كتَّاب إيلاف

الانتخابات الأمريكية وتكلفة الرعاية الصحية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان من أهم مميزات الدولة العصرية، هو توفيرها الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية، بكفاءة ومساواة، لجميع مواطنيها، من خلال خدمات صحية وطنية أو ضمان صحي. وتعتبر اليابان والدول الأوربية الغربية الرعاية الصحية مسئولية حكومية، بينما تعتبرها دول أخرى، كالولايات المتحدة، مسئولية حرية شخصية يشتري المواطن التأمين الخاص الذي يناسبه أو يحصل عليه من مخصصات عمله. ومع تطور التكنولوجية الطبية وتقدم العلاجات الدوائية، ارتفعت تكلفة الفحوصات والعلاجات الطبية بشكل صاروخي، مما أدى لزيادة أسعار التأمين الصحي الخاص لحد أصبح سبعة وأربعين مليون مواطن أمريكي محرومين من هذا التأمين. وقد حاول الرئيس السابق بيل كلنتون، في التسعينات، إصلاح النظام الصحي في بلاده، ولكنه حورب بشراسة من لوبي الشركات العملاقة. وقد عادت الانتخابات الأمريكية في هذا العام لحلم إصلاحات الرعاية الصحية من جديد. وتحدد خطة السناتور باراك أوباما بتوفير تأمين صحي للمواطنين، في تغطية تأمينية للخدمات الطبية الضرورية الوقائية والعلاجية، كما يقترح إنشاء مؤسسة حكومية للتأمين الصحي، مسئوليتها التأكد من توفر التأمين الصحي الشامل لمن يريده، وتنظيم سوق التأمين الصحي بتشريعات لتوفرها بأسعار مناسبة. بينما تتلخص خطة السناتور جون ماكين بعدم التدخل الحكومي في تأمين الرعاية الصحية، وإعطاء المواطن حرية اختيار تأمينه الخاص، ولكنه سيعمل على تنظيم سوق التأمين، وسيساعد الموطنين بإعانة مالية بحيث يستطيع كل مواطن بالاشتراك. وتبدو للوهلة الأولى بأن هذه الخطط مغرية، ولكن شياطينها في التفاصيل، فمثلا ما هو تعريف الرعاية الوقائية والعلاجية الضرورية؟ فكلمة الضرورية يمكن أن تفسرها شركات التأمين كما تشاء، فتحرم المرضى من الكثير من العلاجات المزمنة والمكلفة. والسؤال المحير: هل يستطيع التأمين الخاص توفير الرعاية الوقائية؟ فمشكلة العالم اليوم سوء التغذية بين نحافة الفقر وبدانة زيادة الوزن، فقد ارتفعت نسب زيادة الوزن والبدانة لأكثر من 50% بين مواطني الكثير من الدول المتقدمة، والتي تسبب معظم الأمراض المزمنة الشائعة، والتي تحتاج علاجاتها الدوائية والجراحية لميزانيات صحية هائلة.
وقد نشرت صحيفة اليابان تايمز الصادرة في الحادي والثلاثين أغسطس من هذا العام مقالا بعنوان، صعود السياسية الخيالية في الولايات المتحدة، للاقتصادي الأمريكي روبرت صميولصون، يعلق فيه على الخطط المطروحة من مرشحي الرئاسة الأمريكية بالقول:"بكل حق، نحتاج لنقاش شرس حول مسئولية الحكومة الأمريكية. ماذا تفعله، لمن، ولماذا؟ وما نستطيع تحمله من المصاريف؟ ومن سيدفعها؟ هذه الأسئلة تحتاج لحملة انتخابية جادة مشغولة بالمستقبل. وبدل ذلك، نجد أمامنا حرب مزايدة بين المرشحين، لنرى من سيوعد برزمة مغرية من برامج الصرف وخفض الضرائب. ونحن نراقب مؤتمر الحزبين، يجب أن نلاحظ بأننا دخلنا عصر سياسة الأحلام، كأحلام كرة القدم والبيسبول. سياسة الأحلام هي لعبة تجعلنا نعتقد بأن هدفها أشغال اللاعبين، وزيادة الفائزين حماسا. فمرشحي الرئاسة يطرحان شعارات وبرامج مسرة، ولكنها منفصلة عن التحديات الحقيقة التي سيوجهونها في إدارتهم القادمة. فعجز الميزانية الأمريكية خلال الاثنين والأربعين عاما، من إجمالي السبعة والأربعين عاما الماضية، سببها مفاضلة السياسيين زيادة الصرف على زيادة الضرائب. وسيزداد هذا الصرف بزيادة عدد المسنين وحاجاتهم لضمانات تقاعدهم، والصرف على رعايتهم الصحية، والتي تكلف إلفين وتسعمائة مليار دولار سنويا، والتي تمثل خمسي الميزانية الفدرالية في عام 2008." (إنتهى) تصور عزيزي القارئ تصرف الحكومة الفيدرالية حوالي ثلاثة تريليون دولار لضمانات التقاعد والرعاية الصحية للمسنين، ومع ذلك هناك سبعة وأربعين مليون مواطن محروم من التأمين الصحي، ويحاول مرشحي الحزبين للرئاسة طرح حلول والتي يعتقد رجال الاقتصاد الأمريكي بأنها أحلام خيالية.
فالمشكلة التي تواجه الولايات المتحدة هي ارتفاع نسب المتقاعدين، والذين يحتاجون لمعاشات تقاعدية ورعاية صحية مكلفة، والتي تتضاعف تكلفتها لخمسة أضعاف في سن الشيخوخة. كما ترتفع نسب البدانة وزيادة الوزن لحوالي نصف السكان، والتي تكون سببا هاما لداء السكري وزيادة وارتفاع الضغط وجلطة القلب والشلل الدماغي والسرطان. ولتوفير التأمين الصحي لجميع مواطني الولايات المتحدة، يؤكد الخبراء الأمريكيون الحاجة لخفض تكلفة الرعاية الصحية، وذلك بخفض نسب الأمراض المزمنة بالرعاية الوقاية، ووقف التبذير، والتقشف في طرق التشخيص والعلاج. ومع أن فلسفة الوقاية خير من العلاج فلسفة مجربة وناجحة، ولكن السؤال: هل ممكن التقشف في طرق التشخيص والعلاج بدون التأثير على نجاح النتائج العلاجية؟
لقد قام فريق من الباحثين بكلية الطب بولاية دارموث بدراسة نشرت في مجلة الطب الباطني الأمريكية في عام 2006 تناقش العلاقة بين الصرف على الرعاية الصحية، ورضا المرضى، وكفاءة الرعاية ونتائجها. تتفاوت نسب الصرف على الرعاية الصحية في مختلف الولايات الأمريكية، فمثلا، معدل تكلفة الرعاية الصحية السنوية للفرد في كل من ولايتي بورتلاند واورغين تصل لخمسة الآلف دولار، بينما ترتفع لعشرة الآلف في كل من ولايتي فلوريدا وميامي. وقد أكدت البروفيسورة برندا سيرفيش رئيسة فريق البحث بالقول: "لقد أثبتت الأبحاث بأن الاختلاف الكبير في الصرف في المناطق المختلفة من الولايات المتحدة ليست متعلقة بشدة الأمراض، وقد قمنا بهذه الدراسة للجواب على سؤال هام: هل هذا الاختلاف مرتبط باختلاف قرارات الأطباء في طرق تشخيصهم وعلاجهم." فقام فريق البحث بدراسة إجابات 5490 طبيب عائلة، لاستطلاع عرض فيه حالات مرضية مختلفة، وطلب من هؤلاء الأطباء وصف الفحوصات والعلاجات والتحويلات المتخصصة التي يقترحونها. وقد صنفت المناطق التي يمارس فيها الأطباء لولايات قليلة الصرف والتي تصرف معدل 4911 دولار سنويا للفرد، وولايات عالية الصرف والتي تصرف معدل 8325 دولار سنويا للفرد. فوجد الباحثون بأن المناطق العالية الصرف يقومون أطبائها بطلب فحوصات كثيرة ويوصفون علاجات متعددة، ويقومون بتحويلات متخصصة مختلفة، وهي أكثر بكثير من ما يقوم به أطباء المناطق القليلة الصرف. وعرض الباحثون أمثلة لذلك، كمريض في الخامسة والثلاثين من العمر ويشتكي من ألم ظهر مزمن وضعف في القدم بعد حمل ثقيل، فارتفعت نسب اقتراح إجراء فحص التصوير المقطعي المغناطيسي إلى 82% من الحالات بين أطباء المناطق العالية الصرف، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 69% بين أطباء المناطق القليلة الصرف. والأهم من كل ذلك هو أنه قد أثبتت الأبحاث الطبية بأن زيادة عدد الفحوصات والعلاجات لم تترافق بتقدم مستوى الرعاية الصحية ولا حتى برضا المرضى عنها، كما لم تؤدي لنتائج علاجية أفضل، بل بالعكس كانت نتائجها نسبيا مخيبة للآمال. وقد علق البروفيسور أليوت فيشر على نتائج هذه الدراسة بالقول: "يمكن أن تكون الرعاية الصحية الأمريكية أفضل وأكثر تقدما وبنتائج منافسة، وستقل تكاليفها بحوالي 30%، لو أن الأطباء التزموا بالطريقة المحافظة التي يتبعونها الأطباء في المناطق القلية الصرف." تلاحظ عزيزي القارئ بأن كثرة الفحوصات وتعدد العلاجات لا تؤدي لنتائج علاجية منافسة، بل العكس، تزيد المضاعفات الجانبية للفحوصات والعلاجات الغير ضرورية، وترفع نسب عدد المرضى، وتطيل قائمة الانتظار، وتقلل كفاءة الأداء، وتحرم الكثيرين من التشخيص المبكر، بالإضافة لزيادة التكلفة. بينما تؤدي دقة القصة السريرية والفحص، لتشخيص مبدئي، ليؤكد بفحوصات محددة. كما أن الاهتمام بالوقاية يقلل نسب الأمراض المزمنة، والتي تعاني من فحوصاتها وعلاجاتها الدوائية والجراحية ميزانيات الدول. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سنستفيد من هذه التجربة، للاهتمام بالرعاية الصحية الوقائية، وتجنب التبذير في الفحوصات والعلاجات الغير ضرورية، للتوفير رعاية صحية شاملة بكفاءة عالية، للمحافظة على الإنتاجية والسيطرة على الارتفاع الصاروخي للرعاية العلاجية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف