التشوهات الاجتماعية في عراق التسعينات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قد تجعل الغربة الطويلة من الصعب على باحث ما أن يحلل الوضع الاجتماعي في بلده، فالمقيمون خارج بلد ما ليس بوسعهم أن يرصدوا التطورات في هذا البلد إلا من خلال و سائل الإعلام و بواسطة الأخبار الواصلة إليهم و ليس من خلال المعايشة، و لما كانت وسائل الإعلام في عراق العقد الأخير من القرن الماضي محتكرةً للدولة و تخضعُ لرقابتها، و لما كان النقل الشفاهي معرضا لعدم الدقة والمبالغة و النسيان، فإن هذه الوسائل لن يقدم مساعدة في العثور على معلومات ذات قيمة بحثية، عدا ذلك فإن المقيمين لفترة طويلة في الخارج، و بغض النظر عن صعوبة الحصول على الوقائع كمادة بناء أولية، يميلون إلى التجريد أكثر فأكثر كلما تقادمت إقامتهم.
الكثير من الظواهر الاجتماعية و طرائق السلوك و الإشارات ذات الدلالة خصوصا تلك الظواهر الاجتماعية التي تنشأ و تزول بسرعة غير معهودة هي مما لا يمكن العثور عليها في وسائل الأعلام إلا عرضا و بشكل مموه رغم إنها كانت تملأ الشارع العراقي. عدا ذلك كانت الكثير من الكتابات في الشأن الاجتماعي و السياسي محكومة بمخطط آيديولوجي أو منهج مدرسي تعوزه طراوة الواقع. الذين تدفقوا إلى الخارج كان اغلبهم يعمل في أحزاب سياسية آيديولوجية فهم يُخِضعون الواقعَ لتمحيص العقيدة و ليس العكس، و يلوون عنق الواقع، إذا تطلب الأمر، إكراما لها.
بلَغَ الإمعان في تشويه اللوحة الاجتماعية في العراق ذروته في العقد الأخير من القرن الماضي، و قد لعبت الدولة وسياستُها دورا حاسما في هذه الصيرورة. تغور جذور هذا الفعل التشويهي للعملية الاجتماعية في التربة التي تم تمهيدها في نهاية السبعينات على وجه الخصوص، فقد تم بدموية إقصاء كل من تم اعتبارهم مخالفين ناهيك عمن اعتبروا معارضين و بذلك توفرت الأرضية للنظام لكي يقوم بأية مغامرة دون رقيب و دون نأمة احتجاج.
و لكن الإقصاء لم يكن ينحصر في الجانب السياسي، أي في قمع الأحزاب و الحركات السياسية، فقد نُظر إلى أي تحرك اقتصادي مستقل على أنه سوف يستدعي، حين يكرّس نفسَه، مطالبَ سياسية عاجلا أو آجلا. مستهدية بغريزة البقاء لم تكن السلطة لتغفل ذلك، فكانت تنفر من كل الأعمال الحرة التي لا يمكن رصدها أو وضعها تحت السيطرة مقارنة بالوظائف الحكومية.
لم يكن إعدام التجار العراقيين في العام 1992 يهدف إلى معاقبتهم كما إنه لم يكن موجها إليهم كأفراد فقط بل كان يهدف قبل كل شيء إلى تحقيق أقصى درجة من الإرهاب لطبقة كاملة، و رغم أن هؤلاء التجار تصرفوا بما يمكن اعتباره أمرا مألوفا بل عملا حميدا في ظل الأنظمة السياسية الطبيعية و ذلك بقيامهم بتقديم مواد غذائية و سلع مجانية أو مخفضة لعائلات كثيرة كتخصيص شهري منتظم، إلا أن هذا الفعل كان يمثل، بالنسبة للسلطة، سابقة خطيرة قد تنتشر و تعزز الفعل الاجتماعي التضامني. لم تكن الدولة لتتساهل في ذلك، ففي كل الأنظمة الشمولية يتم رصد أي فعل يؤدي الى كسب النفوذ خارج حدود ما تسمح به الدولة و يُكرّس لغير رموزها، فالإحسان ومساعدة الآخرين من مهمات الدولة و رموزها فقط. تخطيط الفقر المقنن و احتكار الإحسان المقنن مهمتان سلطويتان.
اقتصاد المضاربة و الشركات الوهمية
و على صعيد موازٍ لجريمة إعدام التجار وضعت الدولة حدا لما يمكن اعتباره اقتصاد مضاربة نشأ في ظروف التضخم النقدي المتسارع، فقد بات مألوفا أن يجد المرء في السوق العشرات و المئات من الذين لا عمل محدد لهم و لكنهم قادرون على تحويل أية فرصة إلى أرباح، فلقد جعل التضخم أية بضاعة أفضل من السيولة النقدية فلجأ وسطٌ واسعٌ من الناس، ممن لا سابقة له في عالم التجارة، إلى شراء بضائع متنوعة ليست لغرض الاستعمال و إنما لغرض البيع لاحقا و تحقيق " أرباح ".
هذه " الأرباح " لم تكن أرباحا في واقع الأمر و إنما كانت وسيلة للمحافظة على قيمة النقد في أحسن الأحوال من التآكل المستمر. و كان شراء كميات من السكائر أو الأجهزة المنزلية و السيارات و غيرها وسيلة فعالة للزيادة الاسمية للنقد المستثمر.
و حسب تجريدِ ماركس لمفهوم البضاعة و القيمة فقد تمّ في البضائعِ تنحيةُ قيمتِها الاستعمالية لدوراتٍ متتالية واعتمادّ قيمتها التبادلية، و لعبت قيمتُها التبادلية دورَ معادلِ قيمة أو معيارا، أي إنها لعبت دور النقد أو المعادن الثمينة بشكل مؤقت، فدورة السلع، في الظروف الاعتيادية، قصيرةٌ، فالقيمةُ التبادلية بالنسبة للبائع تُستبدل في وقت لا يطول كثيرا بالقيمة الاستعمالية لدى المستهلك أي أن الهدف من وجود السلع أو البضائع هو، في نهاية المطاف، قيمتها الاستعمالية. لكن هذه المعادلة شوهت و انتظرت السلع أطول مما يجب قبل أن تقوم بوظيفتها في إشباع الحاجات.
و قد ازدهرت الصيرفة و انحصرت تقريبا في استبدال الدولارات بالدنانير العراقية و العكس. و شكّلَ الدولار كبضاعة ثابتة القيمة قياسا بالدينار العراقي المتدهور ضمانةً للكثير من الراغبين بالادخار، و لكن الأمر لم يكن مضمونا دائما، فقد لعبت الأخبار السياسية المتضاربة دورا في تحسين وضع الدينار إزاء الدولار و العكس بالعكس، بل إن الإشاعات و التحليلات الساذجة للأخبار قد تلعب دورا في خفض أو رفع طرفي المعادلة هذين بشكل مفاجئ، فكان الراغبون في الادخار يضطرون إلى الانخراط في عمليات المضاربة و يسارعون إلى السوق من اجل البيع أو الشراء كلما سمعوا أخبارا عن تحسن أو تدهور محتمل لهذه العملة أو تلك حتى وجد الكثيرون أنفسهم دون سابق تخطيط منخرطين في علميات المضاربة.
لا شك أن أشكال الكسب غير المرتبط بالمؤسسات الصيرفية ذات القواعد الثابتة في التعامل و التي تتوفر على الأقل على عنوان، يسهل مهمة المحتالين الذي يصعب الوصول إليهم بعد أن ينجزوا مهمتهم، و لكن هؤلاء المحتالون كانوا على هامش العمليات الواسعة التي يتم التعامل بها يوميا. و قد شهد اقتصاد ما بعد حرب الخليج الثانية ازدهارا ملحوظا و حركة بيع و شراء، كما خدم التضخم رغم سلبية آثاره العامة في جعل البضاعة العراقية رخيصة و مطلوبة.
فما هي البضائع العراقية التي من الممكن أن تزدهر في مثل هذا الظرف المحكوم بحصارٍ خانق؟
لقد ازدهرت على سبيل المثال تجارة بيع السجاد الإيراني و المحلي و التحف ذات الطابع الشرقي و اللوحات الفنية و الصناعات النحاسية كما هي منتجات سوق الصفافير، و منتجات الفضة و المسبحات المصنوعة من الأحجار الكريمة و الأغنام و اللحوم العراقية التي ازداد الطلب عليها في الأردن و الكثير من البضائع الأخرى التي بدأت تجد طريقها إلى الخارج. فقد تخصص وسطٌ واسع من الناس بنقل العديد من البضائع إلى الأسواق الأردنية فقام العشرات و المئات بالسفر إلى عمان يوميا و العودة بسرعة بعد بيع ما لديهم من بضائع حتى قامت الحكومتان العراقية و الأردنية بإجراءات مضادة فمنعت نقل العديد من البضائع عبر الحدود و تعرض المسافرون الى تفتيش دقيق.
و من الطُرف التي مررت بها إثناء إقامتي في احد فنادق العاصمة الأردنية أن شخصا مقيما في نفس الفندق يسافر بانتظام إلى تايلاند حاملا معه بضاعة لا تخطر على بال، فقد كان يحمل معه الساعات اليدوية العاطلة التي كانت تستورد في أيام الازدهار الاقتصادي و قد إتضح إنها مصنوعة من معادن ثمينة و مطلوبة على نطاق واسع و قد روى لي كيف أن الساعات اليدوية العاطلة و المرمية التي يقوم بجمعها لقاء مبالغ زهيدة، تشكل ثروة لا بأس بها تمول سفرته الى تايلاند و إقامته هناك زائدا إقامته في الأردن مع تحقيق أرباح لا بأس بها.
و بسبب التضخم باتت العملة المعدنية أكثر قيمة من قيمتها المعلنة فكان الدينار المعدني مثلا مصنوعا من مادة من الممكن أن تباع بأضعاف سعره فاختفت من العراق كل العملات النقدية و تم تهريبها للخارج و صهرها.
و قد ازدهرت الشركات الوهمية التي تعطي أرباحا على الأموال المستثمرة لديها و قد قامت شركات عديدة بالحصول على أموال من الناس من اجل الاستثمار في مشاريع وهمية ثم حصل البعض على أرباح معينة و ما لبثت هذه الشركات ان خسرت و ضاعت الكثير من أموال الناس.
و اذا استثنينا العمليات غير المشروعة التي من الممكن أن تزدهر في كل اقتصاد على هامش النشاط الاقتصادي الرئيسي فقد كان هذا الشكل من البيع و الشراء و المحافظة على قيمة العملة من خلال شراء بضاعة ما ثم بيعها في الوقت المناسب يمثل شكلا من أشكال الحلول الإبداعية و القدرة الفائقة على التكيّف التي بات يتقنها الشعب العراقي الذي كان يعاني دائما من ويلات الحروب و الحصار.
ترييف المدينة
ترتبط المدينة و الريف بعلاقة تكامل و لكنها علاقات محكومة بآليات تتطلب المحافظة على الخصائص لكل منهما، تلك الخصائص ضرورية اقتصاديا و اجتماعيا. و ترييف المدينة أحد نتائج الهزات السياسية و قد ظهر هذا الترييف بأجلى صوره في العراق و في مدينة بغداد بالدرجة الأولى، ففي الأنظمة الراسخة اجتماعيا تهضم المدينة القادمين إليها، حيث لا يمثل القادمون الجدد إلى المدينة في كل الأحوال تدفقا غير قابل الاستيعاب إنما تسربا بطيئا لا يطبع المدينة بطابعه و لا يلغي هويتها.
و بما أن المدينة و مجتمعها لا يستطيعون أن ينظموا أنفسهم إلا بتنظيم قواعد للحياة و طرائق للسلوك غير معروفة في الريف أو معروفة على نطاق ضيق، فإن غزو البداوة و الريف لها يعطل نظامها. ففي المدينة يضطر الفرد الى التنازل عن بعض الحقوق من اجل الحق العام، فرغم أن النظام بكافة أشكاله هو نوع من القواعد السالبة للحرية إلا أن المديني يعرف ضرورة هذا النوع من تحديد الحرية الفردية من اجل الحرية الجمعية فهو يعمل بالقاعدة التي تقول " حريتي محدودة بحدود حرية الآخرين " أو " تنتهي حريتي حين تبدأ حرية الآخرين ". أما البدوي و الريفي الذي يعتز بحريته فإنه قد اعتاد أن يتعامل مع الفضاء الواسع حيث لا شيء و لا أحد يحد حريته و حيث لا يجد أن ثمة ضرورة لأية قيود طوعية أو قانونية، فبوسعه أن يسير إلى أي اتجاه و أن يجتاز الطريق حيثما شاء و أن يرفع صوته بالغناء دون أن يؤثر على حرية الآخرين، و حين دخلت السيارات الى الريف فقد استعملها سكان الريف على هواهم فلا ضرورة للوقوف في الأماكن المسموح بها أو الالتزام بخط سير معين.
كان الكثير من الموظفين و حتى أولئك الذين تخرجوا من الجامعات قد بدئوا الآن في البحث عن عشائر عريقة تحدد انتماءهم بل أن بعضهم قد أصبح شيخا لعشيرة ما. فقد أعادت الحكومة العمل بنظام العشائر من اجل التعويض عن الهشاشة الاجتماعية التي نسفت الولاءات التقليدية، فقد خسرت السلطة تماما وسط المثقفين و الموظفين المتنورين فصِيرَ إلى إعادة الاعتبار للعشائر حتى في المناطق التي اندثرت فيها أو ضعفت. كان هذا مرتبطا بمجهود السلطة لإعادة ترتيب البيت الداخلي و بفقدان الدولة لهيبتها و تفكك أجهزتها و ازدياد التحديات الخارجية و الداخلية هذا عدا الحصار الاقتصادي القاسي الذي جعل السلطة مسلوبة الإرادة، فقد أصبحت الواردات النفطية بموجب قرارات دولية ضمن إطار العقوبات خارج سيطرة الحكومة.
الألقاب و العشائر
اختفت أو ظهرت على استحياء الكثير من الظواهر المألوفة و من ضمن ذلك الألقاب الشائعة و خصوصا تلك التي تتحدد بالمهنة أو المدينة مثل القبنجي، الصابونجي، البزاز، المؤذن، الخطيب، الدهان.. الخ و كذلك الألقاب المدينية مثل البغدادي أو الهيتي أو الموصلي و استعيض بها أو أضيف إليها لقب عشيرة عربية يستحسن أن تكون قوية. فِعلُ الدولة في إعادة الاعتبار للعشائر كان مدفوعا برغبتها في تنصيب قادة لمجاميع الناس و أخذ الضمانات منهم بأنهم سوف يبلغون السلطات عن كل هارب من الخدمة العسكرية أو " خارج عن القانون " أي الرغبة بتحويلهم إلى مخبرين.
على أن من المنصف القول أن العشائر الراسخة في مناطق من الجنوب العراقي و الأنبار مثلا و التي كانت موجودة قبل هذا العمل الافتعالي في إعادة الاعتبار للعشائر " البائدة "، لم تكن تنصاع دائما لرغبة السلطة، فقد كانت العشائر العريقة و الراسخة في هذه المناطق تعمل بموجب قواعد ذات طابع ايجابي مقارنة بنوايا السلطة أو بالفوضى الاجتماعية و ضعف القيم، كما إنها طالما تمردت على إرادتها و عملت بالقواعد العشائرية المتعارف عليها بما في ذلك توفير الحماية لأفرادها و اللاجئين إليها في ظل غياب قدرة الدولة و أجهزتها على توفير الحماية للناس و لكنها تجنبت الاصطدام بالسلطة طالما كان ذلك ممكنا.
فالهاربون من الخدمة العسكرية في الغالب كانوا شبابا و صبيانا في مقتبل العمر مذعورين من آلة الحرب التي لا تهدأ و ماكنة الموت التي لا تتوقف ينشدون السلامة الشخصية، خائفين مذعورين أن يقعوا بأيدي قوات القمع التي لا ترحم، لذلك فقد حظي الكثير منهم بتعاطف عشائرهم و أوساط من عامة الناس و لكن السلطة لم تكن لتنظر إلى الأمر من هذه الزاوية بل كانت تنظر إليهم كجيش محتمل قد يلملم أطرافه و يعلن تمرده.
القاعدة الاقتصادية للترتيب الاجتماعي
تم في فترة التسعينات و ضع سجلات لزعماء العشائر و رؤساء الأفخاذ احتوى على أسماء جديدة لم يكن لها أي علاقة بالشأن العشائري و تم تخصيص رواتب شهرية لهم بموجب الضوابط التي اشرنا إليها و التي تتضمن قبل كل شيء دورهم الأمني.
و على صعيد مرتبط كان شعار مواجهة الحصار أهم من الفعل نفسه فالأنظمة الشمولية تحتاج دائما إلى شعارات مثيرة و أغانٍ و مهرجانات أكثر مما يمكن تحقيقه بالملموس، كما انها كانت تدرك أن تسييد وسط اجتماعي لم يكن له أن يستقيم دون قاعدة اقتصادية داعمة، فعدا الرواتب المجزية لشيوخ عشائر و أفخاذ من المصنعين حديثا بصورهم الكاريكاتيرية و سلوكهم الفج، فقد تم اعتماد إجراءين آخرين: إطلاق يد المزارعين بزراعة كل المساحات الممكنة، و قيام الدولة بشراء انواع من المحاصيل و من ضمنها محصول الرز (الشلب) بأسعار مجزية.
لم يجرِ توسيع المساحات الزراعية القائمة فعلا على أساس علمي أو تكثيف الزراعة ضمن نفس المساحة بل جرى إطلاق يد المزارعين في زراعة أية مساحة مجاورة و متروكة لسبب أو لآخر، و بهذا القرار أصيب المزارع الذي كان يعتبر الخطط الزراعية و المائية قيودا مقيتة بالحبور و أطلق لجشعه المدمر العنان.
إن أهم ما يحدد المساحات القابلة للزراعة ضمن عوامل كثيرة الحصة المائية، ففي الفترات التي ساد فيها القانون لم يكن مزارعٌ يجرؤ على زراعة اية مساحة بدون موافقات و ضمن خطة عامة و أهم ما ينبغي توفره الحصة المائية التي خصصت لمساحة بعينها، و بذلك فقد كانت المساحات الزراعية محكومة قبل كل شيء بالحصة المائية التي تضمن حصول كل المزارعين، ممن تقع مزارعهم قرب مصادر المياه او بعيدة عنها، على الحصة نفسها اذ كان نظام الري مؤسسا تأسيسا جيدا.
كان الشعار التعبوي المرافق لمثل هذا الفعل هو مواجهة الحصار و التعويض عن النقص في المواد الزراعية و انطلق المزارعون يستولون على كل سنتمتر مربع، وزرعوا على بعد سنتمترات قليلة من الشارع الاسفلتي و تحت ابراج الضغط العالي و عند مقتربات الجسور و القناطر و قرب البنايات، ولم يؤدِ هذا التوسع الى زيادة المساحات المزروعة فقد كان على حساب مزارع آخر لم تعد تتوفر له حصة مائية، ما زادَ هنا نقص هناك، إذ قلت الحصة المائية لمزارعين تقع مزارعهم بعيدا عن مصدر المياه و ازدادت الخصومات.
و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد كان تحريم زراعة المناطق التي تسمى محرمات من تلك التي تقرب من الشوارع أو الجسور و القناطر و أبراج الضغط العالي تهدف إلى حماية هذه المنشآت، فالسقي المستمر يجعل التربة رخوة و يهدد الأسس التي تقوم عليها هذه المنشآت، و لم نكن بحاجة إلى أن ننتظر طويلا لنرى العواقب، فقد أدى تهاوي برج واحد من أبراج الضغط العالي بسبب الرياح حتى المعتدلة إلى سحب سلسلة من أبراج أخرى عديدة بحكم ارتباط بعضها البعض بواسطة الأسلاك، و أصاب الخراب شبكة الشوارع المصممة أصلا لخدمة تسويق المحاصيل و الشيء نفسه يُقال عن الجسور و القناطر.
و قد شاهدنا بألم كيف أزيحت من الوجود بسبب هذا الجشع مساحات آثارية واسعة و ذهبت ادراج الرياح نداء المؤسسات و المختصين.
كما شمل هذا التوسع السرطاني مساحات مائية و طبيعية متروكة كانت تمثل ما يشبه المحميات للحيوانات و الطيور المهاجرة و اختفت أو كادت طيور القطا و الحجل و التدرج و البط و الأوز البري و الزرازير و الحبارى و الكركي و الثعالب و الخنازير البرية و أنواع من الجعلان و السحالي و الثعابين. و بالارتباط مع إزالة الأهوار في الجنوب لم يعد العراق كما كان دائما أحد نقاط العبور و الإقامة للطيور المهاجرة.
كما هُددت بالانقراض أو انقرضت نباتات برية عديدة بعضها كان ذا فائدة علاجية وغذائية. لكن الجانب النفسي كان الأكثر تضررا، فتعايشنا مع شركاء يمثلون طيفا واسعا من الطيور و الحيوانات و النباتات يوازن الحياة و يقلل من الميول العدوانية، كما أن تسييج المساحات البرية المتروكة و غير المملوكة قد قلص الفضاءات الضرورية للترويح عن الناس.
و في نفس السياق جرى انتهاك محرمات الأنهار و لم تقم الدولة بمنع البناء المباشر على ضفاف الأنهار و بشق الكورنيشات انما سمحت للمتجاوزين من أصحاب النفوذ بالبناء في هذه المحرمات و بات من المتعذر في بعض المناطق الجلوس أو التمشي على ضفاف الأنهار.
زيادة الواردات و تعدد الزوجات
قامت الدولة بشراء العديد من المحاصيل الزراعية وخصوصا محصول الرز (الذي يسمى قبل استبعاد القشور باسم الشلب) بأسعار عالية جدا، فقد استلمت أحدى العائلات الكبيرة مثلا 950 مليونا من الدنانير لقاء تسويقها للدولة محصول الرز لسنة واحدة، و هذا رقم كبير حتى بمعيار العملة الصعبة، و استلم مزارعون صغار عشرات الملايين كغلة أراضٍ تم الحصول عليها بعقود مع الدولة.
ليس بوسع احد أن يحرم فئة اجتماعية من حقها في وارد مالي مجزٍ وينبغي لهذا الأمر أن يبعث على السرور، و لكن الواردات المالية التي تحصل عليها فئات اجتماعية معينة يجب أن تكون متوازنة مع ما تحصل عليه فئات اجتماعية أخرى كما ينبغي لها أن تتلائم مع المجهود و التأهيل و العلم و المعرفة و إلا عزز ذلك الأحقاد الطبقية و التوترات الاجتماعية. فقد فاق وارد المزارع في هذه الفترة الوارد المالي للطبيب أو المهندس من المؤهلين و المتخصصين بعشرات المرات، فيما تبدو مقارنة وارد المزارع مع ما يتقاضاه الموظف الحكومي كارثة بكل ما في الكلمة من معنى، فالموظف يتقاضى بالمعدل خمسة آلاف دينار عراقي أي ما يعادل ثلاثة دولارات في الشهر الواحد، و كان وارد المزارع لسنة واحدة يتفوق بكثير على ما يحصل عليه الموظف من مرتبات في كامل حياته المهنية. و فيما كان ابن المزارع يختلف الى المدرسة لابسا افخر الثياب كان مظهر معلمة يبعث على الحسرة، و فيما كان الموظف و المعلم محط هيبة و احترام لدى الريفي بات موضع تندر و استخفاف.
و قد شاع في هذه الفترة قيام العديد من المزارعين بالزواج مرة ثانية و ثالثة، كان وجود عائلة كبيرة و عدد كبير من الأبناء يمثل أحد تمظهرات القوة بعد أن أقصي الإحترام من قائمة الاعتبارات و استخف بالثقافة، كما أصبحتِ العائلةُ الكبيرة و عديدُ الأبناء قوةٌ انتاجية للعمل في الحقول، في حين كان ميل مالكي البساتين التي تحتل مساحة محدودة هو تكوين عائلة صغيرة من زوجة واحدة و ندر أن تزوج مالكو البساتين بأكثر من واحدة، فالبساتين على عكس الحقول الزراعية الواسعة تحتاج إلى قوة إلى عمل بسيطة و في مواسم قليلة كما أن مالكي البساتين ذوي ثقافة وافق اوسع مرتبط بالشعور بالاستقرار.
التعليقات
دولة بلا قانون
د.عبد الجبار العبيدي -مقالة الاخ العبيدي مقالة جيدة ورصينة، ففيها من المعلومات ما نحن بحاجة ماسة اليها.لكن مع الاسف لم يخرج الاخ الكاتب بخلاصة تبين مايريد ان يصل اليه باستثناء السرد التاريخي لمرحلة التسعينات في العراق.هذه المرحلة كانت من اخطر مراحل التاريخ العراقي حين ضعفت الدولة المركزية ودب الاستبداد الشخصي فيها،وحتى صدام نفسه لم يعد يعُر الاهتمام لمستقبل الدولة بعد ان حاصرته الاحداث والقرارات الدولية الظالمة التي فرضت على الشعب العراقي من جراء تهوره الاهوج ودكتاتوريته الخرقاء التي لم تستند الا على القوة والبطش وقتل المعارضين.وها هي النتيجة اليوم حين جاء التغيير ليوقع العراق بمأزق سياسي واجتماعي يصعب الخروج منه ولا احد يدري النتيجة المحزنة غدا.ان ما قام على باطل فهو باطل وصدام كان باطلا ومن جاء من بعده اعتمدوا على الباطل الاجنبي لذا سوف تكون النتيجة عليهم مثل السابقين بلا شك.العراق الان بحاجة الى دكتاتورية قوية جدا تتحقق فيها العدالة الاجتماعية لمحاسبة كل الخائنين وسراق المال العام الذين اثروا على حساب الشعب وما زال المال والوظيفة لهم دون الاخرين،والا من يصدق ان الرئاسة والبرلمان يصدقون على 53 سفيرا غالبتهم لا يصلح لان يكون موظفاً بسيطاً في سفارة.كيف سيمثلون العراق،وكيف سيتعاملون مع العقول الذكية في بلدان العالم الاخر،انهم امعات لا يمثلون الا احزابهم بعد ان ادخلوا حتى نزلاء السجون في قوائم السفراءونحن مستعدون لاعطائهم كل التفاصيل.انها المحاصصة اللئيمة الوخيمة العواقب فهل يدركون؟ان وزارة الخارجية مسئولة امام القانون وامام الله تجاه هذا الخرق الاخرق لها.عليها ايقاف التنفيذ.
حكومة احتلال
السمندل -والله لايوجد فتره مشوهه وحقيره وظلاميه الابعد الاحتلال وتنصيب الحكومه العميله حكومة الاحتلال الفارسيه التي حرقت الاخضر واليابس ...عراق التسعينات لم تكن هناك احزاب شيعيه ايرانيه وكان مجتمع نظيف لاتوجد فيه هذه الاحزاب الفارسيه الارهابيه صاحبة التقيه والتدمير والتخريب ..اما الان وبفضل الاحزاب الشيعيه والكرديه والسنيه الاسلامويه حولتم العراق الى اكبر حاويه لمكروبات المجتمع وتوجتها حكومة .......بأنها حطمت الرقم القياسي بالطائفيه والتبعيه ...
الى الكاتب !!!!
عزام عزام -اقتبس منك الاتي :(( رغم أن هؤلاء التجار تصرفوا بما يمكن اعتباره أمرا مألوفا بل عملا حميدا في ظل الأنظمة السياسية الطبيعية و ذلك بقيامهم بتقديم مواد غذائية و سلع مجانية أو مخفضة لعائلات كثيرة كتخصيص شهري منتظم، إلا أن هذا الفعل كان يمثل، بالنسبة للسلطة، سابقة خطيرة قد تنتشر و تعزز الفعل الاجتماعي التضامني. لم تكن الدولة لتتساهل في ذلك، ففي كل الأنظمة الشمولية يتم رصد أي فعل يؤدي الى كسب النفوذ خارج حدود ما تسمح به الدولة و يُكرّس لغير رموزها، فالإحسان ومساعدة الآخرين من مهمات الدولة و رموزها فقط.)) هل هذا نكته!!! ام انك لست عراقي ؟؟؟ام عضو في احدى غرف التجارة ؟؟؟؟امر غريب فعلا !!
رد
د.سعد منصور القطبي -ألأخ الكاتب أن تدمير صدام للعراق ليس فقط بعد التسعينيات بل منذ سنة 1968 فصدام لم يعش حياة طبيعية في ظل أب يوجهه ويمنعه من ألأنحراف فكبر وهو يحمل مجموعة من العقد النفسية فتراه حاقدا على معظم الشعب العراقي وخصوصا العوائل ألأصيلة والراقية والشريفة وقد فشل صدام في كل شيء الا نشر الرعب بين الشعب فقد نجح الى حد بعيد وأنا أتحدى كل علماء العراق أن أستطاعوا تعداد الكوارث التي سببها صدام فقد فرط في أرض العراق وأستفادت معظم الدول المجاورة من أراضي عراقية ومن لايصدقني عليه المقارنة بين خارطة العراق القديمة والحديثة كذلك تسبب بمقتل الملايين بحروبه والتي تركت ملايين ألأرامل وألأيتام والمعوقين والعوانس وأهدر مئات المليارت وترك ديون هائلة لو بقيت لما أستطعنا حتى سداد فوائدها فقط ولو بعنا نفط العراق كله لأنها تتظاعف سنويا ولكن أمريكا جزاها الله كل خير ساهمت بتخفيض هذا الديون بشكل هائل كذلك هجر صدام ملايين العراقيين ومن خيرت أبنائه وترك تخلف وجهل هائل بسبب حبس الشعب العراقي عن العالم ولمدة عقود وخرب نفوس الكثير من العراقيين بسبب الحاجة والعوز وترك دولة خربة مقارنة بأفقر دول العالم حيث أن وزارة ألأسكان منذ سنة 80 لم تبني بيت واحد وكل ألياتها وكوادرها مخصص لبناء قصور له أو لبناء مقرات للجيش الشعبي وللحزب وقطع صدام أكثر من عشرين مليون نخلة وخرب الصناعة والصحة وبأختصار فقد دمر كل شيء وكوارثه سنعاني منها لمئة سنة قادمة.
توثيق
مراقب -يسعى المقال كما هو واضح الى توثيق حقبة من تاريخ العراق على الصعيد الاجتماعي بسلبياتها و ايجابياتها و هذا التوثيق يجب أن يكون محايدا و غير محكوم بالعواطف و الانحياز السياسي قدر المستطاع فهذه المرحلة من تاريخ العراق لم يكتب عنها كثيرا و القليل الذي كُتب ربما كان يفتقر الى الاشارة الى الملامح التفصيلية للاجرءات الاقتصادية التي اثرت بعمق في البنية الاجتماعية في العراق.اما ان يكون النظام الحالي اسوأ من النظام السابق أو لا يكون فهذه مسألة أخرى لا تمنعنا بل تلزمنا أن نعالج حقبة تاريخية ما بموضوعية و بدون تحامل .ليس من المستحسن ان نقول: بما أن كل شيء سيء الآن اذن يجب ان اطري و امدح النظام السابق ، و بنفس القدر ليس صحيحا القول أن كل شيء الان في ظل النظام الحالي على ما يرام و كان قبل ذلك سيئا بالكامل لان وضعا اجتماعيا ما ليس من صنع الحكومة رغم انها احد اطراف المعادلة بل من صنع المجتمع.كما ان الظواهر الاجتماعية كما في وضعنا الراهن تنشأ و تترعرع قبل ظهورها بفترة ليست بالقصيرة ، إنه لصحيح أن الميل للعنف مسئولية كل القوى السياسية المشتركة في العملية السياسية حيث لم ترب حتى قواعدها على احترام الحوار و الاختلاف . و لكن النظام السابق مسئول بنفس القدر و ربما بقدر اكبر حين زج العراق في حروب داخلية و خارجية و مغامرات قادت العراق الى هذا الخراب.المقال الحالي توثيقي ينطوي على تفاصيل لم تتوفر عليها الصحف و الوثائق و هو مفتوح للحوار و الاغناء.
الطائفية
احمد العبيدي -ان كاتب المقالة ينطلق في جميع تحليلاته من منظوره الطائفي فهو لا يركز على ماساة العراق اليوم ولا على الكوارث التي احدثها الاحتلال الايراني الامريكي للعراق وتدمير البنية الاساسية للمجتمع العراقي ولا على الحكومة الطائفية وجميع قراراتها التي هي بالضد من العرب ولصالح ايران ولكنه من منظوره الطائفي يجعله يتصور ان صدام حسين- وليس الحكيم ولا الجلبي ولا بحر العلوم - هو الذي اجتمع مع المخابرات الامريكية في مؤتمر صلاح الدين ومؤتمر لندن و يجعله يتخيل ان القوات الامريكيةهي التي سمحت لقوات البعث - وليس لقوات المجلس الاعلى وقوات حزب الدعوة - بالدخول من ايران باسلحتها المدججة الى العراق بعد 2003 ان تحليل الكتاب الشيعة هو تحليل ينطلق من الكره الشخصي لكل من له نفس عروبي وسيضلون بعد الف سنة سيقولون صدام وصدام وصدام فهم مثلما قتلو الحسين والان يبكون عليه فانا متاكد انهم بعد مئة عام سيبكون على صدام لانه جعل الكثير منهم يدخلون الجامعات ويحصلون على الشهادات العالية بينما سادتهم لا يشجعونهم على شئ الا على اللطم والبكاء والعويل وعلى سب الصحابة والولاء لايران
إلى أحمد العبيدي ت6
فراس الفتلاوي /برلين -كيف تسنى لعبقريتك الفذة أن تؤكد ( متجاوزاً لغة التخمين ) كل هذه النعوت و الإتهامات بحق الكاتب ؟؟؟ هل تعرفه شخصياً ؟؟ هل قرأت المقال اصلاً ؟؟ و إن كنت قد قرأته ! هل كنت تبحث بين طياته عن مفردات و عبارات بعينها بعيداً عن قرآءة شاملة غير مجتزءة ؟! هل حقاً يصعب عليك تبني قرآءة توصلك إلى ما يرمي إليه المقال ؟؟ المقال بطبيعة الحال بعيد كل البعد عن إسلوبك التهجمي / الهمجي / البوليسي حيث نصبت نفسك باحثاً و مفتشاً في ضمير إنسان لا تعرفه شخصياً و لم تره في حياتك !!