كتَّاب إيلاف

هل بالإمكان إطراء أمريكا دون الخشية من تهمة العمالة؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في عام 1934 ألقى الكاتب البريطاني برنارد شو كلمة في اجتماع عقد في بداية العام نفسه وكان مكرسا لمناقشة أعمال لينين. ومما قاله شو في كلمته: "أيها الرفاق البروليتاريين! أنا شخصيا مثل لينين، أنا ثوري. (...) إذا سقطت التجربة التي شيدها لينين فأن حضارة ستسقط، مثلما سقطت حضارات عديدة قبلها، ولو أن المستقبل سيصبح هو نفسه الذي تنبأ به لينين، فعلينا إذن أن نتطلع إلى المستقبل، فرحين ودون خوف (نص الخطاب نشر بعنوان Lenin Extempore في مجلة Left Review في عددها الصادر في كانون الأول عام 1934." وفي فرنسا كان شاعرها الأشهر أراغون يعلن البشارة: أيها الرفاق، ها هو الماضي يتحول إلى عصف مأكول
أينما خفقت راياتكم العظيمة
دعونا نكنس الحطام القديم وننقله
بعربة أيادينا
إنهم يصوبون المدافع ضدنا
ولكن رغم الرصاص والسجون
ها هي سماء الأغنياء تتهاوى
وشمسهم تبدأ بالأفول لن نتوقف في هذه السطور عند مبالغة شو في اعتباره التجربة الاشتراكية ك"حضارة civilization" جديدة. فالنظام الاشتراكي في روسيا وبعد ذلك في بلدان أوربية أخرى، لم يكن حضارة جديدة قائمة بذاتها، بل هو لم يخلق داخل فراغ حضاري، وإنما كان امتدادا لحضارة أوربية قائمة، ولكن برؤيا أيديولوجية جديدة. والدليل هو، عندما سقط النظام الاشتراكي، أو عندما سقطت الأيديولوجيا، فأن الحضارة الأوربية التي ظهرت من رحمها الايدولوجيا، لم تسقط، وظلت قائمة في الكثير من مفرداتها، بل في كل مفرداتها.
ولكن، إذا كان شو قد بالغ في هذه النقطة، فأنه لم يبالغ أبدا عندما رأى أن ثورة أكتوبر الروسية قد شطرت تاريخ البشرية إلى شطرين، ما قبلها وما بعدها، ودشنت لحقبة تاريخية تختلف كثيرا عن تلك الحقب التي عاشتها أوربا، والعالم كله، قبل ذلك، وأذنت ببدء أصطفافات دولية، جديدة تماما على ما سبقها.
وعندما كان شو يعلن أنه "ثوري" مثل لينين فأنه لم يحاب أحدا، وما كان يستعطف ود الآخرين. شو كان يعبر، صادقا، عن روح تلك الحقبة التاريخية الجديدة. وإذا كان شو الطوباوي قد أعلن بعض "الشك" وهو يستخدم مفردة "إذا"، في حديثه عن المستقبل الذي "تنبأ" به لينين، فأن أراغون الشيوعي قد حسم الأمر تماما وأعلن، متيقنا، أن شمس العالم القديم قد أفلت. إنها أجواء التفاؤل العارم الأممي التي خلقتها ثورة أكتوبر في أنحاء العالم المختلفة، وأجواء بداية حقبة تاريخية قسمت العالم إلى "خير" اشتراكي، قادم لا محال، و "شر" رأسمالي يسير في طريق الزوال الحتمي. فكيف سارت الأمور منذ بداية القرن الماضي وحتى نهايته؟ لقد بدأ القرن العشرون بحرب وثورة وانتهى بحرب وثورة. الحرب التي بدأ بها هي، الحرب العالمية الأولى، والثورة هي، ثورة أكتوبر الروسية. إما الثورة التي أختتم بها ذاك القرن فقد كانت، الثورة المضادة لتلك الثورة، أي انهيار التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان حلف وارشو، وتوجت بانهيار الجدار "الأيديولوجي" الذي قسم برلين، وبالتالي العائلة الألمانية الواحدة إلى قسمين.
والحرب التي أختتم بها القرن العشرين كانت حرب "التحالف" التي قادتها أميركا لإخراج القوات العراقية من الكويت. وبين بداية القرن ونهايته حدثت تطورات نوعية عميقة. فقد كانت الحرب العالمية الأولى الحلقة الأخيرة في سلسلة تلك الحروب التقليدية المتشابهة التي عرفتها أوربا والعالم، أي تلك الحروب التي كانت تحدث إما بسبب تنافس إمبراطوري، أو بسبب خلافات دينية، أو خلافات مذهبية دينية (لا ننسى المذابح المتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك)، أو بسبب النزاع حول أحقية أراضي متنازع عليها. وكان مؤتمر فرساي الذي عقده الحلفاء عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى (عام 1919)، أخر تجمع دولي تتخذ قراراته وفقا لمنطق تلك الحروب. فبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، إثر الهدنة التي وقعها الاتحاديون مع الحلفاء عام 1918، واصل الحلفاء تطبيق شعار "الويل للمغلوب"، فأصروا على "عصر ألمانيا كما تعصر الليمونة لاستخراج عصيرها"، رغم أن ألمانيا دولة أوربية مسيحية، والحلفاء أوربيون مسيحيون مثلها.
وبالضد من تفكير ومنطق الحلفاء المجتمعين في مؤتمر فرساي، كانت الثورة الروسية تؤسس لنمط جديد من التفكير، وتدشن لممارسة سياسية جديدة كانا بمثابة قطيعة مع العالم "القديم". وتجسدت تلك القطيعة في أقدام قائد الثورة، لينين، على نشر تفاصيل الاتفاق السري البريطاني الفرنسي الروسي الموقع عام 1916، وكذلك في النداء العام الذي وجهه لشعوب الشرق، وأيضا، في الرسالة التي بعث بها لينين في مارس 1919 إلى الزعيم المصري، سعد زغلول، وعبر فيها عن دعمه للثورة المصرية. ومثلما كانت الحرب العالمية الأولى ومؤتمر فرساي مؤشرين لانتهاء حقبة تاريخية "قديمة" أو، إذا استخدمنا تعبير برنارد شو، "حضارة" قديمة، فان الحرب العالمية الثانية "الأيديولوجية" ومؤتمر يالطا، وبعده مؤتمر بوتسدام، كانت مؤشرات، أو هكذا كان الافتراض، لبدء، أو الأصح، ترسيخا لحقبة جديدة، أو "حضارة" جديدة، تتعايش وتتنافس بسلام مع الحضارة "القديمة"، خصوصا بعد أن رأى العالم الكارثة التي أحدثها السلاح النووي في اليابان. لكن الذي حدث لاحقا هو، أن تلك الحرب لم تتوقف، وظلت مستمرة بأشكال أخرى. فقد كانت "باردة" داخل المركز الأوربي، بسبب الخشية مما يسببه السلاح النووي إذا أستخدم، وكانت "ساخنة" خارج المركز الأوربي، أي في الأطراف: أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكانت تلك الحرب الساخنة جدا التي تدور في الأطراف، إنما تتم بالنيابة عن العملاقين. وهنا يكمن بيت قصيد هذه السطور. ففي خضم تلك الحروب، ونتيجة للتنافس الشرس بين العملاقين، نسى الاتحاد السوفيتي مبادئ لينين، ونست الولايات المتحدة مبادئ الرئيس ولسن الأربعة عشر. فقد ساهمت أميركا في ألحاق ظلم فادح بالشعب الفلسطيني، ودعمت أنظمة ملكية لها رائحة اللحم المتعفن، وساندت جمهوريات لها طعم العلقم. وكانت "مأثرتها" الأخيرة هي، دعم "مجاهدي" أفغانستان، وصولا إلى قيام إمارة طالبان، قبل أن يظهر تنظيم القاعدة فيصبح "فرانكشتاين" وينتقم من خالقه الأميركي.
ومن جانبه دأب الاتحاد السوفيتي، تحت راية حركة التحرر الوطني، على نصرة ودعم ضباط مغامرين، كثيرين منهم ليسوا سوى مجموعة من الزعران، أذاقوا، بسبب انقلاباتهم العسكرية، بلدانهم الويلات، وحرموا شعوبهم من الخبز ومن الحرية، في آن واحد. وكانت "مأثرة" الاتحاد السوفيتي الأخيرة هي، التوسط لدى صدام حسين لإخراجه بسلام قبيل حرب الكويت، تطبيقا لمبادئ الاتفاقية العراقية السوفيتية. وهكذا كان القرن الماضي. سباق محموم بين العملاقين، ما أن يبادر احدهما إلى تسجيل نقطة حتى يبادر خصمه إلى تسجيل نقطة مضادة: يدعم الاتحاد السوفيتي كاسترو، فتدعم أمريكا نرويغا، تساند موسكو ثورة الخميني، فتساند واشنطن صدام حسين والسادات، تطيح أميركا نظام الليندي وتساند بنوشيت، فيشجع الاتحاد السوفيتي القضاء على حكم محمد ظاهر شاه ويساند بابراك كارمال، تساند موسكو محمد سياد بري، فتدعم واشنطن هيلاسي لاسي، تغزو أميركا فيتنام، فتغزو موسكو أفغانستان... الخ. الآن وقد انتهت تلك الثنائية الدولية منذ عقدين، وهدم الشعب الألماني جدار برلين، رمز تلك الحقبة التاريخية، وأطاح العمال بتماثيل محررهم لينين، وأعدم شاوشسكو، أليس من المفترض أن يتم التفكير بذهنية جديدة تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. "أنظروا، أرأيتم؟ إن هذه السطور تريد استدراجنا للدفاع عن السياسة الأميركية"، هكذا سيقول، ربما، بعض القراء. وليست هذه غايتنا ولا غرضنا. غايتنا أن نقول إن الذين هللوا وفرحوا بوقوع هجمات 11 أيلول الإرهابية (وما نكتبه هنا هو بوحي تلك الأحداث) إنما يفكرون بذهنية الحرب الباردة، بذهنية من يرى أن أمريكا عدوة الشعوب، هكذا بالفطرة، بذهنية من يساوي بين الرئيس القتيل أبراهام لنوكولن و والت وتمان و وليم فوكنر ونعوم شومسكي وشباب الستينيات ونيو يورك تايمز، وبين ريغان و رامسفيلد والمحافظين الجدد و والت ستريت وفوكس نيوز.
هجمات 11 سبتمبر لا تستهدف المحافظين الجدد ولا الشركات الأميركية العابرة للقارات، لأن تنظيم القاعدة الذي نفذ تلك الهجمات يتناغم جيدا مع هذه العناصر، وهي التي صنعته، قبل أن (يزعل) عليها. تنظيم القاعدة يستهدف، بالضبط، (الديمقراطية) التي يقوم على فلسفتها نظام الحكم في الولايات المتحدة. والذين برروا تلك الهجمات الوحشية ودافعوا عنها، وغالبيتهم (وهنا تكمن المفارقة الكبرى) يساريون قوميون حداثويون، إنما يصطفون، مهما كانت حججهم، مع تنظيم القاعدة، أي مع " سقط متاع" أيديولوجي. هولاء "التقدميون" الذين دافعوا وما زالوا يدافعون عن هجمات 11 أيلول، يرتدون قمصانا بياقات منشاة، وملابس داخلية وسخة. هولاء يلعنون، إذا خلوا لشياطينهم السلفية، والقومية المتعصبة، ألف برنارد شو وألف لينين، ولكنهم يتحولون إلى ثوريين لا يشق لهم غبار، حالما يطلون علينا من شاشات الفضائيات. هولاء يضعونك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يصبح لعن أميركا على لسانك كالبسملة، وإلا فأنت عميل لأميركا. لا يمكنك، وفق منطق هولاء، أن تشجب الدعم الأعمى الذي تقدمه أميركا لإسرائيل، لكنك تطري في الوقت نفسه على النظام الديمقراطي في أميركا. ولا يحق لك، في عرفهم، أن ترحب بسقوط نظام صدام حسين بأيدي القوات الأميركية وتلعن ما فعلته مقاومة "القاعدة" من قطع لرؤوس الأبرياء في العراق، لكنك تنتقد في الوقت عينه، الأخطاء الأميركية القاتلة في العراق. ليس مسموحا في شريعة هولاء أن تقول أن الزمن قد تغير، وان الحضارة التي تحدث عنها شو سقطت بأيدي الشعوب التي رحبت بها في البداية، وأن الأمور لا تتغير بمجرد أن يقول أحدنا، مثلما قال شو بأنه ثوري، وأن الثوريين الحاليين أمثال شافيز في فنزويلا، وأحمدي نجاد في إيران، وملا عمر وبن لادن في أفغانستان، وحماس في فلسطين، وبوتين في موسكو، لا يقدمون أفكارا ورؤى أفضل مما موجود في أميركا، ولا يؤسسون لنظام ديمقراطي، ولا يشبعون بطون الجياع في بلدانهم. آه، لو لملمت أميركا شجاعتها وقدمت حلا منصفا، بات انتظاره طويلا، للقضية الفلسطينية. آه، لو ظهر ولسن جديد يحرك بمبادئه الزعماء العرب مثلما حركت مبادئ ولسن عام 1919 زعيم مصر سعد زغلول. آه، لو فعلت أميركا ذلك، لأصبح أحدنا يطري أميركا دون أن يفكر ألف مرة قبل أن يفتح فمه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تصدير الديموقراطية ؟
كركوك أوغلوا -

ألم تعلم أمريكا (غباء بوش ورامسفيلد), بأن الأنتخابات ستسيطر عليها الحوزات المتخلفة وتنتج نظام ثيوقراطي ؟؟!!..والعجيب أن بلير شاركهم في الغباء ؟؟!!..