سقط الجدار.. عاشت الحرية! [ 2- 2]
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم يكن سقوط جدار برلين غير تتويج لاقتران سلسلة نضالات شعبية في ألمانيا الديمقراطية وبقية الدول الشرقية الاشتراكية بوضع جديد في الحركة الشيوعية الدولية، ونعني ظاهرة غورباشوف، وزخم تأثيرها، محليا وخارجيا.
لقد كان التململ كبيرا داخل الدول الشرقية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ومن الصدف أن برلين الشرقية شهدت عام 1953 أول حركة قوية من أجل الحريات والحقوق النقابية والشخصية. أعقبت ذلك انتفاضة بودابست عام1956، التي قمعتها الدبابات الروسية زمن حكم خروشوف، وبعدها جاء ربيع براغ لعام 1968، الذي دمرته نفس الدبابات. إن حركة التمرد الوحيدة التي نجحت لحد ما قبل سقوط الجدار كانت في بولونيا بقيادة الزعيم النقابي فاليسا، الذي تولى السلطة بعد سنوات، فقد نجحت حركته في اعتراف السلطة الشمولية بالمعارضة. وكانت ثمة حركة تمردات واحتجاجات أخرى تمثلت في الفرار الجماعي من الدول الشمولية الشيوعية. وقد مررنا في المقال الأول بحركة الفرار لألمانيا الغربية بعد التقسيم، ثم الفرار المستمر لبرلين الغربية بعد قيام الجدار. وعندما سمحت سلطات ألمانيا الشرقية بالعبور للنمسا وجيكوسلوفاكيا عام 1989 تدفق مئات الآلاف من الألمان الشرقية للبلدين، وعانوا الكثير، وأحرجت حكومة جيكوسلوفاكيا، مما دعا سلطات بون للإعلان بأنها سوف تقبل جميع أولئك اللاجئين. ومن كوبا هرب بطرق مختلفة مليون ونصف المليون للولايات المتحدة. ومن هنغاريا هرب مئات الآلاف للنمسا، وهكذا وهكذا.
لماذا كان التململ والهجرة والسخط العام؟
السبب الأول كان هو الجو السياسي الخانق، سواء داخل الاتحاد السوفيتي نفسه أو في الدول السائرة معه. وكان هذا الجو أثقل من بلد لآخر، وكانت بلغاريا وألمانيا الشرقية في المقدمة من الدول التي تضايق الحريات العامة والشخصية وتفرض سلطة الحزب الواحد على كافة مناحي الحياة والمجتمع. ونحن نعرف كم من المحاكمات الصورية أجريت في الاتحاد السوفيتي والدول الشرقية، والتي ذهب ضحايا لها المئات من الشيوعيين والقادة أنفسهم، ممن كانوا في الغالب يجبرون على الإدلاء باعترافات مزيفة يتهمون فيها أنفسهم بالخيانة والعمالة للغرب. وشهدنا فظائع القمع والترهيب خلال "الثورة الثقافية " الصينية، والمحاكمات الصورية، وطغيان وتعسف الغلمان من الحرس الأحمر، وإجبار المثقفين وقادة شيوعيين على إذلال أنفسهم في اجتماعات عامة، ألخ.
أن الطلبة الشيوعيين العراقيين والعرب في براغ كانوا يدخلون أحيانا في جدال حار لرد الانتقادات التي يسمعونها في المقاهي أو في الجامعة ضد النظام الشيوعي، وحدثت بعض الشجارات أيضا بينهم وبين مواطنين جيك بسبب ذلك!!! ولابد من التنويه بأن السلطات في تلك الفترة لم تكن تضيق الخناق كثيرا على انتقادات كهذه في المقاهي مادامت مجرد حديث يأتي ويروح. أما في بلغاريا، فكان التضييق أشد حتى على الخصوصيات. وقال لي في حينه مسئول شيوعي عربي أنه، عند حضوره مرة مؤتمر الحزب البلغاري في الستينات, تعرف على إحدى موظفات الاستقبال في الفندق وأخذته مرتين للبيت للتعرف على عائلتها. وبعد أيام راحت تتباعد عنه، ثم اعترفت بان المخابرات طلبوا منها قطع العلاقة. كل أجنبي كان مشبوها ولو كان مسئولا شيوعيا! وفي منتصف الثمانينات نظمت اليونسكو مؤتمرها العام في صوفيا، وصباح يوم علمنا أن البوليس داهم في الليلة السابقة غرفة في الفندق نفسه كانت تسكنها موظفة فرنسية في اليونسكو لأن رجلا بلغاريا من موظفي المؤتمر كان معها! واشهد أن مثل تلك الظاهرة لم أشاهدها شخصيا في جيكوسلوفاكيا. أما في موسكو، فلم تكن ال "ك.ج. ب" أحيانا تمنع الفتاة من الاتصال بأجنبي، بل تضغط عليها لتكون مخبرة، حتى لو كان الأجنبي زعيما شيوعيا! وأعرف العديد من تلك الحالات، والحديث هو عن أعوام 1959 - 1961، وأعني تجربتي الشخصية. وأذكر أيضا أنني ذهبت لبرلين الشرقية أواخر 1969 لمعالجة عين معطوبة. وكنت يوما في المقهى مع صديق عراقي في مقهى وبجوارنا مجموعة شباب كانوا يتحدثون بحماس، وترجم صديقي أنهم كانوا ينتقدون النظام بشدة، ويشيدون بالحياة في برلين الغربية. فما كان منا إلا أن شمّرنا عن سواعد الدفاع عن النظام، فتعرضنا لنظرات استغراب شديد - علما بأن السلطات طلبت مني بعد إقامتي أسبوعا واحدا فقط مغادرة البلد خلال 24 ساعة باعتباري "عدوا للاشتراكية"، قاصدين انقطاع صلتي بالحركة الشيوعية العراقية. بل وطلبت من المستشفيات عدم معالجتي؟!
وقائع القمع الدموي في الدول الاشتراكية لا تعد ولا تحصى، وكان أول فاضحيها بالنسبة للاتحاد السوفيتي خروشوف عام 1956.
السبب الثاني، كما أرى، هي الهيمنة السوفيتية، لحد استخدام الدبابات لقمع كل حركة قوية. وكنت في براغ أسمع من مواطنين جيكيين شكاوى كثيرة عن تلك الهيمنة، مع شكاويهم من طغيان الحزب وامتيازات المسئولين واحتكارهم للمناصب، بما فيها ضباط الجيش.
السبب الثالث: كان الانبهار بالتقدم الغربي، والثقافة الغربية، والسلع الغربية، الممنوعة إلا على من يحمل الدولار. وكان ذلك من بين أسباب ظاهرة الفرار من برلين الشرقية للغربية برغم الجدار وخطر الموت.
يقول غورباشوف في نقد تردي نوعية السلع الاستهلاكية والخدمات والتخلف العلمي والتقني في الاتحاد السوفيتي:
" إن صواريخنا تنطلق إلى كوكب الزهرة.. ومع ذلك فنحن نعاني من التخلف في المنجزات العلمية والخدمات." ويقول:
" رغم وجود أموال هائلة في الصناديق الاجتماعية للإنفاق على شؤون الصحة والتعليم ودور الحضانة ورياض الأطفال، فهناك قصور في هذا الميدان"... "كما أننا لم نستطع تلبية متطلبات السكن، والغذاء، والنقل، والبضائع الاستهلاكية، والخدمات التعليمية والطبية.. رغم أن الاتحاد السوفيتي يشغل المكان الأول في العالم من حيث إنتاج الحبوب، وعدد الأطباء، وعدد الأسرّة في المستشفيات، والملاكات العالية التأهيل... إلى جانب الإنتاج الضخم للفولاذ، والخامات، والوقود، والطاقة.." ويقول أيضا:
" إن نوعية منتجاتنا - على حد ما يردده الناس في بلادنا - هي مخجلة حقا." [ انظر ص 351 من كتاب "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي" للفقيد عامر عبد الله.]
إلى كل هذا، يجب أن نضيف بالطبع حملات الدعاية الغربية المستمرة عن "الستار الحديدي"، ونشر الوقائع عن عمليات القمع داخل الاتحاد السوفيتي والدول الشرقية. كما كان للحركات الطلابية - الشبابية الغربية في 1968 صدى كبير بين الطلبة والشبيبة في الدول الاشتراكية، ووصل تأثيرها حتى للصين عام 1969 فيما سمي بربيع الصين فيما بعد، وهو الربيع الذي دمرته السلطات بالحديد والنار.
أما عن تأثير خورباشوف، فقد أكدنا عليه في المقال الأول، وكيف أن مناداته ب"ديمقراطية أكثر واشتراكية أكثر"، وإجراءاته الديمقراطية داخل الحزب السوفيتي، كانت عظيمة التأثير في تقوية معنويات الجماهير الساخطة على الأنظمة الاشتراكية، وخصوصا على شعب ألمانيا الديمقراطية.
مشروع غورباشوف كان إصلاحيا، ولكنه كان قاصرا لأنه ظل يحلم "بنظام اشتراكي" أكثر تقدما بدلا من الخروج من قوقعة الحلم بذلك النظام، وبدلا من الاعتراف بتعددية الأحزاب، والخروج من دائرة تخطيط الدولة المركزي للاقتصاد، ونظام الحزب الواحد.
لقد تعرض غورباشوف لحملات واتهامات حتى بالعمالة للغرب وبمسئولية الانهيار السوفيتي والكتلة الشيوعية، وترك الديمقراطيات الشعبية السابقة نهبا للغرب. ومن ردوده على تلك الاتهامات قوله مؤخرا:
" ماذا أهدرت؟ إنني أعدت بولونيا للبولونيين، وجيكوسلوفاكيا للجيك والسلاف." و" أما روسيا فقد عادت للروس أيضا." ومهما قيل عن هذا الرجل، فإنه يستحق أن يكون في مهرجانات برلين الكبرى ضيف شرف بارزا، فهو من الرموز البارزة لتوحيد الألمانيتين وانتهاء عصر الحرب الباردة.
أخيرا: يقال إن الانهيار السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية أديا لقيام عالم ذي قطب أوحد، هو أميركا، "المراوغة"، والمتعطشة للعنف والحرب. هذا ما سوف نناقشه في مقال قادم.
[ كتب هذا المقال عشية احتفالات برلين]