد -شكرا لمقالتك او مقامتك البغدادية فلقد اعادت لنا ايام خوالي مضت، وشكرا لتلك العراقية ،المرأة المخلصة لتربة وطنها لانها ارسلت لك حفنة من رمل الجزرة البغدادية، واعادتك بحنين جارف الى ايام الخير والعز ولابد ان تلك الايام ستعود وستنزاح الكوابيس السوداء عن العراق فالعراق مهد الحضارات وسيقى ابدا مصدر اشعاع للخير والحرية رغم ما يدور حوله وفيه من تخريب، شكرا لك ايها العراقي الاصيل واتمنى يوما ان تعود الى بغداد وشارع ابو النؤاس لترى تمثال ابو نؤاس. محبتي للعراق ولك ولكل من يخلص لوطنه لا لطائفته او حزبه او قوميته بل للوطن ككل بكل ما به من اطياف والوان
Your brother
Bashir Sabri Botani -شكرا جزیلا یا اخ سامي موریە علی مقالتك الجذابة... اخوك بشیر صبري بوتاني، كوردي من كوردستان یا یهود العراقلیهود العراق الشرفاء في جمیع أنحاء العالمیا ناس!الأفراح أفراحنا وأفراحكمالعید صار عدة أعیادأعیادنا وأعیادكمیا شرفاء!العراق عراقكمالعرب والأكراد والتركمان والكلدان والغجركلم أخوانكمأحنا دَّمَّرناشعورنا وشعوركم الیوم ما تنوصف بألف كتابجروحنا وجروحكم الیوم ما زالت عمیقةعلینا وعلیكم السلام یا أغلی الاحباب
العراقي رائع اين ما
محمد الخطيب -العراقي رائع من الدكتور سام موريه الى زهاء حديد المهندسة لمعمارية العراقية الى الدكتور ارا وزير الصحة لبرطاني العراقي الحالي ولقائمة لاتنتهي يجمعهم شئ واحد هو العقل العراقي المبدع