يوميات الحرب (11): ليرحمك الله يا أبا مصعب!

الخميس صباحاً

أمضينا ليلة من الجحيم. قصف ثلاثي من الجو والبحر والبر. حالات تصل للمشافي، ويحتار فيها الأطباء. طبيب مصري يقول لي إنها حرب كيماوية . وكلما اقترب موعد عقد اتفاق سياسي، بيننا وبينهم، كلما ضغطوا أكثر، ليحققوا أفضل الشروط. أفضل الشروط هذه تعني فقط: إيقاع أوسع مجزرة بحق المكان والبشر. يوم أمس، تجاوز عدد الشهداء، ما فوق الخمسين. الإصابات بالمئات. ومع هذا، يصفونها في الجانب الآخر، ب"حرب الخمسة نجوم". يتكلمون عن "مول" خرافيِّ الترف، أُقيم خصيصاً للجنود، وتقوم على الخدمة فيه أجمل المجندات. المجندات يعملن كنادلات متخصصات، متخصصات ليس في تقديم الطعام والشراب فحسب، بل كذلك تقديم الرصاص والخوذات. وكل هذا ليش؟ لكي لا يقول الجنود إنهم جاعوا في غزة، مثلما جاعوا في حرب تموز بلبنان. كم يحسب ساسة إسرائيل خوفاً من "فونوغراد" جديدة. فونوغراد تخيفهم وتهمّهم بأكثر ما تفعل أية مؤسسة دولية، بما فيها مجلس الأمن وقراراته الملزمة.
الأمر ما فوق التصوّر، ليس كل هذا فقط، بل كل هذا مع مدن بلا كهرباء. ما أسوأ أن تواجه حرباً بلا نور. حرباً وقصفاً وأنت تتخبط في العتمة. إسرائيل لم تسرق وطننا حسب، بل سرقت يومنا وغدنا، وأعادتنا فعلاً للعصر الحجري.

الخميس ضحىً

* ألتقط بعض الصور لمصابين بمادة الفسفور الأبيض. آخذها من غرفة العناية المكثفة. أصحابها في غيبوبة دائماً. لم أر واحداً صاحياً حتى الآن. أتردد في بعثها للجريدة. صور مؤلمة وصادمة، لكنني سأرسلها اليوم، وهم أحرار، ينشرونها أو لا. أمس حذفت عدة صور من سلة المهملات، وندمت بعد ذلك. فهذه وثائق من قلب الميدان ولا يجوز التفريط بها. من اليوم، لن أتهاون مع أي صورة. من اليوم، سأترك انحيازاتي ككاتب للكلمات، وألتفت للصورة. هذا عصر الصورة، خصوصاً زمن الحرب. كل الكلمات لا تعادل أحياناً صورة.

* أمرّ على غرفة الأطباء المصريين بالطابق الثاني من ناصر. يحدثونني عن تفاصيل الليلة السابقة. متفانون هم كعهدنا معهم. يقولون إنهم سمعوا ليلة أمس عن احتمالات دخول لخانيونس، خاصة بعد قصف جامع في خزاعة. أطمئنهم: خزاعة على الأطراف. وإسرائيل لا تفكّر باحتلال قلب المدينة. اعتقد أنّ أمراً كهذا مضى أوانه. لو كانوا يريدون لفعلوها منذ أسبوع على الأقل. تقديراتي أنهم الآن سيضغطون بأقصى قدر علينا، كي تتهاون حماس في شروط التهدئة. لذا فالأيام القادمة ستكون أصعب من السابقة. مع هذا لا دخول إلى قلب المدن. مستشفى ناصر كائن في قلب خانيونس. ولن يصله راجلون أو دبابات. يتكلّم الأطباء فيما بينهم عن أخذهم عينات لفحصها في مصر أو الاستفسار عنها عبر الشبكة العنكبوتية. يوغلون في مصطلحاتهم العلمية، فأنسحب.
أنسحب، وأتذكّر بعض التعليقات على حواري المنشور معهم في إيلاف. لاحظت أنّ المعلقين، يشنون عليهم هجوماً فقط من منطلق كونهم "إخوان مسلمين". يا سادتي المُعلّقون، أنا مع الشيطان ذاته، إن كان هناك شيطان غيركم، إذا وقف بجانبي وقتَ الضيق. هؤلاء أطباء شجعان تركوا حياتهم الوادعة، وجاءوا إلينا ونحن وهم الآن تحت ساطور الذبح. قبل يومين كنت جالساً معهم في لحظات هدوء نسبي، واندلع نعيق الإسعاف، فقاموا وغيروا ملابسهم على عجل، وانطلقوا مهرولين إلى غرف العمليات. والله لو كان المصابون من أهلهم، لما فعلوا لهم أكثر مما فعلوا ويفعلون. وما ينطبق على المصريين، ينطبق بالضرورة على الفرنسيين والنرويجيين واليمنيين والبحرانيين والمغربيين وسواهم.
تحية أكبر من الكلمات، أرفعها باسم شعبي، لهؤلاء الأبطال. أما أنتم يا حضرات المعلّقين، فواصلوا تعليقاتكم. هي لن تكشف إلا عن بؤسكم النفسي لا غير.

* يزورني صديق هاو للكتابة في المستشفى. يحدثني عما جرى له ليلَ أمس. نسي نفسه فلم يشتر علبة سجائر جديدة. في الحادية عشرة انتبه. لا دكاكين ولا شياطين. فالشوارع تخلو هنا بعد الثامنة. ماذا يفعل؟ طحنَ المرمية وخلطها بحبيبات الشاي ودخّن. وكلما دخّن لفافة جديدة، كلما "نَقْرَزَ" أكثر. لا يا صديق! كلّه إلا السجائر.

* ضرب. ضرب. يضربون "تل الهوي". يضربون مقر الأونروا. يضربون الهلال الأحمر. يقتلون 15 رجل إسعاف. يضربون من الأرض والبحر والجو. يضربون. يضربون. وأشدّ ما يُغيظهم، صراخُ وهتاف المضروب!

* من أية طينةٍ هؤلاء الناس؟ من أي كوكب بعيد قدموا إلينا؟ تتقاطر سيارات الإسعاف على "ناصر"، وينهض الكلّ لمساعدة المذبوحين. الطبيب والممرض والزّوار وحتى عابرو السبيل. هياج ودم. ارتباك وصراخ. انفعالات وبلاء أحمر. فإذا كان هذا حال خزاعة وعبسان وبني سهيلا (الهادئات نسبياً)، فكيف هو حال جباليا وبيت لاهيا وتل الهوى؟

*أغادر قسم الاستقبال، وأصعد لغرفة العناية المركّزة في الطابق الأول. ثمة "ذبيحة" اسمها محمد أبو دقة (45 عاماً). بائع دواجن، من محمد ابو دقة قرية خزاعة، كان في دكانه الصغير، وأغلقه، عائداً إلى بيته على درّاجة هوائية، كما تعوّد منذ سنوات. في الطريق المُترب، وهو يُعافر مع البسكليت القديم، جاءه صاروخ الأباتشي، فبتر رجله اليمنى من أعلى الفخذ. واحترق كل جسمه، حرقاً من الدرجة الثالثة (أخطر الحروق في قاموس الأطباء). وهو الآن في غيبوبة كاملة. أسأل الأطباء، فيُشيرون إلى تأثّر كبده وبنكرياسه وأمعائه، إضافة إلى رأسه ذاتها، جرّاء شظايا الصاروخ. حالته العامة صعبة جداً، والأطباء يتوقعون موته خلال ساعات. أُصوّره، لأرفق صورته، مع هذه اليوميات. في الأثناء، يأتي أهله، زوجته وبناته، فيبكين ويصرخن، فأنسحب، وجنين دمعة ينبثق من داخلي.

* كُتب الكثير عن هذه الحرب. لكنْ ما لم يُكتب (ما لم يُنتبَه له) هو هذا: لا يوجد رصاص في هذه المقتلة. صار الرصاص من ماضي إسرائيل. كل المقتولين والمجروحين، مضربون بقذائف الدبابات وصواريخ الأباتشي والإف. فلكل فرد في غزة صاروخ أو قذيفة. أهو ارتفاع في (سِعْرنا) لدى إسرائيل؟ كانوا قبلاً يقولون عن هذا أو ذاك منّا: لا يستحق رصاصة. الآن يبدو كرمهم وسخاؤهم، كما لم يكونا من قبل. لكل غزاوي صاروخ أو قذيفة. تُرى: كم ثمن الصاروخ؟ كم ثمن القذيفة؟ كم ثمن الصاروخ زنة ثلاثة أطنان؟ هل يكفي القول بأنه عدوان همجي؟ يا كم هي ناقصة لغتنا! الهمجي قديماً كان يقاتل بيده وفأسه. أما الهمجي الحديث المزوّد بكل أسرار التقنية، فلا يضرب الغزاوي بأقل من صاروخ. على لغة الضاد أن تتطوّر وتنحت نعوتاً جديدة تناسب العصر وروح العصر!

الخميس ظهراً

* أجري حواراً مع بروفيسور فرنسي. أكتبه على الورق، بعد تحذيري من حمل شنطة الحاسوب.أعود للبيت لإفراغه إلكترونياً. ثم ألهث كي أُنهي "الفنش" قبل انقطاع الكهرباء. تستمر الكهرباء، فأخرج سريعاً لإرساله بالإيميل. أجد مقهى النت القريب فاتحاً، وهو المغلق من أيام، فأستبشر خيراً. أُرسل المادة بلا عقبات. وأخرج. لديّ مهمّات، غير الكتابة. لا بد من تدبير كيس طحين. الشاي نفد، فلا بد من عبوة نصف كيلو. كذلك صلصة البندورة والبندورة ذاتها. آه .. البندورة. كلّهُ إلا البندورة. فهي طعامنا الثلاثي، ومن دونها ينكشف الحال. أذهب للسوق، قليل من المحلاّت فاتح. أشتري سحّارة بندورة، وأعود بكل المطلوب ما عدا الصلصة والطحين. معلش. المهم البندورة. أقوم في الليل، وأشبع منها مع الرغيف الحاف.

* يتصل أحدهم بي ليخبرني بعدد النازحين بالضبط. هذا عمله، وهو قرأ اليوميات فغضب مني لتبخيس الرقم. أعتذر وأطالبه برفدي بالعدد الصحيح حتى يُنشر. وعدني وها هو لم يُخلف الوعد. يقول: خذ عندك، ويدخل في تفاصيل لا تحتملها سوى الإضبارة لا اليوميّة. أرجوه مدّي بالعدد الإجمالي فقط، فلا يقتنع. وبعد محاولات يقتنع على مضض، فأعرف منه هذا الرقم المخيف (المخيف على الفلسطينيين بالأساس، فالنزوح هو كابوسهم غير القابل للنسيان). خُذ عندك: مئة ألف وستمئة وعشرون. آه يا قلبي! وفي مثل هذه "الأربعينية"؟ وفي مثل هذا الجوع؟ إذا كنت أنا الموظف يا دوب، فكيف بمهجّرينَ، أربابُ عائلاتهم عاطلون ومتبطّلون؟

* أنام كالقتيل، وأصحو على أخبار مفجعة. لا شيء يفاجئني. فكلما اقترب موعد الاتفاق السياسي، تغوّلوا كالبهائم. كالبهائم يا باسم؟ كم تتعهّر اللغة على أيدي الكاتبين! لا والله حرام. لا يصحّ. أشرس بهيمة في الأرض لا تعادل شراسة مُجنّدة فائقة الجمال والترف، ولا وحشية زميلها المجنّد "السكسيّ"، وهما يتابعان على شاشة حاسوب، ربما من المجدل أو حتى مدن أبعد، ذلك المواطنَ البائس، الذي جاء عليه الدور والحظ، فوقع تحت ميكروسكوب طائرتهم، ليقصفوه بصاروخ. يقصفوه بصاروخ فيتقطّع أربع أو سبع قطع، كما رأيت بأم عيني أول أمس. فأيهما أشرس وأوحش؟ الأسد الجائع مثلاً، أم زهافا وياكوب، وهما يضغطان فقط على زرّ، ويقتلان عن بُعد، كأنها لعبة لوغو، فيشطبان حياةً من حضن أهلها ومواطنيها؟ ربما، من يدري، فأنا عشت بينهم وأعرف ردود فعلهم، ربما يُقبّلان بعضهما بعضاً، أو يمدّ هو يده من تحت تنورتها، ك "متاناه" على إصابة الهدف!
من أي طينة هؤلاء الناس؟ من أيّ "عزازيل" قدموا إلينا؟ هؤلاء ال "نيبيلوت مسرخوت" .. كِبِّي لِمَاتْ .. كِبِّي لِمَاتْ يا مزدينيم!

* متى تأتي السخرية؟ متى تدخل في أسلوبي، فأرتاح من ثقل هذه الحِمْل؟ آه لو أستطيع أن أتهكّم. حينها فقط أكون نِدّاً. أما إذا جرّوني إلى شروطهم هم، فلم تبرح كتابتي تمتح من بئر الانفعال، فقد انتصروا عليّ. انتصروا على "الكاتب" فيّ. كلا، لن أسمح لهم بهذا، حتى لو امتلأت العينان بالدم. إنما مصيبتي هي في عدم القدرة على وضع مسافة بين سخونة الحدث وبرودة الكتابة. ومع هذا، ليُساعدني أحدهم، ولأُحاول.
سأحاول، ولتغفري لي يا دماء الذبائح. ثمة وقت لنكتبك، أفضل من وقتنا المضغوط هذا.

(حماية)

* إطلاقاتٌ جِدُّ بعيدة. ربما فوق بيت الجار الخامس والستين. رصاص عيار 800 ملّيمتر؟ وليكُنْ! أنا أقرأُ وكل "هذا البُعد" يحميني!

(فروق)

* عند نيتشه: [كلّ شيء حول البطل يغدو تراجيديّاً. وحول نصف الإله يغدو دراما هجائيّة]hellip; ماذا حول الفاشيّ باراك؟ كلّ شيء يغدو قابلاً للضْرب؟

(أدوار)

* السهو والصحو مُتشابهان حرفاً؛ مُتساويان وقْعَاً. فلماذا نستاء إذا تبادلا الأدوار عند ضحايا الحروب؟
(هوان)

* المتفوّقُ عسكرياً متفوق أخلاقياً؟ كلاّ! ولا مرّة كانت هكذا منذ إنسان العصر الطباشيريhellip; حكمةُ التّاريخ! حكمة التاريخ؟ طُزّ! ومتى كان "الأدونات" يقرأون التاريخ؟ [يا باسم: تحتاج لُغتكَ هذه الليلة إلى حشائش للتمويه hellip; للتمويه على"هوان المعنى"!]
(تسيبي لفني)

* النرجسيّة خفيفة الروح تُشيرُ إلى الغزّاويين وتقول: هؤلاء هم مُجايلو إنجازاتي. لا يُوجد للغزّاويين _ عند تسيبي خفيفة الروح _ من مهمّة سوى هذه المهمّة. هكذا خلقها الله وهكذا خلقهم هم أيضاً. حكمةُ بارئ كثيراً ما تُخفى علينا.

(فروق)

* ما أهون المعارك في الأستديو وما أفدحها في كل مكان وزمان.

(ضيق)

* قبل ميلاد "الجزيرة" و"العربية"، كان بسطاءُ حيِّنا _ مِن فتح وحماس- أكثر تنوّعاً في آرائهم وأميل إلى الاختلاف والاجتهاد فيما بينهم. الآن يرعبني السماع ويغزوني السأم: بسطاء حيّنا صاروا- بأفواههم الكثيرة- بوقاً واحداً ضخماً يردد بذبذبات الصدى صوتَ الجهيرة الجزيرة وأختها العربية! يا ربي! واحدٌ مثلي يعيش ما زال [عصر الكتب السميكة] لماذا زقلتَهُ إلى هذا العصر؟ كانت الدنيا هي رحْبُها وانفساحُها فلماذا وجدتْ الدنيا مُنتهاها في جزيرة أو مضيق؟

(حنين)

* العولمة. الإمبريالية المتوحشة. إمبراطورية الشرّ. مقبرة الأخلاق. قاتلة الفنّ. أحنُّ إلى أطياف ماركس. أحنُّ إلى بساطة "رأس المال"!

(بطل)

* بطل من هذا الزمان: بيت بلا تلفزيون!

(دم)
* [ليس من شيء حقيقيّ إلاّ الذرّات والفراغ]. أسعدني ديموقريطس كثيراً، عندما صاغ هذا [الاكتشاف] قبل ألفي سنة. أسعدني حقيقةً لأنني كنتُ قد صغتُ قبل أسبوع هذه العبارة [ليس ثمة من حقيقة في حياتي أقوى وأظهر من حقيقة شظاياها ودمّها. الدم هو المتن، وسواه الهوامش..إلخ]. مصادفة طيبة. مصادفة سعيدة: أن يلتقي [مقهور] ب [فيلسوف] وكأنّ ما بينها هو [التخاطُر] ولو على بعُد ألفي سنة وآلاف الكيلو مترات.

(عيب)

* لماذا تفقد المكتبةُ أحياناً سحْرها؟ آلاف الكُتب - أحياناً- لا يستطيع واحدٌ منها أن يُناديك! كلُّها تبدو- أحياناً- صمّاء بكماء. والمؤلمُ: أنّ هذه [الأحيان] غالباً ما تطول - كما يحدثُ معكَ منذ بدء الانتفاضة، منذ بدء الحرب. يا ربي! العيبُ فيّ أم في الكُتب أم في الحرب؟

(إِتفيلاه)

* أدوناي، روش هشمايم: أُعبرْ عني هذه الكأس. بيخايخا. فإنْ لمْ؛ فسأعبرُ أنا.

(وفاء)

* البحث عن عالم أفضل. يا لها من جُملةٍ عتيقة.. لم يعد أحدٌ يشتاق إليها. بل إنّ الكثيرين من كتّابنا المعاصرين يستنكفون عن ذكْرها وكتابتها. إنما: ما ذنبُها هذه الجُملة الطيبة وقد حَمَّلها قائلوها ما لا تحتملُ حتى أصبحت أشهر جملة غير مفيدة في تاريخ اللغة العربية منذ قِسّ بن ساعدة الأيادي؟ البحث عن عالم أفضل؟ وما لُهُ؟ سأظلُّ- أنا على الأقلّ- أقولها وأكتبها إلى أن أموت. نوعٌ من الوفاء!

(قُطبان)

* في الثالثة صباحاً، بعد ثماني ساعاتٍ كتابةً وقراءةً، في الثالثة تلك أبلغُ أعلى درجات النضارة النفسية والجسدية: إنّهُ وقتي النموذجيّ كي أتوهّجَ: أطير كالكرة، برشاقةِ وخفّةِ الكُرة، بين القطبين الأشهريْن: الله والشيطان!

(hellip;)

*هاتي يا دنيا! هاتي كأنْ سأظلّ أتلقّى منكِ للأبد. أَعطي فانيكِ أَعطي فنّانيكِ. فما حملتِ فوق ظهركِ أخلصَ لكِ منهم. لا الشيخ ولا القدّيس يعرفان ما يعرفون. هم الأكثر تحديقاً في عَدَمِكْ؛ هم الأكثر خبرةً ودرايةً بما يُخبّئ وجهُكِ الآخر. هم الأكثر وجعاً من ألاعيب مُتنطّعيكِ. يعرفون: كم أنتِ وهْمُ واهمٍ. يعرفون: أن لا أمانَ لكِ، ورغم ذلك يحبونكhellip; تُصيبينهم كلّ يوم في مقْتل، ورغم ذلك يحبّونك. أعطيهم، أعطيهم، فغداً تحت ترابكِ تسترجعينَ كلَّ شيء!

(أباتشي)

* أيتها اللبؤة..أيّ قَدَرٍ أن تكوني أنتِ قدرَهم الوحيد؟

(قصف)

* هذا بائسٌ آخرhellip; يُهمهمُ شلومو من وراء الحاسوب، ومن وراء شلومو، يُهمهمُ أيضاً الرّبّ.

(خان يونس)

* ومهما بلغتُ من نشواتٍ في هذه المدينة، تظلُّ نشوةُ الدودةِ تحت الأرض أكبر.

الخميس ليلاً

*يستشهد سعيد صيام. أخرج من هذه الهلوسات، وأعود إلى وطأة الواقع. هذا الرجل أمضى معظم عمره، مُدرّساً في مدارس البنات بوكالة الغوث. إلتقيته مرات عديدة آنَ كان مدرساً. رجل رقيق في منتهى اللطف. من بيت فقير، من عائلة مستورة. تماماً مثل غالبية اللاجئين. أحزن لاستشهاده، خصوصاً وأنا أعرف كم سيفرح ويشمت الإسرائيليون! لقد كان همّهم قبل وضع نهاية لهذه الإبادة، هو قتل أو أسر أحد قادة حماس. حينما سمعت أنهم دخلوا تل الهوى، خشيت من تحقيق هذا الهدف. فهم ما دخلوا إلا من أجل "رأس كبيرة" سياسية أو عسكرية، يُباهون بها أمام الرأي العام في بلادهم. يحتاجون إلى دغدغة هذا الرأي، اليميني في أغلبه الأعمّ، قبل مجيء الانتخابات. ليرحمك الله يا سعيد وليرحم جميع الشهداء. فقد وقعنا في قبضة أناس، لا يتورّعون عن الشماتة في الموت، أيّ موت، ما دام يصيب "الغوييم"، ولا يُصيبهم هُم.

* اختلفتُ كثيراً معك، ولكنني الآن أرثيك. واختلفتُ كثيراً مع آرائك، خاصةً حين صرتَ أنتَ في السلطة، ولكنني الآن أرثيك. فأنت شهيد شعبنا كله لا حماس. حالك كحال جميع شهداء فلسطين، المضرجين بدمائهم، المشمولين بلظى قلوبنا، في لحظة المصير العصيبة هذه.

*ليرحمك الله يا أبا مُصعب.

الجمعة/ الواحدة والثلث، بعد منتصف الليل

بين أيام الحرب العشرين، كان يوم أمس هو الأعنف. حتى الذين سمّوا هذا العدوان البربري، بتسمية "الرصاص المصبوب"، كانوا متساهلين. فهو جحيم مصبوب لا رصاص مصبوب. جحيم، أو لعلّها "العزازيل" بلغتهم. فجحيمنا عن عزازيلهم تفرق. عزازيل صبّتها علينا فوّهات المدافع والطائرات. عزازيل شرّدت عشرات الألوف من الأهالي، وقتلت وحصدت مئات الأرواح. وكل هذا في يوم واحد. يوم واحد يا ألله.
عزازيل جارية، مرشحة لفوران أعلى. لضراوة أشدّ. لجنون أبعد. فما لم يأخذوه في أسابيع خلت، وما لم يأخذوه في المفاوضات غير المباشرة، سيحاولون أخذه في الأيام القريبة.
لا يعرفون حماس. ولا يعرفون سيكولوجية هذا الشعب. كلما ضغطوا أكثر، صمدنا أكثر. فما من مرة كانوا مجانين كهذه المرة. وهذا يستتبع بالضرورة صموداً من جانبنا، لا يُشبه كل صموداتنا الماضية. لسنا أقوياء (فالقوة تُقاس بمقاييس مادية، ونحن شعب أعزل إلا من الإرادة) لكننا صامدون. صامدون لا أقوياء. فلا وهم لدينا في هذا الجانب. اليوم الجمعة، وغداً وأقصاها حتى نهاية الأسبوع، سيكون ثمة اتفاق. وستضطر حكومتهم لوقف إطلاق النار. وإلا فلا خيار أمامهم غير الدخول في "عُش الدبابير": اقتحام قلب المدن والنزول لحرب شوارع. ولا أظنّهم سيفعلونها. سيتوقفون على مشارف المناطق الآهلة. لن يدخلوا. وإني أرى مرور الوقت (رغم هول كل دقيقة تمرّ) في صالحنا نحن، وعبءٌ عليهم.

*مصابٌ جلل، هو مصابنا في سعيد صيام. لكنّ المصاب الأَجَلّ، أن تذهب دماؤنا بثمن بخس. وما دامت الأمور، وصلت إلى حدّها الأقصى، دون أيّ خطّ للرجوع، فليكن ما يكون. لن نستسلم. سندافع عن جدارنا الأخير. سندافع عن بيوتنا وأطفالنا ونسائنا وأمهاتنا. لم يتركوا لنا خياراً آخر. فإن كان هو الموت، فليأتِ (بعيداً عن أيّ شُبهة بلاغة أو خطابة) ونحن واقفون. نموت واقفين أو نعيش واقفين. إسرائيل تريدنا عبيداً لها. عملاء لها. وكلاء لها. ولا تريدنا بشراً في مرتبة البشر. بشراً لهم دولة ولهم مستقبل. 82 % من شعبها يؤيد الحرب. ونحن نعرف متى لا يؤيدونها: عندما تكوي النار قلوبهم. فقط عندما تكويهم. فهل مع مثل هذا الشعب يمكن إجراء مصالحة تاريخية؟ لست متطرفاً ولم أكن في يوم داعية حروب. (أكتب وفي التوّ يسقط صاروخ قريب من الإف 16، فأهتزُّ وتهتزّ الطاولة وشاشة الحاسوب وكوب الشاي من أثر ضغط الهواء. ها هي تعود، الطائرة، ومع ذلك لن أقوم. سأواصل الكتابة، وليكن ما يكون).

* ذهبتْ. "غراب البين" ذهبتْ. ماذا كنت أقول؟ لقد أخرجتني اللعينة من السياق. باخت حرارتي، ولا أعرف كيف أواصل. ها هي عادتْ. تَحرثُ سماء خان يونس، كما تُحرث الأرض بسنُّ المحراث. ما أبشع مؤخرتها وهي ملتهبة بالأحمر، أو وهي تقذف الصاروخ. الإف 16؟ هي بالفعل: [ إِف] ولكنْ ... صاروخ آخر، بُمْ بومْ، بشششش، يطشّ كالحديد المذاب في الماء. أقرب هذه المرة. أعنف. أَرعب. صوت إسعافات. لا، لا وقت للمزاح. سأطفئُ الحاسوب وأقول تصبحون على تهدئة!