كتَّاب إيلاف

الأخوة الأعداء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كتاب "سياسة الصداقة" للفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" ( 1930 - 2004 ) كتاب مقلق ومزعج، خاصة لأولئك الذين أرتاحوا لاستقرار المفاهيم وثباتها. ويكشف لنا دريدا: كيف أن مفهوم "الأخوة"، وهو من أكثر المفاهيم اتفاقا وأقلها خلافا بين البشر، وأحد مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية، الإخاء، المساواة، لا يأخذ كامل معناه ومبناه إلا من نقيضه، ألا وهو مفهوم "العدو".
ويثبت في الوقت نفسه أن المواقع التي يحتلها، كل من rdquo;الصديقrdquo; وrdquo;العدوrdquo; ليست ثابته، وإنما هي تتبدل بإستمرار في مسيرة التاريخ والجغرافيا: ليصبح العدو صديقا، والصديق عدوا. ففي مجال السياسة، لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، فقط توجد (مصالح) دائمة.
مما يؤكد علي أننا لا نستطيع أن نضمن ثبات "الصداقة" أو "الأخوة" واستمرارها، كما أنه ليس في وسعنا أن نكره الآخرين علي صداقتنا إلي الأبد، فقد ينقلب الصديق إلي عدو والعدو إلي صديق، ذلك أن هذا التماثل المزعوم بيننا وبين الصديق، كما يقول دريدا، يقوض الاختلاف بيننا ( ويقوضه اختلافنا في نفس الوقت )، ومن ثم علينا أن نواجه بشجاعة في المجال السياسي هذه rdquo; المعضلة rdquo; المتمثلة في: وجود (الصديق العدو) و(العدو الصديق).
لقد فطن دريدا إلي أن أي خطاب - Discourse، لا ينفصل عن "إرادة القوي" وأنه مشبع بالصراعات السياسية واللغوية والنفسية. وكل محاولة لإزالة هذه الصراعات عن طريق البلاغة اللفظية وصياغة مفهوم عام أو مصطلح متجانس يعلو فوق هذه الصراعات، إنما يفضي إلي فشل ذريع، أو قمع شمولي. (1).
هكذا تتبدل مواقع "الصديق" و"العدو": ليصبح العدو ( توأما ) للأخ والصديق، وحيث لا وجود للأخوة دون وجود الشقيق، فإن ( الأخ ) و ( الصديق ) يصبح جزءا من "الذات". وبعبارة أخرى: إذا كانت الأخوة تفترض عدوا دائما، فإن العدو هو الذي يتشكل ليس فقط من هوية الصديق، ولكن أيضا من ذاتية الذات.
وهكذا، يتخذ "التفكيك" عند "دريدا " موقعه داخل بنية التناقضات والتعارضات والثنائيات الميتافيزيقة التي عمد التقليد الفلسفي الغربي، علي الحط من أحد معانيها دائما، مثل ثنائية: (الصديق / العدو)، "الأنا" و "الآخر"، التي مكنت الذات الغربية من التمركز حول ذاتها.
ويشير دريدا أكثر من مرة إلي الفيلسوف السياسي وعالم القانون الألماني "كارل شميت" تحديدا، الذي كرس منطق "الصديق" و"الأخ" و"الشبيه" علي مدار القرن العشرين، واعتبر "الآخر" و "المختلف" بشكل عام، خطرا يجب التخلص منه مهما كلفنا الثمن. وتلك هي الأفكار ( النازية والفاشية والأصولية ) التي مهدت الطريق لإبادة اليهود في زمن النازي، وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية الأخري، حتي اليوم.
يقول " رشيد بو طيب": ان السياسة - عند شميت - هي قبل كل شيء القدرة على استكشاف "العدو"، وهي ترتكز في نظره على التفريق الصارم بين الصديق والعدو، وهذا يعني أنه لا يمكن فهم السياسية إلا على أساس الصراع بين القوميات المختلفة وهو صراع قد يصل إلى مرحلة الحرب... ومن المعروف أن الحرب تمثل التحدي الأخطر في مجال السياسة لأنها مسألة حياة أو موت" (2).
ويبدو ان دريدا لم يكن وحيدا علي هذا الدرب، فقد رافقه "جاك لاكان" الذي أثبت من خلال دراساته في التحليل النفسي: أن البشر جنسٌ يخاف أعضاؤه بعضهم بعضا أكثر من خوفهم من بيئتهم الطبيعية، بما فيها الحيوانات المفترسة والجوع.... إلخ. لذا فإن: "(العدو) في القطيع الحيواني يأتي من خارجه، أما في القطيع الانساني فيكمن في داخله".
أما "رينيه جيرار" فأكد في كتابه " العنف والمقدس" علي أنه: " في العهد القديم والأساطير الأغريقية، ( الأخوة ) هم تقريبا علي الدوام متعاونون، والعنف الذي يبدو أنهم مدعوون لامحالة لممارسته ضد بعضهم البعض، لا يمكنه ان يتبدد أبدا إلا علي ضحايا "تكون طرفا ثالثا"، يمكن التضحية بها، إذ لا يمكن خداع العنف الا بشئ يقدم اليه ليضعه تحت ضرسه " (3).
ملحوظة: لم يمهل القدر جاك دريدا ليتأكد من صدق أفكاره في المباراة الأخيرة بين الجزائر ( مولده الأصلي ) ومصر في موقعة أم درمان بالسودان، والتي غابت عنها الروح الرياضة والمنافسة الشريفة، أو قل، استحضرت الروح العدائية ( الدفينة ) بين الأخوة العرب.

الهوامش:
1 - Rayn (Michael): Marxism and Deconstruction, A critical articulion, London, Baltemore, JohnHopkens University Press 1982, P. 114.
2-
http://www.dw-world.de/dw/article/0,,1550329,00.html
يروي عن "موسيليني" أنه كان يمسك بيده شمسية في إيطاليا، رغم أن الجو كان صحوا. وهو ما أثار فضول أحد الصحافيين، ليسأله؟.. وأجاب: لأن ( صديقي ) "هتلر" يمسك بالشمسية الآن في ألمانيا بسبب غزارة المطر!
3- جيرار (رينيه): العنف والمقدس، ترجمة: جهاد هواش وعبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق 1992، ص: 96.

dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
ن ف -

مقالتك جميلة جداً.. يؤسفني أني التفت إلى كتاباتك قبل بضعة أسابيع. لعلّ اجمل ما في مقالتك هو ما ورد في المقطع الأخير، تحديداً ((موقعة ام درمان))! ضحكت وضحكت حتى أدمعت عيناي. اعتقد ان من سيقتل في هذه الموقعة سيعتبر ((شهيدا))ً! يا لنا من امّة بائسة!

تعليق
ن ف -

مقالتك جميلة جداً.. يؤسفني أني التفت إلى كتاباتك قبل بضعة أسابيع. لعلّ اجمل ما في مقالتك هو ما ورد في المقطع الأخير، تحديداً ((موقعة ام درمان))! ضحكت وضحكت حتى أدمعت عيناي. اعتقد ان من سيقتل في هذه الموقعة سيعتبر ((شهيدا))ً! يا لنا من امّة بائسة!