كتَّاب إيلاف

أزمة الديون والرأسمالية الفائقة (1)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

قرر الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، إنشاء مؤسسات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد، للوقاية من تكرر الأخطاء التي أدت لصعود النازية. كما اجتمعت 43 دولة، في عام 1944، بمدينة برتون وود، لتمويل البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية. واتفقت هذه الدول المجتمعة على أن تكون مسئولة البنك الدولي تطوير استثمارات تنمية طويلة الأمد في الدول النامية لحمايتها من الفقر. ولتبقى مسئولية مؤسسة النقد امتصاص صدمات الأزمات الاقتصادية وذلك بترويجها لسياسات اقتصادية تقلل من مضاربات السوق وتقلباته.
وقد علق الاقتصادي جون مينارد كينسِِِ، رئيس الوفد البريطاني في محادثات برتون وود، بقوله: "لقد عرف العالم أخيرا الخطورة السياسية من ترك السوق لتنظم نفسها بنفسها. وإذا التزمت هذه المؤسسة بأنظمة تأسيسها، ستصبح الأخوة البشرية أكثر من تعبير يكرر." ومع الأسف لم تلتزم هذه المؤسسات بعالميتها منذ البداية، بل قررت الدول العظمى منع المساواة في التصويت، بل ربطوا التصويت بحجم اقتصاد الدول، لتعطى الولايات المتحدة قوة رفض "الفيتو" لأي قرار كبير، ولتسيطر أوروبا واليابان على باقي القرارات المهمة.
وقد ناقشت الكاتبة الكندية، نعومي كلين، في كتابها، عقيدة الصدمة وصعود الرأسمالية الكارثية، دور البنك الدولي وصندوق النقد في لعبة صدمة كرومان ورأسمالية فريدمان النقية. فبعد كل التغيرات والانقلابات العسكرية التي عاشتها أمريكا اللاتينية، تورطت دولها بديون كبيرة، بعد أن فتحت أبواب البلاد للشركات الأجنبية لتشتري مملكات الدولة بأسعار بخسة، كما فقد المواطنين الكثير من وظائفهم وخدماتهم الاجتماعية بعد خصخصتها. فمثلا ارتفعت ديون الأرجنتين بعد حكم الجنرال بنوشيه من 7.9 مليار دولار إلى 45 مليار، وارتفعت ديون الأرغواي من نصف مليار دولار لحوالي الخمسة مليارات. كما رفع جنرالات البرازيل بانقلابهم ديون بلادهم من ثلاثة مليارات في عام 1964 لمائة وثلاثة مليار دولار في عام 1985.
وبعد رجوع الديمقراطية لأمريكا اللاتينية، بدأ النقاش حول الديون التي تتحملها شعوب المنطقة، بعد عذابات وماسي الانقلابات العسكرية الدامية، وبعد الأرباح الهائلة التي حققتها الشركات الأجنبية بالخصخصة، وبعد صدمة كرومان الإضافية لشل اقتصاد هذه البلدان وارضاخها لرأسماليته فريدمان الفائقة. فبعد أن عين بول فولكر، أحد أعوان فريدمان، في نهاية الثمانينيات، رئيسا للبنك الاحتياطي الفدرالي، رفع الفائدة على الديون بنسبة 21%، ليعلن الكثيرين من أبناء شعوب العالم إفلاسهم، بعد تضاعف ديونهم الإسكانية لثلاثة أضعاف. كما أدت هذه الزيادة لصدمة شديدة لاقتصاديات العالم الثالث، فمثلا ارتفعت ديون الأرجنتين من خمسة وأربعين مليار دولار لخمسة وستين مليارا في عام 1989، وتضاعفت ديون البرازيل خلال ست سنوات من خمسين مليار دولار لمائة مليار، وارتفعت ديون نيجريا من تسعة مليار دولار لتسعة وعشرين مليارا.
كما ترافقت الثمانينيات أيضا بصدمة انخفاض أسعار المواد الخامة، كانخفاض أسعار القهوة والمعادن بنسبة 10%، وانخفاض سعر معدن التنك بنسبة 55%، وهي من أهم صادرات بوليفيا، مما أدى لانهيار اقتصادها. وقد تماشت جميع هذه الأحداث مع نظرية صدمة كرومان ورأسمالية فريدمان الفائقة النقية. فكلما تمسك البنك الدولي باقتصاد العولمة، بوصفته بتعويم نسب الفائدة، وتعويم العملة، ومنع تحديد الأسعار، وباقتصاد يعتمد على التصدير، توفر التدهور الاقتصادي المطلوب، للضغط على الحكومات لتنفيذ نصائح البنك الدولي وصندوق النقد. ومن الجدير بالذكر بأن طلاب فريدمان، بجامعة شيكاغو، استلموا مراكز حساسة في البنك الدولي وصندوق النقد. ولم يكن أمام دول العالم الثالث ملاذ في أزماتها الاقتصادية في الثمانينيات، غير نصائح البنك الدولي وصندوق النقد. وحينما تستغيث هذه الدول بهذه المؤسستين تجد نفسها في مواجهة مع طلاب فريدمان مرة أخرى، والذي دربهم لكي يروا الكارثة الاقتصادية معضلة ليست للمعالجة، بل فرصة ثمينة لتوسيع حدود السوق الحرة لمنتجات وأرباح الشركات الغربية العملاقة.
وقد أستغل كل من رونالد ريجن ومرجريت تشر، في الثمانينيات، هاتين المؤسستين لتنفيذ اجنداتهم السياسية، ولمصلحة الشركات الخاصة، وذلك بخصخصة خدمات الدولة ورفع القيود التنظيمية للسوق والمؤسسات المالية. واستعمرت هاتين المؤسستين، تدريجيا، من قبل طلاب فريدمان. ويتوضح كل ذلك في عام 1989، حينما أعلن جون وليمسون عن سياساته الجديدة لشروط البنك الدولي وصندوق النقد للمساعدة، والتي تضمنت خصخصة جميع مؤسسات القطاع العام، وإلغاء جميع العوائق والقيود التي تمنع الشركات الأجنبية من الملكية الكاملة، وخفض الصرف على الخدمات والمساعدات الاجتماعية، وترك أجور العمالة وأسعار المنتجات لمنافسة السوق، والسماح بتسريح القوى العاملة. وقد علق على ذلك جوزيف ستجلتز، الاقتصادي الأمريكي السابق في البنك الدولي، والمستشار الاقتصادي للرئيس كلينتون، والحاصل على جائزة النوبل بقوله: "سيخرج كينس من من قبره لو علم بما حدث لطفله."
فقد حولت عصابة شيكاغو البنك الدولي في الثمانينيات، من مؤسسة تساعد دول العالم الثالث في محنتها الاقتصادية، لمؤسسة استغلت المحنة لفرض شروطها في تحرير السوق من الأنظمة، وخصخصة الشركات العامة وخدمات الدولة، قبل موافقتها بتوفير القروض اللازمة. وقد علقت الكاتبة على ذلك بقولها: "فقد نجحت عصابة فريدمان في فرض نظرياتها على دول العالم الثالث، ووقف خططهم التنموية، وشل تحررهم الاقتصادي من الغرب، ودفعتهم لفتح أبواب بلادهم لنهب الشركات الأجنبية. فقد قام صندوق النقد الدولي، في عام 1983، بتغيرات خطيرة استمرت لعقدين من الزمن. فقد كانت من شروطه أن على كل دولة احتاجت لقروض كبيرة أن تقوم بتنظيف اقتصادها من القمة للقاعدة للتهيئة لرأسمالية فائقة نقية." وقد وصف هذه الشروط ديفيد بودو، احد أولاد مدرسة شيكاغو، والذي صمم البرنامج التعديلي الاقتصادي لدول أمريكا الجنوبية وأفريقيا خلال الثماننيات بقوله: "فكل ما قمنا به منذ عام 1983 اعتمد على مهمتنا في خصخصة الجنوب أو موته، وبهذه النهاية خلقنا، وبشكل مخزي، فوضى اقتصادية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا في الفترة بين عام 1983 وحتى عام 1988."
وفي الحقيقة استخدم طلاب فريدمان البنك الدولي، لتحقيق أجندتهم في الصدمة الاقتصادية، لإفلاس دول العالم الثالث، والفرض ببيع جميع ممتلكاتها وثرواتها الطبيعية بأسعار بخسة للشركات الخاصة الأجنبية. وكما قالها داني رودريك: "لتحمي بلدك، عليك بيعها للشركات الأجنبية بسعر بخس." ففي عام 1994 باعت الأرجنتين 90% من ممتلكاتها للشركات الأجنبية الخاصة، ففقد الملايين من العمال وظائفهم وانخفضت الرواتب، كما انخفضت قيمة عملتها لأقل من النصف. ولم تسلم شعوب الغرب من رأسمالية فريدمان الفائقة، والتي انتهت برفع القيود والأنظمة عن السوق المالية وسوق الأسهم والشركات العملاقة، ليتزايد التلاعب في السوق المنفلتة، ولتؤدي لفقاعة مخيفة في عام 2008، سببت خسارة العالم لعشرات التريليونات من الدولارات، ومحت نسبيا الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة، وزادت نسب الفقر ليصل عدد الفقراء لستة وثلاثين مليون، وليخسر ستة وأربعين مليون أمريكي تأمينهم الصحي، ولتزداد نسب البطالة للضعف في عام 2009. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف