الغزو الروسي وإشكاليات القضايا القومية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بادئ ذي بدء نشير إلى أنه ليس لروسيا تاريخ إيجابي في التعامل مع القوميات الأصغر الواقعة في تلك المنطقة، لا زمن القيصرية التي كانت تمارس الإلحاق بالحرب، ولا زمن الاتحاد السوفيتي الذي هضمت فيه حقوق القوميات والأقليات القومية باسم الأممية، برغم وجود شعارات شكلية عن "الاختيار الطوعي" و"الحق في الانفصال".
هنا نرى من المفيد الاستشهاد بالتحليل الوثائقي للشخصية التقدمية العراقية الراحلة، عامر عبد الله، في كتابه الهام ""مقوّضات النظام الاشتراكي العالمي، وتوجهات النظام العالمي الجديد"، الذي كتبه في عام 1995، وصدر عن دار "المدى" عام 1997، وكان المؤلف على تماس مباشر بالتجربة السوفيتية، وسياسات الاتحاد السوفيتي، وحزبه الحاكم. فهو يكتب عن خبرة ودراية، واستنادا إلى قدرته التحليلية.
بين هذا الكتاب بكل فصوله، وبالوثائق والمعلومات التاريخية، أن انهيار الاتحاد السوفيتي، وكل النظام الاشتراكي العالمي، كان بفعل عوامل وتناقضات داخلية مستحكمة، لا بفعل مؤامرة خارجية، فالاقتصاد كان في متاعب كبرى بسبب نفقات الحرب، وجراء التخطيط المركزي الشمولي، والنظام السياسي القائم على سلطة الحزب الواحد الذي يقمع كل معارضة، ويشوه معنى الانتخابات فتصبح شكلية، يحرم وجود أي حزب آخر، حتى إن كان حزبا مع الاشتراكية.
لقد خصص الكتاب فصلا مستقلا عن " الأممية والقومية".
كان الاتحاد السوفيتي، أي "الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية"، بالاسم مؤلفا من جمهوريات فيدرالية، وأخرى ذات حكم ذاتي، ولكن ما جرى هو بلع الروس لحقوق تلك الجمهوريات، وكياناتها المتميزة.
قام الاتحاد السوفيتي على أنقاض الإمبراطورية القيصرية باستثناء فنلندة وبولونيا، وجمهوريات البلطيق، ولكن شرق بولونيا، وجمهوريات البلطيق نفسها ألحق بروسيا في فترة اتفاق ستالين - هتلر. إن الجمهوريات الفيدرالية، وذات الحكم الذاتي، كانت لها "مفوضيات محلية، ولكن دون سيادة، أو سلطات فعلية، وهذا ما كان يتعارض مع المبادئ الديمقراطية للفيدرالية، كشكل من أشكال الدولة ذات التعددية القومية، والتي تعني، قبل كل شيء، تطبيق مبدأ المشاركة السياسية، والاجتماعية في السلطة، من خلال التوزيع العقلاني، والمتوازن، للسلطات، والصلاحيات، والوظائف، مع احترام القومية، والتكوين السكاني، وقضايا الثقافة، واللغة، والدين، والتقاليد." [عامر عبدالله، مقوّضات النظام الاشتراكي العالمي، ص 159 ]
إن ما طبق فعلا هو "االروسنة" الكاملة لتلك الجمهوريات، لغة وثقافة وإدارة، وقد كان المفترض قيام أحزاب سياسية مستقلة في الجمهوريات، أي استبعاد نظام الحزب الواحد، والأيديولوجية الواحدة، والالتزام بالديمقراطية بمكوناتها الأساسية: أي الحريات، والحقوق، والمؤسسات المنتخبة، بينما أصبحت القومية الروسية هي المعيار في كل شيء، لحد أن ستالين عارض محاولة استخدام الأوكرانيين للغتهم في الدوائر الحكومية، والمدارس الابتدائية. هنا، وما دمنا عن أوكرانيا التي يخشى أن تتحرش بها روسيا بوتين، فقد وصلت نسبة السكان الروس هناك إلى 53 بالمائة.
إن هذا النمط من عمليات الصهر القومي باسم الأممية، مع رفع شعار الطوعية، طبق أيضا في يوغوسلافيا تيتو، مما خلق تدريجيا استياء بين القوميات غير الصربية، وأجج نزعاتها القومية، ونعرف اليوم ما حل بيوغوسلافيا، فهو نتيجة منطقية للنمط المركزي الشمولي في حكم القوميات الأخرى.
الآن، نعرف أن مساحة أوسيتا الجنوبية هي فقط 2900 كم، ومساحة أبخازيا 6800 كم. ليس إلا، فهل يحق أم لا يحق، للشعبين ممارسة حق الانفصال برغم صغر العدد، و"قزمية" المساحة، إن صح التعبير؟
نعتقد أن ذلك حق مبدئي لهما، شأنهما شأن القوميات الكبيرة، التي تعيش في مساحات واسعة هي أضعاف وأضعاف، لاسيما وبين الشعبين وبين الجورجيين عداء تقليدي مزمن، بسبب اضطهاد الجورجيين للشعبين تاريخيا.
إلى هنا تبدو القضية من حيث المبدأ واضحة لنا، ولكننا، في الوقت نفسه، يجب أن نأخذ الحقائق التالية بالحسبان:
1- خلال السنوات الثماني المنصرمة منحت روسيا جوازات سفر، وهويات جنسية روسية، وبسرعة متزايدة، لسكان المنطقتين، وحسب أمير طاهري، فإن 90 بالمائة من سكان أبخازيا يحملون اليوم الجنسية الروسية، من مجموع 200000، [ مائتي ألف نسمة ]، ونسبة حاملي الجنسية الروسية في أوسيتيا الجنوبية هي 95 بالمائة من مجموع 75000 [ خمسة وسبعون ألف نسمة]؛ وبتعبير آخر، أن السكان في المنطقتين ينضمون عمليا لا شكليا لروسيا "الأم"، وإذا كان الاستقلال رسميا لحد اليوم، فإن المعاهدات التي عقدتها روسيا مع المنطقتين الصغيرتين (أبخازيا وأوسيتيا) سوف تؤدي، في نظرنا، إلى بلع فعلي، مثلما بلعت روسيا السوفيتية كافة الجمهوريات التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي، وذلك باسم الأممية، وتحت شعار "الاتحاد الطوعي." 2- قانونيا، إن المنطقتين كانتا تدخلان في نطلق السيادة الجورجية، ولكنهما كانتا خارج "الطاعة"، إن أمكن الوصف؛
3 - أشعلت روسيا الحرب الأخيرة مع جورجيا بحجة مذابح جماعية مارسها الجورجيون مؤخرا ضد سكان المنطقتين، ولكن ثبت بطلان الزعم، ولم تقدم روسيا أي دليل مقنع على صحة زعمها، بالعكس مما جرى من انتهاكات صربية ضد سكان البوسنة، وأكثرية سكان كوسوفو، حيث اكتشفت المقابر الجماعية، وتوالت الشهادات، وانهمرت المعلومات الموثقة عن حرب الإبادة تلك، وقدم عدد من كبار المسئولين عن الانتهاكات للمحكمة الدولية الجنائية الخاصة.
بنا على هذه الحيثيات، وإذ نقر مجددا بحق سكان أبخازيا وأوسيتيا في تقرير المصير، فنحن نعتقد أن هذه المسألة الشائكة والمعقدة جدا، يجب أن تحل عن طريق الأمم المتحدة وذلك بإجراء استفتاء حر، وفي جو هادئ، لشعبي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية، فيما إذا يفضلان الاستقلال التام، أو الحكم الذاتي الواسع ضمن جورجيا، أو الحكم الذاتي الواسع ضمن الفيدرالية الروسية، وحينذاك فعلى كل من جورجيا وروسيا، احترام قرار الشعبين المتخذ بإشراف الأمم المتحدة، وإن من فذلكات التاريخ الروسي أن روسيا وقفت خلال 200 عاما مع الجورجيين ضد الأبخاز، والأوسيتيين!!
إن مسألة هاتين المنطقتين وشعبيهما تختلف كثيرا جدا عن حالة كوسوفو، كما ورد أعلاه، ليس فقط بوجود حرب إبادة وتطهير عرقيين حقيقيين في كوسوفو، بل وأيضا لأن دول حلف شمال الأطلسي حين دخلت حرب إنقاذ الألبان، وكانوا الأكثرية المضطهدة، لم يكن لأي من دوله رعايا يحملون جنسية تلك الدولة، كما أن دولا كثيرة في العالم تعترف اليوم باستقلال كوسوفو، مع معارضة روسيا بشدة!
هذه هي الحقائق عن السجل الروسي في التعامل مع بقية القوميات، والأقليات القومية، وهذا هو الرصيد الذي يحن له بوتين ويستوحي، سواء في التعامل مع الجمهوريات الفيدرالية السابقة ضمن الاتحاد السوفيتي، أو مع جمهوريات البلطيق والدول الشرقية، التي كانت تكوِّن مع الاتحاد السوفيتي ما كان يدعى "المنظومة الاشتراكية الدولية".
أخيرا، وعن الدروس التي يمكن استنباطها في التعامل مع القوميات الصغيرة، والأقليات في الدول العربية، فسوف نعود لهذا الموضوع في مقال مستقل، كما قلنا في بداية هذه الحلقة.
التعليقات
بلاتعليق
جعفر العاني -هذا وأكد مقرر الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا ليوك فان دير براندي أن الجانب الجورجي هو الذي شن الهجوم أثناء أحداث آب الماضي في أوسيتيا الجنوبية. أعلن براندي ذلك خلال المناقشات في الجمعية البرلمانية في ستراسبورغ اليوم حول تطور العلاقات بين روسيا وجورجيا على أثر احتدام الصراع الجورجي - الأوسيتي الجنوبي. (
تحليل ممتاز
//////// -ماكتبه الراحل عامر عبدالله صحيح مئة بالمئة وهذه التجربة عشناها نحن الذين درسوا هناك وضباط الكي جي بي(المخابرات السوفيتية السابقة) يتربعون اليوم على السلطة من جديد ويريدون العودة الى احلامهم القديمة ولكن هيهات فان قاطرة التاريخ تجاوزتهم و لايمكن ان ترجع الى الخلف وقالها كارل ماركس؛ التاريخ لايمكن ان يعود واذا اريد العودة فسيكون بشكل كوميدي ساخر وهذا مايرى على ايدي ضباط الكرملين الجدد ويصفق لهم بقايا اليسار العربي. تحيات للاستاذ الحاج كم قلمك رائع