إقرأ، أم اسمع، باسم ربّك؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
العرب عن الحداثة. لقد بلغ بهم الأمر وضعًا صار يُخيّل فيه للمرء أن هذه الحداثة مُشتقّة من الحديث ذي الشّجون، أي الكلام الفاضي كما يُقال بلغة العامّة. ولمّا أنْ طالَ بهم، وعلى الأصحّ لَمّا أنْ طالنا، هذا الحديث بجميع تقليعاته، فقد أفضى بهم وبنا، وسبحان من له العلم، إلى العولمة. نعم، هكذا وبدون سابق إنذار انبرى الكتّاب العرب إلى الخوض في هذه المعمعمة العولميّة الّتي هي، مثلها في ذلك مثل الحداثة، لا ناقة لهم - لنا - فيها ولا جمل. فالحداثة والعولمة هما نتيجتان بارزتان مباشرتان للمجتمع الصّناعي المتطوّر في عالم ما بعد انهيار الأيديولوجيّات، كما يُشاع. والحقيقة أنّ الأيديولوجيّات لم تنهرْ إنّما بدّلت ملبوسها. ولمّا كان العربان ليسوا من هذا في شيء، فما شأنهم إذن بهذه التّقليعات؟ وللإجابة على هذا السؤال،
لا بدّ لنا أوّلاً من وضع بعض النّقاط على بعض الحروف المبهمات. لقد بدأت الدّعوة الإسلاميّة من القراءة: إقرأ باسم ربّك. وبكلمات أخرى، فالقراءة هي الدّعوة الأساس، هي القائم الّذي بنيت عليه الدّعوة. ولمّا كان أكثر من نصف العربان، وعلى الأقلّ في هذا الزّمان، من الأمّيّين، فحديث مثقّفيهم عن الحداثة، أو العولمة وما إلى ذلك من تقليعات غربيّة، ما هو إلاّ عظمة من بين عظام كثيرة يتلهّون بها في زمن شيوع وسائل الإعلام. غير أنّ نظرة بسيطة على وسائل الإعلام هذه، المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، تضعنا أمام مرآة صقيلة لا تخفي من تجاعيدنا الاجتماعيّة والثّقافيّة شيئًا. فها هي الفضائيّات العربيّة قد اشتقّت هي الأخرى نفسها، كعادة الأشقّاء في الاشتقاق، من الفضاء السّحيق، أي من الكلام الفاضي الّذي يسحقنا صباح مساء. لقد تحوّلت هذه الفضائيّات العربيّات إلى وسائل مسموعة ومرئيّة غايتها بعث الجهل في الأجيال العربيّة. أي أنّنا دخلنا بقدرة قادر، وفي الأساس بقدرة مُقتدرين مموّلين، عصرًا من الجاهليّة الجديدة، وبعبارة أخرى، جاهليّة حداثيّة معولمة في آن معًا.
غير أنّ الكتّاب العرب، ولكونهم بعيدين جدًّا عن أن يكونوا مستقلّين فكريًّا، فمن الصّعب عليهم أن يواجهوا هذه الحقائق الدّامغة، فهم يلهثون دومًا، "لهاثًا حداثيًّا"، وراء الأضواء في قنوات الفضاء. وقنوات المطبوعات الورقيّة والرّقميّة في ذلك سواء. فإلى أين المفرّ إذن؟
المفرّ من جميع هذه الأوباء العربيّة يُفضي بالمثقّفين العرب إلى الحداثة الغربيّة، وإلى تقليعاتها الّتي تتبدّل هناك كما تتبدّل الملابس الدّاخليّة. أمّا المتتبّع لحال الأجيال العربيّة النّاشئة فإنّه يلاحظ بروز مشاكل عويصة في فهم المقروء العربيّ. وقد سبق وقلنا، إنّ الدّعوة الإسلاميّة كانت بدأت بالقراءة. فما الّذي أوصلنا إلى
هذا الوضع؟ القضيّة، وبكلّ بساطة، هي أنّ اللّغة العربيّة وخلال تطوّر دام قرون طويلة، وبروز اللّهجات، المختلفة، أحيانًا في بلدة واحدة، لم تعد اللّغة العربيّة لغة أمّ عند العربيّ. وحين نقول اللّغة العربيّة فنقصد بهذا المصطلح هذه اللّغة المكتوبة الّتي تقرؤونها هنا في هذه الصّفحات أو في الكتب أوغيرها من المنشورات. هذه اللّغة المكتوبة لم تكن في يوم من الأيّام لغة أمّ لأيّ عربيّ من محيطه إلى خليجه. هذه اللّغة هي لغة مُكتَسَبة وشأنها في ذلك شأن أيّ لغة أجنبيّة أخرى.
ولهذا السّبب، لا تجد الشاب العربيّ يتحدّث بها، لا في الشّارع، لا في المدرسة ولا في البيت. إنّه يتعامل مع هذه اللّغة الفصيحة كما لو كانت لغة أجنبيّة كسائر اللّغات الأجنبيّات. إنّ ما تفعله وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، في هذا العصر الفضائي، ونحن نعرف تأثير هذه الوسائل على الأجيال النّاشئة، هو تكريس لهذا الوضع العربيّ المأساوي. أيّ أنّ جميع هذه الوسائل تقوم بعمليّة تكريس للّهجات، أي اللّغات العربيّة المختلفة على حساب لغة التّفكير المهمّة أي اللّغة العربيّة الفصحى. نحنُ نعلم أيضًا أنّ اللّهجات العربيّة، إضافةً إلى كونها عاملاً مركزيًّا للتّشرذم العربيّ، فإنّها، وهذا هو الأهمّ، تقف في طرف نقيض من القراءة. والسبب لذلك جليّ واضح، فهي غير مكتوبة، وإن كُتبت فإنّ العربيّ لا يفهمها في كلّ مكان يتواجد فيه. لذا نرى لزامًا علينا أن نقول
إنّ اللّهجات الدّارجة، لا يمكن بأي حال أن توصل إلى التّقدّم والتّطوّر، وذلك لفقرها، أي فقر مجالاتها بطبيعة الحال. كما بوسعنا أن نُضيف إلى ذلك قضيّة مهمّة، ربّما لم يلتفت إليها المختصّون بهذه القضايا. إنّ هذا العصر الفضائي الفاضي، يُشكّل بما يعرضه وينتجه من برامج هابطة وأفلام وغناء عربيّ سخيف، تكريسًا للهجات فقيرة لا يمكن أن ترقى إلى لغة التّفكير والإبداع العلمي والحضاري في جميع مجالات العلوم والحضارة البشريّة.
إنّه تكريسٌ لغريزة السّمع، على حساب غريزة البصر (ونعني بها هنا البصيرة) الّتي تتأتّى بالقراءة. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هذه الظّاهرة وبسبب الأميّة المتفشّية بين العربان قد طالت حتّى القرآن. نعم، فحتّى القرآن في هذا العصر العربيّ السّقيم تحوّل إلى الأسماع عبر أشرطة التّسجيل بدلاً عن القراءة والتّأمّل. فالعربيّ الآن في هذا العصر على العموم لا يقرأ القرآن بل هو يستمع إليه عبر تسجيلات صوتيّة للمقرئين الشّيوخ. وهكذا تحوّلت "إقرأ" بفعل هذه الـ"حداثة" العربيّة إلى "إسمع". وهذا يوصلنا إلى
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام. السّمع هو حالة لا إراديّة بخلاف القراءة الّتي تأتي بعد قرارٍ ذاتيّ مستقلّ نابع عن قصدٍ بفعل الشيء. السّماع قد يكون في خلفيّة أمور أخرى كثيرة، بينما القراءة هي دائمًا في المركز. غير أنّ هذه الطّريق هي الأخرى طريق إشكاليّة تتشعّب إلى مسارب ذات أبعاد تتعلّق بالپويطيقا العربيّة.
ما من شكّ في أنّ الجميع يعي تلك المعضلة القائمة في العربيّة والمتمثّلة في الفجوة القائمة بين النّص العربي على العموم، وبخاصّة في الشّعر، وبين اللّغة المحكيّة الدّارجة على ألسن العرب. فالنّصّ العربيّ يبدو دائمًا بعيدًا عن المتلقّي كما لو أنّه قابعٌ في برج عاجيّ. النّصوص العربيّة، والشّعريّة منها على وجه الخصوص، تتّسم بلغة بلاغيّة عالية وسبب ذلك هو هذه الهوّة القائمة بين الفصحى والعاميّة، فالكتابة بكلام فصيح هي دائمًا كتابة بلغة شبه أجنبيّة. وكما أنّ الدّارس للغة ما يظلّ حديثه مبنيًّا على النّحو والقواعد والمفردات القاموسيّة الّتي درسها لدى معلّميه، بينما لغة الخطاب الحياتي اليومي تظلّ أكثر ديناميّة وتجدّدًا. هكذا هي حال الكتابة الشّعريّة العربيّة على العموم، فهي دائمًا كتابة بلغة مدرسيّة. إنّها دائمًا لغة ذات جرس مختلف عن لغة الخطاب اليومي، ذات نحو مختلف وإعراب مختلف وفي أغلب الأحيان تستخدم مفردات قاموسيّة لا ينطقها الشّارع. لهذا السّبب، تظلّ هذه اللّغة بعيدة عن الشّارع، وبكلمات أخرى بعيدة عن جوهر التّجربة الّتي أريد لها أن تُصاغ شعرًا.
عادة، في اللّغات الحيّة المتطوّرة أنت تكتب ما تلفظه، وتلفظ ما تكتبه، غير أنّ حال اللّغة العربيّة هي هذه الإزدواجيّة الّتي تتنازعك بين الكلام المحكي والكلام المكتوب. إنّها عمليّة ترجمةٍ سرمديّة من لغة إلى لغة، من لغة محكيّة إلى لغة مكتوبة، هي في نهاية المطاف ترجمة من عالم إلى آخر. وهكذا، ليس غريبًا أنّنا نعيش، ولا أستثني نفسي من هذا التّشخيص، في حال من الإنفصام العاطفي، الّذي مردّه إلى هذا الفصام اللّغوي على ما أعتقد. والكتابات الأدبيّة العربيّة هي أفضل مثال على هذا الفصام. وأخيرًا، على فكرة، هذه
ملاحظة لمراهقي العروبة: لا الاستعمار ولا الصّهيونية مسؤولين عن هذه الحال العربيّة، بل حقيقة الأمر هي أنّ "دُودُهْ مِنْ عُودُهْ"، كما نقول في لهجتنا الجليليّة. أليس كذلك؟ والعقل وليّ التّوفيق!
***
التعليقات
عنوان المقال!!
حسن صالح -... عموماً إذا كانت الدول العربية تحتل الدرجات الدنيا في سلم محو الأمية فإن من غير المجدي للفضائيات إستخدام الفصحى، لأنها سوف يصعب على الملايين الأمية من فهمها و من ثم سوف يتجنبون متابعة برامجها. أعتقد أن الفضائيات محقة في إستخدام اللهجات المحلية ليس فقط في كلامها المحكي، بل أنصح العاملين عليها إستخدام اللهجات في خطابها المكتوب أيضاً. مع التحية لإيلاف و للأستاذ الكاتب.
هل تعلم
عربي اوربي -أخي الكاتب انت تعيب على العرب واللغه العربيه حالة الازدواج القائمه بين اللهجات المحكيه واللغه الفصحى وتعتبر هذا العيب عيب عربي!! هل من الممكن ان تخبرني على ماذا أستندت في تحديد عروبة هذه المشكله برايك؟؟أنا أعيش في اوربا وأتكلم والحمد لله العربيه لانها لغتي الأم والأنكليزيه والهولنديه والألمانيه والأسبانيه والتركيه وقليلا من الفارسيه وتعلمي لهذه اللغات جاء بعد سنين طويله قضيتها في هذه البلدان للعمل والدراسه وأقول لك انك غلطان في رأيك كل اللغات التي أتكلمها فيها لغه فصحى ولهجات محكيه والفرق بينهما عادة يكون كبير جدا وأحيانا تكون هناك لغه مرادفه هي اللغه الاكاديميه التي لا يفهمها الشخص العادي مع أنه يتكلم لغتها الاصليه وهي لغته الام وسأعطيك مثالا بسيطا اللغه الهولنديه يتكلمها سكان هولندا وجنوب افريقيا وجزء من بلجيكا وسورينام وبعض جزر البحر الكاريبي كل واحده من هده البلدان تتكلم عدة لهجات من الهولنديه الى الحد الذي تعتبر فيه بعض اللهجات لغه قائمه بذاتها مثل لهجة سكان برابانت في هولندا التي لا يفهمها الهولندي العادي مع أنها لهجه من لهجات اللغه الهولنديه وهولندا كلها بلد صغير جدا اي ان المناطق التي تتكلم هذه اللهجات المختلفه هي مناطق متقاربه جغرافيا أكثر بكثير من تقارب البلدان العربيه جغرافيا..ثانيا تتكلم كل هذه الدول الهولنديه الفصيحه عندما يتخاطب سكانها مع بعضهم ولكن وسائل الاعلام فيما عدا بلجيكا لا تلتزم بقواعد أستعمال الفصحى بشكل تام حيث تستعمل كما الفضائيات العربيه لهجه فصحى بلكنه محليه..لأن الفصحى ببساطه صعبه على المتلقين وتعمل حاجزا بين المرسل والمتلقي وهذا ما لا تريده وسائل الاعلام التي هي في النهايه شركات تجاريه تريد كسب أكبر عدد من المتلقين وحسب ما أرى فألمانيا فيها تفس الوضعيه وكذلك أسبانيا وتركيا ولهولندا والمانيا صفه أخرى من ناحية أستعمال اللغه أذ لديهما شئ أسمه اللغه الاكاديميه وهو غير الفصحى حيث ان طالب الجامعه في التخصصات العلميه يفاجأ بلغه جديده مختلفه تماما عن اللغه العاديه هي لغة الدراسه والمشكله ان الاختلاف تام ليس في المصطلحات فهذا شئ متوقع بل في حروف الجر و الافعال المستعمله و التعبيرات المستعمله وبعض ادوات التعريف...لذلك ما اعتبرته انت مشكله في اللغه العربيه وعيب يطالها هو ببساطه ما تشكو منه جميع اللغات في العصر الحالي عصر الانترنيت والعولمه...نصيح
نص جميل
أبو سفيان -نص الأستاذ مصالحة قرأته ولم أسمعه( في المستقبل ومع وجود برامج لتحويل النصوص إلى أصوات ديجيتال، يمكن سماعه أيضا، وتنغيمه وتلحينه بواسطة فونو شوب).. أحسنت على هذا النص الجيد، فاللغة الفصحى، رغم قياسيتها ( وقواعدها ) لاتزال عائق أمام أدب حقيقي وشعبي يلامس الوجدان بعيدا عن غطرسة وهيمنة( خطاب التورية المنافق)، حتى النكتة ، غير ممكنة بالفصحى .. لكن اللهجات أحتقرت ( قواعديا وقاموسيا) بسبب سطوة لغة المقدس . جرب يا أستاذ مصالحة أن تكتب لنا نصا بالعامية الجليلية لنرى مخرجا للأزمةأو بالعبرية الجيشية ( لغة اليهود البولندين، وهي شوربة لغوية من ستين لغة)
هل ستضيع هذه الرابطه
محمد العلي عراقي -رابطة اللغة من اقوى الروابط بين ابناء الشعب الواحد فلو قلنا ان العرب شعب واحد فليس هناك اقوى رابطة من لغتهم والعجب العجاب ان نرى الفضائيات العربية بل رجال السياسة ايضا يتعمدون الكلام بلغات محلية تجعل البرامج والافكار محصورة بجزء من هذا الشعب وتكريسا للتقسيم البغيض لهذه الامة وهذا الشعب المنكوب لذا من باب المصلحة العربية ادعوا ايلاف وبقوة الى ممارسة واجبها اتجاه لغتنا الام التي يبدو انها ستصبح في خبر كان امام اللهجات واللغات الاخرى التي يكتشف باحثوها كل حين كلمات تعزز من ثراءها الفكري والثقافي والسلام
ايتام رحبعام زئيفي
سجل انا عربي -سنظل نعتز بلغتنا العربية سنعيش عربا ونموت عربا وسنبعث يوم القيامة عربا ولا عزاء لايتام رحبعام زئيفي او ضعيفي في قول آخر ؟!!