وقود حيوي وغذاء بيولوجي، أي وجود للإنسان في العالم هذا؟
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الوجود في العالم نصيحة جميع الفلاسفة والمفكرين للإنسان منذ القدم، فأرسطو حكيم الإغريق حرص على الوجود الأشرف Bien Etre للإنسانية ولم يكفه نصيحة الحكام بضمان وجود المواطنين، واسبينوزا ربط حياة الكائنات بمبدأ الكوناتوس ِConatus وهو الرغبة في المحافظة على البقاء من خلال القدرات الجسدانية والمؤهلات الذهنية التي وهبتها الطبيعة- الله للناس، أما الفينومينولوجيا فهي الفكر المنفتح على عالم الحياة منذ هوسرل والمعترض على ضياع الإنسان في العالم والمعترف بتناهيه ووضعيته المقلقة مع هيدجر والداعي إلى الوجود في العالم باقتناص المعنى الذي تكتنزه التجربة المعيشة والانخراط في الفعل السياسي والخلق الفني مع مارلوبونتي وسارتر وريكور.
الوجود في العالم يعني فيما يعنيه الخروج عن تجربة الأنا أفكر الذاتي لكونها تجربة أنانة خالصة solipsisme ودعوة إلى الحضور مع الآخر وليس بدونه أو الوجود ضده وتعني كذلك التواجد بالجسد بلحمه ودمه وعظامه وليس التواجد من جهة الروح والنفس وكأن الإنسان لا يتحقق كانسان إلا عندما يتحول إلى طائر معلق متجردا من صفاته منخلعا عن ملابسه ومتخففا من كيفياته الأولى والثانية.
يلزم عن ذلك أن الإنسان كائن متجسد في العالم وأنه إذا أصاب جسده العطب يصبح وجوده في العالم مهددا ومعرضا للتخريب والانقراض ولن تسلم روحه من هذا التخريب حتى وأن غادرت ملكوت الأرض إلى ملكوت السماء فهي تغادره جريحة وممزقة وفاقدة للكرامة والحرية.
يتعطب الجسد عندما يكون ضحية المرض والجوع والحاجة غير المشبعة والقهر السياسي والزهدية المفرطة في مثاليتها وأسباب المرض عديدة هذه الأيام وقد تتراوح ويا للعجب بين سوء التغذية وما يسببه من فقر في الدم ونحافة والتخمة وما تسببه من بدانة وضغط وسكري وأمراض في القلب.
لكن الذي يمثل تحديا كبيرا ويهدد وجود الإنسان في العالم ويفقده البوصلة ويمنعه من التمتع بالحياة الكريمة والشعور بالشقاء والضياع هو تحول الغذاء من مادة طبيعية يقتصر تحويلها على القضم والطهي والهضم إلى مادة صناعية يمكن التحكم فيها جينيا والتصرف بشكل علمي تقني في مكوناتها مما يجعلها مجرد تركيبة بيولوجية تجمع بين ماهو عضوي وماهو كيميائي وتسمى الغذاء البيولوجي وقد يأتي حين من الدهر يكفي فيه البشر بحفنة من الأقراص مثل رواد الفضاء ويتخلون عن اللحوم والبيض والأطعمة والغلال والخضر والشربة وكذلك المراحيض التي يصرفون فيها فواضلهم وسيسحب فيورباخ لو عاد إلى الحياة رأيه الشهير: الإنسان حيوان آكل وتصبح قولة أنا أستهلك إذن أنا موجود عملة قديمة غير قابلة للصرف.
هذا الغذاء البيولوجي الذي يجري تصنيعه وتحضيره في المخابر ويطبق على المشاتل والبذور في أكبر الحقول والمساحات الزراعية والذي تحترم فيه قيم النجاعة والمردودية والإنتاجية ويعتني بالجانب الكمي والاستعراضي والاستهلاكي ولا يكترث بالأصالة Authenticiteacute;والنوعية Speacute;cificiteacute; والطبيعيةNaturaliteacute; والبرية يصعب على المعدة بغددها وأمعائها وإفرازاتها أن تهضمه وتستنفع ببروتينياته وفيتاميناته وخيراته الأخرى بل انه يسبب المتاعب والأذية للأعضاء الرئيسية للجسد وقد يؤدي بها إلى التقاعد المبكر والعطالة النسبية مما يستوجب الإنعاش أو الاستبدال.
علاوة على ذلك يتطلب هذا إعداد هذا الغذاء البيولوجي تقنية عالية ودقة تكنولوجية بالغة وحذار من الخلط بين الباكتيريا والفيروسات والعدوى والتعفنات الناتجة عن الكائنات المجهرية الحية التي مازلت غير معروفة والتي تسكن في ذلك العالم الحي شبه المصنع والمعلب، زد على ذلك أن كلفته المرتفعة بحيث تجعل ثمنه عاليا وغير متاح لجميع البشر بل للأغنياء المصنعين دون الفقراء المستهلكين.
إن وجبة الغذاء التقليدية التي ينظر إليها المرء على أنها طريق إلى الصحة والعافية ووسيلة للوقاية من المرض وللمحافظة على البقاء أصبحت مهددة من قبل أقراص الغذاء البيولوجي الذي ربما أتى اليوم ليحل محلها دون رجعة وان هذا الاكتساح التقني لمجال التغذية قد أصبح غاية المنى بالنسبة لكل دولة وشركة وعقل علمي مستنير ربحا للطاقة والوقت والمسافة والجهد. وآيتنا في ذلك أن تكلفة الغذاء في العالم المتقدم تنخفض نسبتها بالمقارنة مع تزايد الدخل السنوي للفرد، في حين أنها في الدول النامية ترتفع قيمتها بالمقارنة مع الناتج السنوي الذي يتدهور باستمرار وتضعف معه المقدرة الشرائية.
اللافت للنظر أن جميع الدول دخلت حلبة الصراع حول الغذاء والماء والطاقة وأن حبات القمح والذرة والأرز قد تحولت إلى أشد الأسلحة فتكا في هذه المعركة وأن بعض الدول أصبحت تمارس هيمنة على دول أخرى عندما احتكرت لنفسها تقنية التحكم الجيني في المزروعات وأجبرت البقية على التخلص من البذور الأصلية التي كانت بحوزتها وفرضت عليها عن طريق التصدير نوعية واحدة من البذور لا تزرع إلا مرة واحدة وبالتالي تجبرها على مواصلة التعامل معها في كل مرة وهو ما يؤدي إلى تبعية زراعية من طرف دول الأطراف إلى دول المركز.
بيد أن الأمر الذي زاد الوضعية سوء هو استعمال هذه المزروعات وقطاع الحبوب بشتى أنواعه والذي أهل لتوفير الغذاء للناس في إنتاج الطاقة البديلة بعد أن بدأت منابع النفط والفحم تجف وتنضب وبعد أن بدأت بعض الدول في استعمال احطياتيها ليبلغ ثمن برميل النفط أرقام قياسية وترتفع كلفة الطاقة الشمسية والهوائية والكهربائية إلى درجة عالية.
يسمى هذا المولود الاضطراري الجديد الوقود الحيوي أين يستخرج الايثانول من الكائنات الحية سواء النباتات أو الحيوانات وخاصة الذرة وفول الصوجا واللفت وقصب السكر وزيت النخيل والزيتونوهو بديل عن الوقود التقليدي الذي يعتمد على النفط أو الطاقة النووية وثمنه معقول وخال من الغازات الملوثة للبيئة والمؤذية للمحيط وقد جعل ليساعد الإنسان على الوجود في العالم بطريقة حقيقية لأنه سيساعده على التحرك بسرعة ويوفر له الرفاهة اللازمة زمن البرد والحرارة ويعفيه من المشقة والإجهاد أثناء العمل وفي وقت الفراغ.
لذلك يعتقد مروجو هذا الوقود أنه وقود نظيف ينتج بعد تحويل المواد الحيوية مثل شحوم حيوانية ومحاصيل زراعية ومخلفات الحيوانات كالروث وفضلات النباتات كنشارة الخشب والقش إلى ايثانول كحولي أو ديزل عضوي وهما بديلان عن النفط في الإنارة وتشغيل المحركات.
غير أن ظهور هذا الوقود العضوي سبب الكثير من الاحراجات الاتيقية منها أنه تحول إلى سبب رئيسي لانتشار الفقر في العالم وندرة الغذاء وارتفاع أسعاره فقد ذكرت أحد المنظمات الخيرية البريطانية تسمى أكسفام أن زيادة إنتاج الوقود الحيوي تؤدي إلى ظهور ثلاثين مليون فقير في العالم عاجز عن توفير لقمة العيش بسبب استخدام المحاصيل والمنتجات الزراعية في صناعة هذه الطاقة المتجددة، من جهة ثانية أدى استعمال بعض الأشجار وخاصة النخيل في إنتاج وقود الديزل إلى تدمير الغابات والتقليص من الثروة النباتية والمساحة الخضراء على الأرض مما يعني تصحير الوجود عوض الإقامة في العالم، كما أن بعض الشركات استغلت الظرفية واحتكرت لنفسها حق ملكية التصنيع والبيع لهذا الوقود الحيوي مما أنت هوة جديدة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة تضاف إلى الهوة الرقمية الموجودة. من جهة أخرى يمكن أن تسبب ندرة الوقود والغذاء تفجر نزاعات وحروب دامية بين الدول والشعوب والأفراد خاصة وأن الأمر يتعلق هذه المرة بالوسائل الضرورية للبقاء.
إنسان اليوم يجد نفسه بين خيارين هما أن يوفر لنفسه الغذاء أو يمني نفسه بقسط من الطاقة ولكن المعضلة أن الطاقة يتم إنتاجها باستخدام محاصيل الزراعة وبالتالي تقلل من فرص توفر الغذاء الكافي والزهيد في الأسواق ولجميع الناس.
عندئذ يكون هذا الإنسان في حيرة من أمره ويتعذر عليه مجددا الوجود في العالم فهو مهدد في خبزه اليومي الذي يستعمل لإنتاج الوقود الحيوي من أجل سلامة البيئة ولكن إنتاج هذا الوقود يؤدي إلى تخريب للثروة الغابية الخضراء وتفقير لمصادر الغذاء.
الحل ليس في العودة إلى حالة الطبيعة ورفض الطاقة البديلة وإيقاف عملية إنتاج الوقود الحيوي وليس في الاستغناء عن الغذاء البيولوجي بل في التفكير في تطوير الوسائل والآليات التي تحمي الإنسان وتحفظ صحته وتمكينه من القدرة المادية على اقتناء هذه المعدات مع الحرص على تنقية المحيط وسلامة البيئة لأن الأرض هي أمنا الكبيرة وحسن السكن فيها هي أغلى الأمنيات.
غير أن التوجه نحو الثورة الخضراء في عالم التقانة الطاقية هو أمر لا بديل عنه من جهة إذا ما أرادت البشرية إنزال النفط من عرشه الاقتصادي ومن جهة ثانية قد يسبب التضحية بالغذاء من أجل توفير الطاقة البديلة إبادة جماعية ويهدد النوع البشري بالانقراض، فأي التوجهين أصح للوجود في العالم بالنسبة لإنسان العصر المرآوي؟ وماذا سيكون هذا الإنسان الذي يرفه عن نفسه بلقمة عيشه ويتغذى بطريقة بيولوجية قريبة من الصناعة بعيدة عن الطبيعة؟
كاتب فلسفي
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف