كتَّاب إيلاف

عن العنف المقدس.. مرة أخرى

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الحلقه الاولى (2 من 3) نتابع عرض الأفكار الرئيسية في كتاب "اكتمال كلاوزفيتز"، معتذرين عن صعوبة كلام وأفكار رينيه جيرار ـ لكن لا بأس من المعاناة، أحيانا، ومحاولة الخروج من دائرة "السهولة" والتسطيح الفكري التي تغمرنا جميع..

الديانة الحربية
التصعيد المتبادل للعنف والحق يساعدنا على فهم أفضل لقانون الهياج (freacute;neacute;sie - frenzy) المزدوج. ربما وصلنا إلى نقطة انعكاس في المنحنى الأوّليّ: نقطة "نهاية الأزمنة" حيث يتطابق العنف مع حقيقته (بدون التظاهر بعكسه). وربما كان هذا لفائدة تصالح البشر، كما اقترح باسكال. لكن هل يمكن أن نستنتج مع باسكال أن "العنف ليس له سوى عمر قصير، وذلك بأمر الله"؟ هل سينتصر الحق في هذا العالم؟ لا يوجد شيء أقل تأكيدا من هذا!
رأى نيتشه ما في المسيحية من تناقض راديكالي مع الأمل في التجديد. هو يفكر قبل كل شيء في موت الإله المسيحي. لكن في الطريق، يصبح هذا الموت قتلا بموجب آلام الصلب التي هي مكبوت يحاول أن يجد طريقه للعودة، إذ يقول (في كتاب "المعرفة المفرحة"): [الله مات! الله مات! ونحن الذين قتلناه! كيف يمكننا التصالح مع أنفسنا نحن القتلة بين القاتلين! أكثر ما امتلكه العالم قداسة وقوة حتى ذلك اليوم كان يدمي بفعل سكيننا ـ من سينقينا من هذا الدم؟؟]
الموت الأول لله لا يؤدي إلى استعادة المقدس والنظام الطقسي، ولكن إلى تحلل (deacute;composition) راديكالي وعصي على الشفاء لدرجة أن هوة هائلة انفتحت تحت أقدام الإنسان المعاصر. وهذه الهوة قد تنغلق فقط في النهاية عندما يعلن الموت الثاني (للمسيح). مأساة نيتشه أنه رأى، ولم يرد أن يفهم، هذا التقويض الذي يقوم به (الكتاب المقدس): العنف لا معنى له. ومع ذلك يحاول نيتشه أن يعطي لهذا العنف معنى، إذ يراهن على ديونيسوس (إله النشوة عند الإغريق).
لوفيناس (Levinas) يعطي للحب المكان السامي الذي يستحقه، ويرى أن الحرب لم تعد جوهر (essence) الإنسان. لذا يخرج الإنسان من هذا الجوهر الاختزالي في علاقته بالآخر، الذي هو بالفعل العدو الحي الذي يواجهه: ["فقط الكائن القادر على الحرب يمكنه الارتفاع إلى مستوى السلام. في الحرب، يرفض الكائن الانتماء إلى الكلي totaliteacute;))، رافضا الجماعة والقانون. (..) وهو يؤكد ذاته باعتبارها فوق الكلي؛ حيث يعرف كل فرد ذاته ليس خلال مكانته كجزء من الكلي، بل بذاته هو فقط"].
لوفيناس إذن يفكر في علاقة مع الآخر تتطهر من أي علاقة تبادلية (reacute;ciprociteacute;). وقد استخلص أن كل أونطولوجيا (مذهب يتجاهل الكائن البشري ليهتم بالكل ـ الدولة) هي حربية (بمعنى أنها تضحي بالإنسان على مذبح الكلي ـ الدولة) إذ تريد "فرض" السلام وليس الحرب؛ النظام وليس الفوضى؛ الأسطورة وليس كشف البواعث العنيفة للأسطورة. هذا الكشف للأكذوبة لا يمكن تقبله إلا بظهور المبارزة (النزال duel) ومن ثم الفعل التبادلي. هناك عنف في الكشف، يتناسب مع قدرتنا على عدم الرغبة في رؤية المحاكاة ولعبة الاختلافات الكاذبة.
هنا آخروية (إسخاطولوجية) عميقة: التوجه نحو الآخر هو أيضا تدمير للكليّ (الشمولي) عبر المبارزة. هل يقول المسيح شيئا آخر عندما يؤكد على أنه يجلب "الحرب" لا السلام؟
ذلك لإنه يكشف جوهر الكليّ (الشمولي) ويجعله في حالة هياج لانفضاحه. هكذا تكون محنة الحرب: الكشف عن الطبيعة العنفية بالأساس لكل أونطولوجيا. لكن ما لا يراه لوفيناس هو الطبيعة المحاكاتية للخصومة.
كلاوزفيتز، مُنظّرٌ الحرب، يرى أن المُهاجم هو الذي يريد السلام (إذ يريد التسلط وفرض السلام على طريقته ـ باكس رومانا....) بينما يريد المُدافعُ الحربَ (إذ يرفض التسلط) ـ ولذا سينتصر.
نموذج البطولة (مثلا حسب الأساطير الإغريقية) قد انتهى، ومحاولة إحيائه لا يمكن أن ينتج عنها سوى ما هو أسوأ، كما يرينا كلاوزفيتز. أما نموذج القداسة فقد سجله المسيح، مرة وإلى الأبد، في تاريخ البشر.
المتصارعون لا يريدون إدراك تشابههم المتزايد، ولذلك يلجئون إلى التصعيد إلى القصوي (monteacute;e aux extrecirc;mes, ascent to extremes) ويتعاركون حتى الموت لكي لا يروا هذا التشابه. لو اعترفوا بتشابههم، لاختفى حاجز الذات وظهر "الآخر".
نيتشه رأى أن التقليد الكتابي كان "أسوأ شيء يمكن أن يحدث للبشرية". معه حق! لأنه يقدم للإنسان إمكانية أن يتأله ويتخلى عن العنف. هذا التناقض (paradoxe) يطابق الحقيقة، وقد أخطأ نيتشه في رفضه رؤية ذلك. تدعونا المسيحية إلى محاكاة إله كليّ الصلاح، وتعلمنا أنه إذا لم نفعل سنتعرض لما هو أسوأ. لا يوجد حل آخر للمحاكاة إلا وجود نموذج طيب. لكن الإغريقيين لم يدعوا لمحاكاة الآلهة، وكانوا يضعون ديونيسوس عن بعد، حيث لا يجب الاقتراب منه إطلاقا. المسيح وحده يمكن الاقتراب منه. وهذا هو الفرق بينه وبين كل (الديانات) العتيقة (الأركائيك). العنف المطلق لا يفيد أولئك إلا في التطهير (catharsis) وفي استعادة التضحوي. لكن في عالم اختفى منه القتل المؤسس، ليس لنا خيار سوى محاكاة المسيح إلى التمام.
نحن لا نتجه بالضرورة نحو التصالح. لكن فكرة أن البشر ليس لديهم خلاص إلا عبر التصالح هي النقيض لفكرة التصعيد للقصوي. وهذا ما جعل باسكال يؤكد أن الحق يفشل في تهدئة العنف، بل لا يمكنه سوى أن يهيجه. الحق الذي يهيج العنف يرجع إلى القتل المؤسس (الذي لا يريد أحد رؤيته) ويفضحه مباشرة ليلغيه.
المشروع البطولي يظهر على خلفية فشل الوحي (في تحقيق ما سعى إليه)، ويفترض محاكاة الآخر والرغبة في الحصول على قوته والتسلط عليه. هذه المجابهة ستنتج بالضرورة تصعيدا، لأن الآخر، من جهته، ستتملكه تلك الرغبة في التسلط. المحاكاة الذكية الواعية شيء آخر. تأمَّل في تحول بولس وكيف يقول دائما: "كفوا عن محاكاة بعضكم البعض وعن التحارب" وأيضا: "تشبهوا بالمسيح الذي سيصلكم بالآب" (أو "لكم به قدوم إلى الآب..." بحسب رسالة أفسس). المسيح يستعيد المسافة مع المقدس، بينما تقربنا التبادلية بعضنا مع البعض لإنتاج ذلك المقدس المنحرف، الذي هو العنف. العنف في المجتمعات البدائية كان هو بذاته التقرب للإله. اليوم لم يعد هذا الإله يظهر لأن العنف لم يعد له مجال للتصريف والتنفيس (exutoire)، إذ حُرم من كبش الفداء. المنعطف الكارثي (الأبوكاليبتي)
ما هو هذا العنف الذي يستيقظ عندما يكشف المسيح للناس منطق علاقاتهم وخطورة التبادلية (reacute;ciprociteacute;)؟ إنه ليس ديونيسوس، بل الشيطان "ساقطا مثل برق" ـ ساقطا من تعاليه الكاذب. الشيطان ليس إله الظلام، بل هو اسمٌ لبنيان في حالة تحلل (deacute;composition)، سمَّاه بولس "الرئاسات والسلاطين". من هذا المنطلق، وطبقا للمسيحية، فإن العنف تمت تعريته وحُلت وثاقاته وظهر عقمه للجميع ولم يعد يؤسس شيئا، ولم يعد سوى حقد وضغينة يزداد غيظا أكثر فأكثر، بسبب انفضاح حقيقته.
يبيّن بولس هذا (في رسالته لأهل كولوسي): "المسيح قد جرَّد (عرَّى) الرئاسات" و "شهّرها جهارا". المسيح يثير الخصومة المحاكاتية، ويقبل أن يكون ضحيتها لكي يفضحها في أعين الجميع في كل مكان. لا يوجد كلي (شموليّ) ليس في مأمن من التأثر بهذه الانقسامات التي كانت في السابق محتواة بالتضحوي. الزمن الخطي الذي يدخلنا فيه المسيح (مقارنة بالزمن "الدائري" الذي اعتقد به البعض) يجعل من المستحيل هذه العودة الأبدية للآلهة، وتلك المصالحات على حساب الضحايا الأبرياء. وإذ حُرمنا من التضحية، نجد أننا في مواجهة بديل لا مفر منه: إما الاعتراف بحقيقة المسيحية، أو رفضها والمشاركة في التصعيد للقصوي.
لا نبيّ (حقيقي) (يُسمع إليه) في وطنه، لأنه لا وطن يريد أن يستمع إلى حقيقة عنفه الذاتي وسيبحث دائما عن وسيلة لتغطيته من أجل الحصول على السلام. وأفضل طرق الحصول على السلام هي بافتعال الحرب. ولذلك خضع المسيح واقترب من الناس وتسبب في ازدياد جنون عنفهم عن طريق تعريته. وبطريقة ما، لم يكن له أن ينجح.
لكننا نفهم الآن أن المسيحية التاريخية قد فشلت وأن النصوص الرؤوية تتحدث إلينا الآن أكثر من أي وقت مضى.
سفر الرؤيا يتناول كل الثوابت الإنسانية بصورة عكسية: لم يعد البشر هم الذين يصنعون الآلهة، بل إن الله قد جاء ليأخذ مكان الضحية على الصليب. الضحية هنا إلهية قبل تقديسها وتأليهها؛ أي إن الإلهي يسبق التقديس. الإله هو الذي يأتي ليستثير "القبور المبيضة" ويحطم كل النظام. ولهذا يقول بولس أن القوات والسلاطين قد صُلبت، وصارت مفضوحة في أعين الجميع.
إله الحرب أخذ أيام كلاوزفيتز شكل نابليون وبيّن أن ظهور التبادلية (reacute;ciprociteacute;) يؤدي إلى التصعيد للأقصى.
المسيح أظهر أن كل الثقافات (الحضارات) مبنية على العنف. رفض الإنصات لهذه الحقيقة الأساسية يعرضنا لعودة العتيق (الأركايك) الذي لن يكون له وجه ديونيسوس، كما تمنى نيتشه، بل سيكون على شكل دمار شامل. الفوضى الديونيسية كانت فوضى مؤسِّسه، لكن تلك التي تهددنا هي فوضى شاملة راديكالية. نحتاج لشجاعة لقولها، وأيضا لكي لا نخضع للانبهار بالعنف.
إذا تحارب البشر أكثر فأكثر، فهذا لأن هناك حقٌ يقترب، وعنفهم يعمل ضده ليعطله. المسيح هو ذلك الآخر الذي، في ضعفه وقابليته للهجوم (vulneacute;rabiliteacute;) ذاتها، يستثير جنون "النظام". في المجتمعات البدائية الصغيرة كان هذا الآخر هو الغريب الذي يجلب الفوضى والذي انتهى دائما بأن يصبح كبش فداء. الآن، المسيح هو الذي يمثل كل الضحايا الأبرياء، وتتسبب تأثيرات التصعيد للقصوي في استدعاء عودته.
لا أحد يريد أن يرى أو يفهم أن (تعبير) "عودة المسيح"، في منطق الرؤيا (الأبوكاليبتية)، لا يعني سوى نهاية العالم. فالناس ليس فقط لا يتعانقون معا، كما أراد هيجل الاعتقاد، بل هم أصبحوا قادرين على تدمير الكون.
الخطيئة هي التفكير في أنه يمكن أن يخرج شيء صالح من العنف؛ وهذا ما نفكر فيه كلنا لأننا محاكيون ونتمسك بالمبارزة.
الآية التوراتية التي تقرر القصاص بالموت رجما (سفر اللاويين) تبين، في قراءة أنثروبولوجية للقبائل العتيقة (أركائيك)، مجيء القانون: فقد أنتج العنف قانونا هو، مثلما فعلت التضحية (بكبش الفداء)، مجرد عنف أقل. ربما كان هذا هي الشيء الوحيد الذي يستطيعه المجتمع البشري؟! دائرتا التاريخ في الإنجيل
الاعتراف بالمحاكاة، وجمعها بين النقيضين (ambivalence)، هو الطريقة الوحيدة لإدراك ذاك التحول الذي مازال ممكنا: من التبادلية (reacute;ciprociteacute;) إلى العلاقة (relation)، ومن العدوى السلبية إلى نوع من العدوى الإيجابية. هذا ما يعنيه التشبه بالمسيح.
"هل يجد ابن الإنسان الإيمان عندما يعود؟" يضع الإنجيليون السؤال بطريقة مؤلمة ورؤوية (أبوكاليبتية). في الأناجيل الثلاثة الأولى نجد صورة لتكوين أساسي: تاريخ البشر يقع داخل إطار تاريخ الله. دائرة التاريخ (ونهايته الكارثية) محاطة بالدائرة الأخرى بصورة مغطاة كلغز وتنتهي بآلام الصلب. ويترك لنا لوقا (21)، بطريقة غامضة، أن نفهم أنه بعد ضياع أورشليم ستأتي "أزمنة الأمم". بين آلام المسيح ومجيء ملكوته (أو يوم الحساب الأخير ـ الدينونة)، تمتد الفترة الزمنية غير المحددة، التي هي زمننا ـ زمن العنف ورفض الإنصات والعمى المتزايد. زمن الأمم هو زمن التحلل التدريجي لكفاءة التضحوي.
لا يجب الخروج من التاريخ بل محاولة فهمه بصورة واقعية، باعتباره تسارعا نحو الأسوأ، بالمعنى الكارثي (أبوكاليبتي)، وأزعم أن النظرية المحاكاتية تحاول دفع المسيحية نحو معناها النهائي: اكتمالها بصورة ما.
لوقا رأى كفاءة العنف وفهم أن العنف الرديء يصالح الأعداء: بعد الصلب أصبح بيلاطس وهيرودس صديقين بعد عداء: المعنى هنا ليس تاريخيا بل أنثروبولوجي: فقد اشتركا معا في عملية الصلب. هناك إجماع على العنف الرديء ضد المسيح.
متى (24) يقول أننا في بداية الآلام: [حروب وأخبار حروب. مجاعات وزلازل. يسلمونكم ويقتلونكم وتكونوا مكروهين. أنبياء كذبة. البشارة لكل الناس]: وهو نص ذو واقعية هائلة: التصعيد للقصوي يؤدى إلى برودة المحبة عند كثيرين. باسكال عنده حق: هناك تركيز متبادل بين العنف والحق. وهذا ما يظهر لنا اليوم أمام أعيننا.
زمن الأمم يمكن تعريفه أيضا بالتراجع البطيء للديني بأشكاله وفقدان كل المرجعيات؛ فقط تساؤلات بدون أجوبة. هذا الانحراف الذي بلا نهاية، يؤدي لتناقص عدد المسيحيين في العالم. لكن هذا العدد المتناقص يجب عليه الصمود للنهاية برغم الأنبياء الكذبة ـ أي الذين يدَّعون بأنهم "يملكون الإله" (الذي يتحدثون باسمه) وبالتالي تتم محاكاتهم.
العنف أصبح عقيما ويؤدي للفوضى. الشيوعيون لجئوا بسرعة إلى العنف ورؤوا عجزه. وقد عاشت أوروبا قرونا من الحقد المحاكاتي، كما لعبت الإمبراطورية الجيرمانية المقدسة دور كبش الفداء لمدة ثلاثة قرون.
عبارة "يوم الرب يأتي كلص" (رسالة تسالونيكي 5) تتيح فهم لماذا قال المسيح أنه لم يأت ليجلب السلام، ذلك لأنه يعرف أنه ينهي الرغبة في إخفاء آلية العنف. وهو لا يأتي كمحارب، بل بالعكس. إذن لأن المسيح يحرم "الرئاسات والسلطات" من آلية كبش الفداء، فإنها ستتحطم؛ وسيضاعف الناس عنفهم ضد المسيح لأنهم يصبحون بصورة متزايدة عاجزين عن التنفيس عن صراعاتهم المحاكاتية.
الله، في ابنه، أخضع ذاته لعنف البشر، وأجبر العنف على الخروج لكي يفضحه جهارا. لهذا السبب التناقضي يبدو إله العهد القديم أكثر عنفا من آلهة القدماء ـ بينما هو على وجه التحديد بالعكس (إذ كان دائما في جانب الضحية)، بينما أخفى الإغريق ضحاياهم (كبش الفداء) وهذا هو الفرق. المزامير تكشف لنا أن العنفيين لا يتحدثون عن العنف، لكن "المسالمين" هم الذين يفعلون! فالوحي (الكتابي) يعري ما سبق أن أخفته الأساطير. من يقولون اليوم "سلام وأمان" هم ورثة أولئك العنفيين، الذين يستمرون في الإيمان بالأساطير ولا يرون عنفهم الذاتي!
يقول بولس (في رسالة تسالونيكي) أنه يجب الصبر، والخضوع للرئاسات والسلاطين ـ التي على أي حال ستُدمَّر. هذا الدمار سيأتي يوما بفعل تنامي إمبراطورية العنف، التي ضاعت منها أداة التنفيس التضحوي ولم تعد قادرة على فرض النظام إلا عبر تصعيد العنف: يجب المزيد من الضحايا لخلق نظام. لكن هذا النظام سيكون أكثر هشاشة.
القول بأن الفوضى قريبة لا يتناقض مع الرجاء، بل بالعكس. لكن هذا يجب قياسه مقارنة ببديل لا يترك أي فرصة إلا التدمير الشامل أو تحقيق الملكوت.
المذاهب التقدمية (progressisme) خرجت من قلب المسيحية، لكن خانتها. أما الوضعيون (positivistes) الذين يؤمنون بالعقل، فلا يريدون رؤية الكوارث الهائلة اليوم. لكن العقل لا يقدر على كل شيء! إنها العلاقات الإنسانية، والجزء اللاعقلاني الذي يشكلها، التي لها تداعيات لا شك فيها.
المسيحي هو الوحيد الذي يمكنه مواجهة حقيقة الخطيئة الأصلية لأنه الوحيد الذي يؤكد بقوة أن كل شيء قد بدأ بالقتل المؤسس وأن التضحية هي التي صنعت الإنسان. النماذج المحاكاتية
حضور الله يزداد مع انسحابه: تراجع الله هو إذن الانتقال، في يسوع المسيح، من التبادلية إلى العلاقة (reacute;ciprociteacute; -" relation). الإله الذي يمكننا أن نقتنيه هو إله يدمر. الإغريق لم يحاولوا أبدا محاكاة أي إله! وكان من الضروري انتظار المسيحية لكي تفرض هذه الرؤية المحاكاتية نفسها كوسيلة الخلاص الوحيدة. التجسد هو السبيل الوحيد لكي تواجه البشرية صمت الإله، وقد ساءل المسيح هذا الصمت على الصليب.
التشبه بالمسيح يعني ألا يَعرض أحد نفسه كنموذج للمحاكاة، بل عليه دائما الانمحاء أمام الآخر. ويعني إبطال كل منافسة وخصومة كما يعني، عبر الاحتفاظ بالآخرين على مسافة مناسبة، الخروج من الحلقة المحاكاتية المفرغة: لا محاكاة فيما بعد حتى لا يحاكينا أحد. الخلاص هو التشبه بالمسيح، أي محاكاة العلاقة التي تربطه مع الآب. قبل الصلب كان يكفي التعارك والدخول في تبادلية عنفية لكي يظهر الآلهة. لكن الذي قام به المسيح ينهينا عن تلك التبادلية، وبهذا لم تعد هناك حاجة للرهان على العنف.
نيتشه ترك نفسَه تُخطف في ذلك الصراع حتى الموت الذي يقوم به العنف ضد الحق. وقد قارن بين ديونيسوس والمصلوب، لكن الحقيقة التي أدركها هولدرلين أعمق، فقد حل المسيح محل ديونيسوس، وهكذا تعرض لعنف مضاعف. فديونيسوس هو العنف بينما المسيح هو السلام.
قال بولس: "تشبهوا بي كما أنا بالمسيح": هذه سلسلة عدم تمييز (indiffeacute;renciation) إيجابية، سلسلة الهوية. لكن خطر أضداد المسيح يتزايد لأن المسيح وحده يسمح لنا بالهروب من محاكاة البشر.
كفاءة عملية التضحية بكبش الفداء كانت نتيجة لكونها الوحيدة القادرة على الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي في المجتمعات العتيقة أركائيك. وكلما ازداد العنف كلما زاد التطهر (التخلص من المكبوت catharsis). كل طقس هو شيء من القتل المؤسس وكل قتل مؤسس هو شيء من الطقسي.
المسيح يغطس بنا في معرفة آليات المحاكاة. إنه (يبدو وكأنه) يقدم الحرب وليس السلام، الفوضى وليس النظام لأن كل نظام هو، بصورة ما، مشكوك فيه: فهو دائما ما يخفي حقيقة الثمن الذي دفع لتصالحنا. فضح هذه الحالة ("القبور المبيضة") يعني إعطاب الآلية التضحوية. الدين والأسطورة
هذا كتاب يغوص في حرب أساسية يقوم بها الحق ضد العنف. وقرائي قد لا يتبعونني في اعتقادي بأن المسيحية والتقليد الكتابي وحدهما يُتيحان فهم العالم الذي دخلناه. هناك حكمة محاكاتية ـ لا أزعم أني أجسدها ـ وعلينا جميعا البحث عنها في المسيحية. ولا يهم إذا كنا نعرف ذلك أم لا. إنه الصلب الذي يظهر لأعيننا آلية التضحوية عبر التاريخ. لأن "علامات الأزمنة" كلها تتجمع معا اليوم، لا يمكننا الاستمرار في جنون الخصومات المحاكاتية (قومية وأيديولوجية ودينية). المسيح قال أن المملكة (الملكوت) ليست من هذا العالم. يجب إذن قبول فكرة نهاية التاريخ: وحده هذا المنظور الإسخاطولوجي يعطي الأزمنة قيمتها الحقيقية.
فكرة كارثة نهاية العالم (الأبوكاليبس) جديدة على أوروبا والعالم، لأن الحق لا يمكن أن يظهر للبشر إلا عبر حجاب للكذب. ظهور استعجال الرسالة المسيحية أصبح ممكنا عبر "نزع وتجريد الرئاسات والسلاطين"، أو بمعنى آخر عبر انهيار الفكرة الإمبراطورية. لكن "الإمبراطورية" حاولت الحد من تصاعد العنف على طريقتها: فالمهاجم يريد السلام كما رأينا، لأنه يريد التسلط. الحق لن يظهر إذن إلا عندما تستنفذ هذه الكذبة نفسها الأخير.
المسيحية تُظهر الخاصية المحورية للدين في تكوين الحضارة. إنها بحق عودة بالديني إلى الرشد (deacute;mystification)، لأنها تفضح الخطأ الذي يبنى عليه الديني العتيق (أركائيك)؛ أي كفاءة آلية كبش الفداء. لكن من يعتقدون بهزيمة الديني يرونه يعيد الظهور كمنتج لتلك العودة (إلى الرشد) ذاتها: ولكنه منتج مشوه مفضوح. إنه هذا الفقد للتضحوي، النظام الوحيد العتيق لاحتواء العنف، هو الذي يجلب العنف بيننا.
يحتاج البشر أن يكونوا داخل الأكاذيب لكي يحصلوا على بعض السلام. هذا الاتفاق بين الكذب والسلام أساسي. الديني العادي، ذاك الذي يخلق الآلهة، هو الذي عنده كبش فداء. لكن بمجرد أن يؤدي الصلب (Passion) إلى تنبيه البشر أن الضحايا أبرياء، فإنهم (البشر) يتصارعون ـ وهذا بالضبط ما كان كبش الفداء يمنعهم من عمله. مع اختفاء الضحية، لم يعد هناك سوى التصارع المحاكاتي، وهو يتصاعد حتى القصوي. الصليب، بصورة ما، يؤدي إلى (تصاعد العنف) وستنتهي بتدمير الرئاسات والسلاطين.
إذا كان الملكوت هو السلام الكامل، فالسلام النسبي سيصبح ممكنا أقل فأقل، وذلك بسبب إمبراطورية العنف المتصاعدة. الإنسان لا يستطيع مواجهة حقيقته بدون أكاذيب، وهذا هو الحق المسيحي الذي لا يلين. التعبئة الكاملة الناشئة عن فقد التضحوي لا بد أن تؤدي لانفجار. فإنه النظام السياسي ـ الديني الذي يحفظنا: وتجريد البشر من هذا السلام البدائي وكل الأعذار التي يرتبط بها يؤدي إلى كارثة نهاية العالم (الأبوكاليبس).
*** وإلى مقال ثالث وأخير. adel.guindy@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف