الثقافة العراقية المدنية هي التي أبعدت شبح الحرب الأهلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وإذا كان هذا يحدث على النطاق الرسمي، فأن هناك ما هو "مشترك" يحدث على المستوى المدني- الشعبي، أي ظهور الأحزاب السياسية الجامعة لكل المكونات، النقابات والنوادي والجمعيات الأهلية، وسائل الإعلام بأنواعها، الجهود والأفعال المشتركة لتحقيق مطلب أو مطالب مشتركة، أو ما يسمى بالنضال المشترك، كالتظاهرات والثورات وحالات التمرد والحروب الخارجية، التي غالبا ما تصاحبها تضحيات مشتركة، تختلط فيها دماء "جميع" المواطنين. ولو أخذنا الحال العراقية، لوجدنا أن "الدولة" الوطنية الحديثة التي تأسست على أنقاض، أو بالأحرى، انطلاقا من وجود الولايات العثمانية الثلاث (الموصل، بغداد والبصرة)، لم تخلق "الأمة" العراقية. فهذه الأخيرة كانت سابقة لظهور الأولى. وكل ما فعلته الدولة الحديثة هو تأطير سياسي جديد للعلاقات السابقة، الموجودة أصلا. فبالإضافة (وليس بالضد من، أو محو ) للانتماءات الفرعية، المذهبية، والأثنية والعشائرية والمناطقية، الموجودة سابقا، ظهر انتماء أوسع ضم جميع هذه الانتماءات هو، الانتماء الوطني العراقي الأوسع والأشمل.
بالطبع، هذا الانتماء الوطني المشترك لم يظهر دفعة واحدة، أي بمجرد أن ظهرت الدولة العراقية الحديثة. و كان مؤسس الدولة الجديدة الملك فيصل الأول على حق عندما اشتكى قائلا في بدايات التأسيس: "إن العراق هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها".
نسأل: هل ظل ذاك التبعثر على حاله، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، أم تحول إلى بناء إسمنتي متماسك؟ هذا السؤال أجابت عليه الأحداث المأساوية التي وقعت منذ عام 2003. فقد أبدت جهات كثيرة، رسمية وأهلية، عشية سقوط النظام العراقي السابق ودخول القوات الأميركية في ذاك العام، قلقا وخوفا من اندلاع حرب أهلية طائفية. وكان لتلك المخاوف ما يبررها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجغرافيا الديموغرافية المتنوعة للمجتمع العراقي. لكن الحرب الأهلية لم تقع، أقله طوال الفترة التي سبقت تفجيرات سامراء. وحتى بعد اندلاع أعمال العنف الرهيبة التي عاشها العراق غب تلك التفجيرات، ووصول الأمور إلى حافة الحرب الأهلية، فأن العنف تراجع وعادت الأمور تميل تدريجيا إلى الهدوء وتعود إلى طبيعتها. بالطبع، كانت مخاوف الذين حذروا من وقوع حرب أهلية تنطلق من فرضيات نظرية ترى وجود حالات انتقام طائفية "نائمة" ستستيقظ حال سقوط النظام السابق. أي لم يدر بخلدهم، وهم يتوقعون نشوب حرب أهلية، حل الجيش والاستيلاء على سلاحه من قبل الأهالي، ولا انهيار المؤسسات الأمنية الرسمية بذاك الشكل الذي حدث، وما كانوا يتوقعون أن يدخل تنظيم القاعدة على خط الأحداث. ولو كانوا قد عرفوا بذلك لكانوا قد جزموا جزما قاطعا بوقوع تلك الحرب. إذن، لماذا لم تقع حرب أهلية طاحنة في العراق، على غرار الحروب الأهلية الدامية التي عرفتها بعض البلدان، رغم توفر كل عناصر قيامها، ولماذا عادت الأمور تميل إلى أوضاعها الهادئة السابقة؟
هناك عاملان رئيسيان حالا دون وقع الحرب الأهلية، أولهما النظام المدني والثقافة المدنية التي تشرب بها المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، والعامل الأخر هو موقف المرجعية الدينية الشيعية بشخص المرجع السيد علي السيستاني، وهو موقف له علاقة بالعامل الأول ويتناغم معه، كما سنوضح لاحقا.
هنا يجب أن نوضح أن صفة "المدنية" التي نعنيها في عنوان وثنايا هذا المقال، هي نفسها التي يسميها البعض ب"العلمانية"، لكنها في واقع الحال ليست هي العلمانية التي عرفتها أوربا. فالعلمانية الأوربية هي وليدة ظروف ومخاضات أوربية لم يمر بها العراق. أي أن النظام العلماني في أوربا لم يقم بين عشية وضحاها.ففي فرنسا، مثلا، كانت العلمانية ثمرة لصراع طويل، وتعرضت إلى تغيير وتحوير في التطبيق، إلى حد أن بعض الباحثين المختصين بهذه المسألة يتحدثون عن "علمانيات" فرنسية، في إشارة منهم إلى التطورات التي مرت بها العلمانية. وامتدت تلك الصراعات طوال قرن كامل، ولم تحصد الثمار إلا عام 1905 عندما شرع القانون الخاص بفصل الكنيسة عن الدولة وظهور ما يسميه البعض ب"العقد العلماني LA PACTE LAIQUE ". وهذا العقد العلماني لم يكن عقدا معنويا شفاهيا أو "عقد الجنتلمان"، بل أطرته أسس وصيغ قانونية محددة. وإذا كان النظام العلماني الأوربي يعتمد، فيما يخص الإطار القانوني المنظم له، وبطريقة مترابطة لا انفصال فيها، على ثلاث ثوابت هي، احترام وحرية الضمير والعبادة، ورفض أي نوع من أنواع هيمنة الدين على الدولة وعلى المجتمع المدني، وعلى المساواة بين جميع الأديان، وبين كل المعتقدات، بما في ذلك قناعة أن يعلن الفرد عن إلحاده، فأن النظام المدني العراقي الذي نتحدث عنه، مختلف كثيرا. فالدولة العراقية، مثلا، لم تكن كما في أوربا العلمانية، محايدة. إذ ظل الدستور العراقي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وقد ظلت المدرسة العراقية "المدنية" تدرس مادة الدين لتلاميذها، وظل رجال الدولة، حتى بصفتهم الرسمية، يمارسون تدينهم، ويقوم بعضهم بافتتاح دور العبادة، ويمنع الأجهار بالإفطار في شهر رمضان، وكان رجال الدين يمارسون بزيهم الديني المعتاد، التعليم في بعض المدارس الحكومية. ولهذا، فمن الصائب أن نطلق صفة "مدني" على النظام العراقي الذي قامت عليه الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها وحتى هذه الساعة، تمييزا له عن النظام الديني الذي ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية، كما تطالب به بعض الأحزاب الدينية السياسية.
وإذا كانت العلمانية الأوربية هي، في آن واحد، " تنظيم قانوني، وأسلوب لعيش مشترك"، كما يرى البعض، فأن النظام المدني العراقي سعى منذ تأسيسه لإيجاد صيغة لعيش مشترك بين جميع العراقيين، على أساس المواطنة، وليس على أساس آخر. وهذه الصيغة وجدت تطبيقا لها في النظام التعليمي، وظهور المدرسة الحكومية المجانية بمناهجها الموحدة وأبوابها المشرعة لجميع العراقيين. وقد تخرجت على امتداد عشرات السنين، أجيال عراقية من المدارس الحكومية وهي تردد نشيدا مدرسيا واحدا يتناوب في كتابة مفرداته مثقفون عراقيون من مختلف الطوائف ( كان تلاميذ المدارس الابتدائية ينشدون قصائد للزهاوي، مثلما ينشدون قصائد الشيخ محمد رضا الشبيبي، خصوصا قصيدته الشهيرة: أنتم متعتم بالسؤدد يا شباب اليوم أشياخ الغد)، وتؤدي التحية لراية واحدة هي الراية الوطنية العراقية. ومع المدرسة الحكومية "المدنية"، تأسس الجيش الوطني العراقي الذي فتح باب التطوع فيه للجميع، قبل أن تصبح الخدمة العسكرية إجبارية لجميع العراقيين. وفي خضم المعارك التي خاضها الجيش الوطني العراقي، مهما كان رأينا في عدالتها وشرعيتها، تعززت أواصر الرفقة العراقية المشتركة. وبالإضافة لهذه التكوينات، كان الجهاز البيروقراطي ينمو باضطراد ويضم في صفوفه أعداد غفيرة من العراقيين يخضعون كلهم لنظام واحد، وينتقلون في أحيان كثيرة، للعمل في مناطق جغرافية بعيدة عن مناطقهم الأصلية. قد يعترض أحد، هنا، فيقول أن النظام العراقي المدني لم يكن عادلا في كل الأوقات، ولاقت بعض مكونات المجتمع العراقي تهميشا لها بسببه.وهذا اعتراض صحيح، لكن الخطأ لا يقع على عاتق "علمانية" أو مدنية النظام، وإنما سببه التطبيق السياسي. وهناك فرق بين "العلمانية" كطريقة للتفريق بين الدين والدولة من جهة، وبين "السياسة" كطريقة في الحكم، من جهة أخرى. فالعلمانية لا تعني، بالضرورة، النظام الديمقراطي، مثلما لا تعني، بالضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية. فقد يكون الفرد علمانيا، وفي آن واحد، ديمقراطيا أو ليبراليا أو يساريا أو ديكتاتوريا أو حتى متدينا.
وفي موازاة النظام المدني العراقي الذي قامت على أساسه الدولة العراقية، ظهرت ثقافة مدنية عراقية، شملت الرواية والمسرح والأغنية والفنون التشكيلية والصحافة... الخ. وترافق ذلك مع ظهور أحزاب سياسية مدنية شرعت أبوابها لجميع العراقيين. وكان الهم "العراقي" هو الوحيد الشاغل لجميع هذه النشاطات. ومع تطور شبكة المواصلات وسهولة الاتصال بين مختلف المدن العراقية، وتطور العلاقات الاقتصادية، ونشوء وتطور دار الإذاعة العراقية التي بدأ صوتها يسمع في كل أنحاء العراق، انتشرت وتعززت ثقافة عراقية وطنية مشتركة.
وإذا كانت الثقافة، كما ذكرنا في البداية، لا تقتصر على ميدان واحد من ميادين الحياة، وإنما تشمل جميع الميادين، فأنه لا بد هنا أن نذكر دور الثقافة الدينية "الشعبية" في إشاعة ونشر وترسيخ الأفكار والمواقف "المدنية" العراقية الجامعة. فقد كان الكثير من الطقوس والفعاليات الدينية تتم ضمن أطار وطني عراقي شامل، رغم طابعها الديني الظاهر. ومن هذه الفعاليات ما يسمى بالعراق "المنبر الحسيني" والثقافة المتصلة به والمنبثقة عنه. إذ ظلت هذه الثقافة تحمل بعدا وطنيا عراقيا. ودائما ما كان يتم تصوير مأساة الحسين باعتبارها معركة بين الحق والباطل، أو بين الحرية وبين الطغيان. وكانت المواكب الحسينية مناسبات سنوية لحشد طاقات العراقيين ضد سياسة الحكومات العراقية المستبدة. ولم يعرف عن قراء المنبر الحسيني تعصبهم الديني، أو مطالبتهم بإقامة نظام سياسي إسلامي، مثلما لم يعرف عن المشاركين في حلقات الذكر والدروشة التي كانت تقام، أحيانا، في الشوارع العامة أراء دينية متطرفة ومتعصبة.
إما ما يخص المرجعية الدينية فلم يعرف عنها تعصبا وتطرفا دينيا، حتى في أوج الاقتتال الأهلي الذي شهده العراق بعد تفجيرات سامراء. ومن يتوقف مليا عند الفتاوى التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا بشخص السيد علي السيستاني، بخصوص الأحداث الدامية التي شهدها العراق خلال السنوات الخمس الماضيات، سواء من ناحية الأفكار والتوجهات أو حتى فيما يتعلق بالمفردات القاموسية التي صيغت بها تلك الفتاوى، يجد أنها أقرب إلى "الخطاب" المدني، وبعيدة عن خطاب القوى المتطرفة الدينية السياسية الشيعية والسنية. وعندما يؤكد مكتب السيد السيستاني، ردا على سؤال (ما هي رؤيتكم لمستقبل الحكم في العراق؟) بأن " المبدأ الذي يؤكد عليه سماحته هو أن الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين بلا تسلط للأجنبي، والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام في العراق بلا تدخل للأجانب"، فأن موقفا كهذا يتناغم ويلتقي مع التفكير المدني، ويعزز الثقافة المدنية القائمة، وهو مع الخيار الديمقراطي الذي ما برح العراقيون كلهم يطالبون به منذ الأيام الأولى لقيام الدولة العراقية، مثلما يعتبر رفضا لأفكار ولمواقف الجهات الدينية السياسية المتطرفة التي كادت أن تقود العراق إلى أتون حرب أهلية طاحنة.
والملاحظة الأخيرة التي تستحق الإشارة لها في نهاية هذه السطور هي الصحوة "المدنية" وعودة الوعي "المدني"، أو بالأحرى استيقاظ الضمير "المدني"، وتراجع (وليس اختفاء أو غياب) الأفكار والمواقف الدينية المتشددة، ليس في منطقة جغرافية واحدة، وإنما في جميع مناطق العراق، الحضرية منها والريفية، سواء عند السكان المدنيين أو عند قوى الإسلام السياسي التي روجت لأفكار التطرف الديني. ويكفي أن نعود إلى سنة أو سنتين إلى الوراء ونقرأ ما كان يقوله الزرقاوي حول "مسرحية الديمقراطية العفنة"، أو ما كان يقوله أحرون حول ضرورة قيام "الجمهورية العراقية الإسلامية الفيدرالية"، أو حتمية قيام نظام سياسي في العراق "على أساس تحكيم شريعة الله في الأرض" أو "تأسيس دولة الإمام المهدي" في العراق، حتى نجد كيف بدأ بريق تلك الشعارات يبهت يوما بعد آخر، وكيف أن الخطاب الوطني هو الذي بدأ من جديد يتصدر الواجهة.
التعليقات
السيستاني صمام امان
fatima -في احد المرات زار السيستاني العشرات من رؤساء العشار الشيعة جنوب بغداد وقالوا له ان التكفريين لايفرقون بين طفل وامراة واذا استمر الحال على هذا المنوال ولم تسمح لناباالرد فاننا سننتهي بالسيارات المفخخة والانتحاريين وهنا ساالهم السيستاني اتريدون ايضا تفخيخ السيارات ووضع القناابل في اسواق ومناطق السنة فقالوا اليس علينا رد الععدوان بمثله وهنا لال لهم هل من قام بالعدوان عليكم هم من ستتفجرونهم فقالوا لانعرفهم فقال لهم اي انكم حتما ستقتلون الكثير من ابرياء السنة القران يقول ولاتزر وازرة وزر اخرى وامامك علي قال لكم ااقدمواا على الله مظلومين ولاتقدموا عليه ظالمين وان من يقوم بتلك الجرائم ومثل بجثث الاابرياء انما يريد منكم ان تقموا بالرد الهمجي فتصبحوا مثله وهنا ستحقون اغراض اعداء العراق عليكم بالصر حتى وان قتلت انا او قتل نصفكم والكثي من الشيعة اتهوا الشسيد السيستاني من انه هو المتسبب في جريان دماء الشيعة لكن ثبت الان انه كان اعلى فهما من التكفيريين والصداميين والامريكان والموساد
معلومه
عادل عباس -لا يا استاذنا الفاضل ،الجيش العراقي عند تاسيسه لم يفتح باب التطوع لجميع العراقيين كما ذكرت ، حيث كانت الكليه العسكريه مغلقه بوجه ابناء الشيعه لغاية عام 1958 ، عند مجئ الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم ، حيث سمح لهم بدخول الكليه العسكريه . هناك اشتثناء واحد وهو المرحوم ناجي طالب ، رئيس الوزراء الاسبق ، حيث دخل الكليه المذكوره عن طريق الخطأ او ربما لانه ابن احد شيوخ عشائر الشيعه في الجنوب . يجب التنويه الى ان اب الزعيم الشهيد كان سنيا وامه شيعيه
مقالة ممتازة
محمود كامل -عزيزي استاذ حسينمقالتك متميزة ككل مقالاتك السابقة و لكن اعتقد ان ما ابعد شبح الحرب الاهلية هو الاجراءات الامنية المشددة من الجيش الامريكي و الجيش العراقي ان الاطراف المتصارعة في العراقية شيعية كانت ام سنية على اهبة الاستعداد لخوض الحرب الاهلية فكل منها لديه يقين انه يمكن ان يفوز بالحرب و ينتصرا نصرا ساحقا و سريعا ومن ثمة الانفراد بالحكم بعد القضاء على الاخر اما المجتمع المدني فهو مسكين لا حول و لا قوة فالثقافة المدنية لن تسيطيع الصمود يوما واحدا اما بطش الاطراف المتصارعة
ثلاث سلطات
عراقي -كل العالم تحكمه سلطتان.السلطه السياسيه والسلطه الدينيه فاذا فشل السياسي في حل المشكله انبرى لها الديني وحلها فان فشل الاثنان وقعت الحرب الاهليه كما جرى في لبنان مثلا .الا العراق استثناء فان فشل كل من السياسي والديني تقدم رؤساء القبائل وشيوخ العشائر لحلها .وهذا ما جنب العراق البلاء فالصحوات في غرب العراق كلها بفعل العشائر .وهذه الحقائق غائبه عن اذهان الكثير.