اقتصاد الصفر والإبداع التكنولوجي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد حولت تكنولوجية الاتصالات العالم الى قرية كونية صغيرة، ووفرت للمستهلكين سوق عولمة الإنترنت، واستطاعت أن تقدم شركاتها الكثير من الخدمات المجانية، والتي من أهمها، خدمات آلية البحث عن المعلومة. ومن الغريب، أن تسجل هذه الشركات، شركات القرن الواحد والعشرين، أرباحا خيالية، مع أنها توفر خدماتها للمستهلكين بالمجان، بينما تنكمش أرباح شركات الصناعات التقليدية، شركات القرن العشرين، بالرغم من ارتفاع أسعار منتجاتها. بل تفاقمت خسائر بعضها، كشركة الجنرال موتورز العملاقة، التي أعلنت مؤخرا إفلاسها، بالرغم من مليارات الدعم من الحكومة الأمريكية. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيضيف الإبداع التكنولوجي اقتصادا عالميا جديدا، اقتصاد الصفر؟ وما هو هذا الاقتصاد؟
يحاول الصحفي الأمريكي، كريس أندرسون، أن يناقش اهذه الأسئلة في كتابه الجديد، المجانية هي مستقبل السعر الجذري. فقد درس الكاتب علوم الفيزياء في جامعة جورج واشنطون، وأكمل دراسته التخصصية في ميكانيكية علوم الذرة، وعلوم الصحافة بجامعة كاليفورنيا. وقد ناقش أندرسون في كتابه السابق، الذنبة الطويلة، كيف استطاعت أسواق الانترنت أن تخلق سوق تجارة عولمة حرة، ربطت فيها المشتري والبائع في جميع أنحاء العالم بشكل غير مسبوق. بينما يناقش في كتابه الجديد، كيف يمكن لإبداعات تجارة الألفية الثالثة أن تسجل أرباح هائلة، بتوفير منتجاتها وخدماتها مجانا، بدل بيعها بالطرق التقليدية.
لقد انخفضت كلفة اقتصاد سوق الإنترنت المتنامية بشكل عجيب، لتصل ما يقارب الصفر. فلم يشاهد التاريخ البشري انخفاض الكلفة الأولية لاقتصاد صناعي بهذه السرعة. فقد انخفض سعر "الترانسستور" الواحد من عشرة دولارات في عام 1961، لتصبح اليوم كلفة "ميكروشب" شركة إنتل، الذي يحتوي على مليارين من الترانسيستورات، حوالي الثلاث مائة دولار، بمعنى أنه قد أصبح سعر الترانستور الواحد اليوم 0.00000015 من الدولار، أي أصبحت تكلفته ضئيلة جدا، بحيث قد يكون من الأفضل تجنب حساب هذا السعر في الكلفة الإجمالية، لكون هذه العملية الحسابية أكثر كلفة من الترانسستور نفسه. كما تمكنت التكنولوجية الحديثة أن تصغر حجم رقائق الميكروشب بحيث يمكن وضعها على طرف الإصبع. وهذا مثل بسيط لإبداعات سوق العولمة المجانية.
كما ناقش أندرسون كيفية التنافس في سوق العولمة التي يبيع فيها المتنافسين منتجاتهم بقيمة الصفر، والإستراتيجية الجذرية لها، وضرب مثلا على ذلك بالأزمة التي تعرضت لها شركة الفيتون لبيع أفلام الفيديو. ففي شهر نوفمبر من عام 2008، وبعد أن عانت هذه الشركة من السرقة الرقمية لأفلامها بعرضها على صفحات اليوتيوب، فكان ردها على السارقين: "خلال الثلاث سنوات الماضية قمتم بسرقتنا، وذلك بنشر عشرات الآلاف من أفلام شركتنا على اليوتيوب، وقد حان الوقت لقلب الطاولة. فنحن نعرف من انتم، ويمكننا ملاحقتكم بطريقة مرعبة لا يمكنكم تصورها. ولكوننا أناس طيبون، قررنا أن نرد عليكم بعرض أفلامنا المتميزة على قناة الموني بيثون في اليوتيوب، لكي لا تستطيع أفلامكم، المسروقة والسيئة النوعية، أن تنافس شركتنا. بل الأكثر من ذلك، سنوفر هذه الخدمة مجانا، ولكننا سنطلب من زبائننا الكرام أن يشتروا بعض أفلامنا وبرامجنا التلفزيونية التي تعجبهم، ليعوضوا عن خسائرنا طوال السنوات الماضية." وفعلا حقق مستهلكي الإنترنت طلب هذه الشركة، بشراء بعض أفلامها على صفحات الإنترنت، لتسجل بعد ثلاث أشهر صعود في مبيعاتها قدرت بحوالي 23000%، ولترتفع ترتيبها الثانية في المبيعات بعد شركة الأمازون الذائعة الصيت. فقد نجحت مع هذه الشركة فكرة المجان بشكل رائع، ليشاهد أكثر من مليوني مستهلك أفلامها على شبكات التيتيوب، ولتنتشر سمعتها بين الأطفال وطلبة المدارس، وليزداد الطلبات على برامجها وأفلامها، ولم يكلف الشركة ذلك شيء إضافي.
ويبدو بأن هذه الظاهرة المجانية في تزايد متصاعد على شبكات الانترنت. فهناك آلاف الشركات التي توزع منتجاتها بالمجان، آملة ببيع أشياء أخرى. ويعقب الكاتب على ذلك بقوله: "انأ اكتب كتابي في كومبيوتر نت بوك، والذي يكلف حوالي 250 دولار. وأستخدم آلية تشغيل برامج لينوكس المجانية، كما استفيد من برنامج غوغل دوك للكتابة، بدل برامج شركة الميكروسوفت المكلفة. كما لا أحتاج لقلق وتكلفة التخزين، حيث أخزن جميع ملفات عملي على شبكات الإنترنت المجانية. فكل ما أقوم به على الكومبيوتر مجاني، من البريد الالكتروني وحتى التويتر. كما أصبح التواصل بالإنترنت اللاسلكي مجاني في مقاهي الانترنت." ومع كل تلك الخدمات المجانية، أصبحت شركة غوغل أكثر الشركات ربحية في الولايات المتحدة، كما تجاوزت تجارة شركة لينوكس، لبرامج تشغيل الكومبيوتر المجانية، الثلاثين مليار دولار، وتبيع مقاهي الانترنت ثلاث مليون فنجان قهوة يوميا، وتقدر ربحيتها السنوية بالمليارات من الدولارات. وهنا نلاحظ إستراتيجية الإبداع في تناقض المجانية، بأن تربح الشركات الكثير من الأموال بتوفير منتجاتها بالمجان. "وطبعا لا يعني ذلك، لا شيء لكل شيء، بل لا شيء لحدود، بحيث استطاع العالم خلق اقتصاد بحجم دولة كبيرة، حول رقم سعر 0.00."
ويسرد أندرسون أولا قصة اقتصاد الصفر في كتابه، الذنبة الطويلة، ويناقش النوعية الجديدة لطلبات المستهلك، حينما يكون كل شيء متوفر ويمكنه الاختيار من سوق لا متناهية على رفوف شبكات الانترنت، والذي يعتبر أول نظام للتوزيع اللامتناهي في تاريخ العالم. وقد أدى ذلك لولادة ثقافة تجارة مجانية جديدة تهدد المؤسسات التجارية التقليدية. ويحتاج توفير رفوف لامحدودة على صفحات الانترنت لعرض البضاعة وبأن تكون كلفة هذه الرفوف قريبة للصفر. وكنتيجة للفلسفة المجانية للجميع، ظهرت معجزة شبكة المعلومات الالكترونية العالمية، وهي أعظم تجمع في تاريخ البشرية للمعلومة والخبرة والتعبير، والتي طورت نظام توزيع عالمي مجاني، ووفرت الرفوف المجانية الالكترونية كآلية عرض واسعة الانتشار، وساهمت في تخفيض السعر، بل وفرت السعر المجاني بشكل واسع. فمثلا تستخدم جميع شعوب العالم آلية البحث "الغوغل" يوميا بدون الحاجة لبطاقة ائتمانية، كما لا يتحرك مقياس الاستخدام، حينما نستخدم "الفيس بوك" و"اللوكيبيديا."
ويجب أن نلاحظ بأن مجانية القرن العشرين تختلف عن مجانية القرن الواحد والعشرين، وهي نتيجة الانتقال من "ذرة" عناصر المادة، لقوة "بت" الأنترنت التكنولوجية، والتي حولت ظاهرة المجاني المرتبط بشروط مقيدة، لمجاني حقيقي وبدون شروط. وفجأة تشكل اقتصاد حول ظاهرة المجانية، وحتى قبل أن يستطيع علماء الاقتصاد وصفه. ولهذه الثورة المجانية مفهوم معروف ومفهوم آخر غامض، مع أنه قوي مع قلة فهمه، فتصور بأنك تستطيع زيادة ثروتك بإعطائك الأشياء لشعوب العالم بالمجان. فبينما كانت المجانية في القرن العشرين طريقة تسويق مؤثرة، تحولت في القرن الواحد والعشرين لنموذج اقتصادي يعتمد على "البت" التكنولوجي، لا على "ذرة" التصنيع. ولنتصور بأن تنخفض سعر "ذرات" الحديد لقيمة الصفر، فتستطيع شركة جليت صنع أمواس الحلاقة وتوزيعها بالمجان، ولكي تحقق أرباحها من معجون الحلاقة الذي تبيعه، لتخلق اقتصاد بالملايين من سعر أولي يبدأ من الصفر. وخير مثل على ذلك شركة "غوغل" التي تسجل أرباحها الهائلة من مبيعات الدعاية، باستخدام شهرتها في توفير خدمات البحث المعلوماتية المجانية للملايين من شعوب العالم. ففي اقتصاد الذرة، المتعلق بكل ما حولنا من عناصر المادة، تصبح المنتجات أكثر غلاء مع مرور الوقت، ولكن في اقتصاد البت، المتعلق بتواصل الانترنت، تصبح الأشياء أكثر رخصا مع الوقت. فاقتصاد الذرة في تضخم متصاعد بينما اقتصاد البت في انكماش صفري، فقد كان اقتصاد القرن العشرين مبدئيا اقتصاد ذري، بينما سيكون اقتصاد القرن الواحد والعشرين اقتصاد البت. فأي شيء مجاني في اقتصاد الذرة يجب أن يغطى المستهلك تكلفته من شيء آخر، ولكن المجانية في اقتصاد البت تكون مجانية حقيقة للمستهلك، فبينما يشك المستهلك بحق في مجانية اقتصاد الذرة، يثق بصدق في مجانية اقتصاد تكنولوجية البت.
ويعتقد الكاتب بأن صعود اقتصاد المجانية هو نتيجة لتكنولوجية عصر الرقمية، المرتبطة بقانون "موور" الذي يلزم انخفاض سعر وحدة التشغيل الآلي للكومبيوتر للنصف مع مرور الوقت كل سنتين، وتنخفض معه أسعار سعة الموجات وقوة التخزين بسرعة أكبر، ويقوم الانترنت بجمع الثلاثة معا. لذلك ينكمش سعر تكنولوجية الانترنت سنويا، لتقترب كلفة التجارة على الانترنت مع الوقت للصفر، وليس من الغريب أن تتجه أسعار منتجات المستقبل في نفس الاتجاه. ومع كل ثورة صناعية ينخفض سعر عوامل إنتاج أساسية، فمثلا انخفضت في عصر الثورة الصناعية سعر الجهد العضلي، لتستطيع الشركات القيام بعمل لم تستطع تحمل تكلفته من قبل، بتشغيل مصانعها أربع وعشرين ساعة في اليوم، لتزداد الإنتاجية بشكل لم يمكن تصوره. وليصبح نموذجنا الاقتصادي الجديد، في القرن الواحد والعشرين، البحث عن طرق للربحية التجارية المبدعة من خلال "ظاهرة المجانية." والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيبدأ شباب الشرق الأوسط إبداعهم التجاري من خلال اقتصاد الصفر، ليتخلصوا من الاعتماد على وظائف الدولة، الغير منتجة، والمنتقدة ببطالتها المقنعة، لتحقيق التنمية الاقتصادية لبلدانهم وإسعاد شعوبهم؟
سفير مملكة البحرين في اليابان