كتَّاب إيلاف

أزلية صراع الشمال والجنوب: فرضية تفسيرية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لعل في كل بلد يوجد شكل أو أكثر من أشكال الصراع بين شماله وجنوبه، ومن أشكال الصراع هذه، العسكري والسياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها. هذا إضافة إلى صراع (شمال- جنوب) على صعيد العالم (وإن اعتبره البعض وهميا) والذي يتجسد في وجود كتلتين على مستوى العالم تتنازع الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد والمناصب في الهيئات والمنظمات الدولية.
الأمثلة كثيرة على صراعات الشمال والجنوب وليس بالضرورة أن يكون الشمال شمالا جغرافيا، والجنوب جنوبا جغرافيا مطلقا، فقد يكون مركزه الوسط مثلا، حيث تتبعه باقي الأقاليم أو يكتسب صفة التعميم كنتيجة مقارنته بنده أو غريمه.
ومن أمثلة صراعات الشمال والجنوب التي شهدها عالمنا العربي وتجسدت بصيغ عسكرية وسياسية هي تلك التي وجدت في البلدان التالية: اليمن والسودان ولبنان والعراق، ولعل المغرب يضاف إلى هذا النمط من الصراع إذا ما اعتبرنا الصحراء (مركزها مدينة العيون) التي تقاتل جبهة بوليساريو من أجل انفصالها. وعالميا لدينا أمثلة من الكوريتين والولايات المتحدة الأميركية وتركيا وايرلندا والفلبين وسريلانكا وايطاليا وفرنسا وغيرها.
أما أشكال الصراع الثقافية والاقتصادية بين شمال وجنوب كل بلدان العالم العربي والعالم تقريبا فهي موجودة. وعادة ما يكون الصراع بين شمال غني مترف وجنوب فقير. جنوب غني بثرواته وشمال مستغل لها. شمال متعلم أو أكثر تعليما وجنوب جاهل أو اقل تعليما. شمال عامر وجنوب خرب. شمال مهيمن حاكم وجنوب خاضع محكوم. تكاد تكون هذه القاعدة مع وجود بعض الاستثناءات. وهذا ما يفسر أسباب قيام الثورات الداخلية والصراعات العسكرية بين هذين الطرفين.
حتى في معظم البلدان الصناعية الكبرى، تجد شمالا صناعيا وجنوبا فلاحيا أو مزودا بالعمال. هكذا كان الحال مع بريطانيا كما صورته رواية الكاتبة اليزابيث غاسكال (1810-1865) مثلا والمعنونة (شمال- جنوب North and South)، ومع ايطاليا حيث كان يهدد وحدة البلاد كما ذكره الفيلسوف غرامشي (1891-1937).

إلى جانب هذا وذاك فهناك فوارق اثنية (عرقية) وتمايز ثقافي، أي خصوصية لكل (إقليم) وفقا لعناصر الثقافة من قبيل اللغات واللهجات والاديان والمذاهب والعادات والتقاليد والخصوصيات الثقافية الأخرى.

ما الذي يجعل هذا الصراع الأزلي وهذه الجدلية التي يكاد يكون تفسيرها غامضا؟؟؟
أي لماذا شمال- جنوب أكثر مما هو شرق- غرب، أو وسط وأطراف مثلا؟؟
لنمهد أولا لفكرة تفسير ذلك من خلال مقاربة مع ما طرحه إبن خلدون والذي سبق غيره في التفكير الاجتماعي حينما أشار إلى ما بات يصطلح عليه في علم الاجتماع بـ(الحتمية الجغرافية geographical determinism)، حيث تطبع الجغرافيا خصائصا معينة وفقا للمناخ وطبيعة الأرض على سكانها، لهذا يخلق التمايز بين البشر. ومع عدم اتفاقنا التام على هذا التفسير الذي كان موجها بصفة خاصة لوصف سلوك الأجناس. ففي المقدمة الرابعة من (مقدمة ابن خلدون) في أثر الهواء في أخلاق البشر يقول ابن خلدون " و لما كان السودان (اصطلاح سابق يطلق على الأفارقة عامة) ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم، كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً و يجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر و أشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول و الجبال الباردة و قد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم و الخفة و الغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم و امةً مأكلهم من أسواقهم. ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن و كيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء و الله الخلاق العليم".
من هنا ننطلق ولا نصف السلوك إنما نوَصٍف حالة الصراع وأسبابها. فالتفاوت الجغرافي سواء في طبيعة (طبوغرافية) الأرض أو المناخ ينعكس على الاستقرار والإبداع والانجاز وامتلاك عناصر القوة والنفوذ. وبما أن الاتجاه شمالا يعني اعتدال المناخ بالضرورة أو ميله للبرودة في نصف الكرة الشمالي، فهذا يعني أن الأقاليم الشمالية وإن كانت داخلية في كل بلد تمتاز بفرص العمل والإبداع والإنجاز، وتمنح فرصا للسيطرة والنفوذ. بل لعل أدوات القوة والسيطرة مثل رؤوس الأموال والكفاءات تتجه شمالا، ويتم استقطابها حيث اعتدال المناخ. وتبرز فرص أفضل في الشمال للأحوال الصحية والتعليم والعمل وبناء المركزية والنفوذ وسبل العيش الأفضل مقارنة بالجنوب المناظر. وإن تفاوت الثروات والفرص والظروف تلك، يجعل سببا للصراع. كما أن التفاوت الجغرافي يخلق الخصوصيات الثقافية التي اشرنا إليها سابقا.
والأصل يبقى هو النزوع إلى المناطق الأكثر برودة أو اعتدالا في المناخ، وهكذا نجد المعادلة مقلوبة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، حيث يكون الإتجاه جنوبا بحثا عن جو أكثر برودة واعتدالا. والأمثلة في جنوب إفريقيا حيث تكون المدن العامرة والمزدهرة مثل كيب تاون، وجوهانسبرغ وغيرها في أقصى الجنوب، وفي استراليا مدن سدني وكانبيرا واديلايد وبيرث وبريزبان وغيرها.

الخلاصة إذن هي في مسألة التفاوت المناخي الذي يخلق الخصوصيات الثقافية والاقتصادية والتي بدورها تؤدي إلى التفاوت في الإمكانات وما ينجم من أشكال الصراعات هذه، ولا ننكر وجود الاستثناءات، فلكل قاعدة استثناء.
* د. حميد الهاشمي، مختص بعلم الاجتماع، لندن: www.al-hashimi.blog.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مختلف
karim -

مقالة جيدة بامتيازبحثت في الانترنت فلم اجد سوى مقالتين كتبتا بنفس الموضوع ولكن وكاتباهما كانا يتساءلان فقط عن اسباب الصراع دون تفسير له. ولكني هنا وجدت التفسير من خلال هذه الفرضية . انه مقنع جداشكرا للكاتب.

تحياتي يا د. الهاشمي
إبراهيم عبد الرحمن -

ماشاء الله وكان من أجمل ما كتب في هذا الموضوع حقا، ولو أن شهادتي مجروحة في استاذي حميد الهاشمي، ومع أن موضوع الجو والطقس، لايمكن اغفاله أو التقاضي عنه في مسائل الصراع، إلا أنني أظن والرأي للدكتور حميد أن أهمية الصراع تكمن في طلب السلطة والسياسة والنفوذ والمال والاقتصاد أكثر من أي شىء آخر، كما هو سائر وملاحظ. أما الأموال واستثمارها ومحاولة الكسب الاقتصادي، فهي تنشد الأماكن التي تجد فيها تربة خصبة، بصرف النظر عن عن الأجواء باردة أم حارة، ولو كان للأخيرة بعض الأثر بلا شك كما أشار حضرة الدكتور الهاشمي، فرأس المال كما يقولون جبان، يهرب من أول نزاع سياسي أو تدهور في النواحي الأمنية أو أية مؤثرات اقتصادية حمائية أو حمركية أو سحب للإمتيازات المالية الممنوحة، أو شيئا من التضييق عليها، أو تقييد لحركة العملات المحلية والدولية.. إلخ ومثال ماليزيا وتشريعاتها، والصراع الذي خاضه مهاتير محمد في فترة مع الغرب. أظن أنني خرجت عن الموضوع واسترسلت اعتذر للدكتور الهاشمي أبراهيم بن عبد الرحمن الجوف ماجستير فلسفة من بريطانيا

الشمال الجنوب
حسن الهاشمي -

بالتأكيد الموضوع يتضمن محاولة متميزة لتسليط الضوء على بعض جوانب جدلية الشمال و الجنوب و اضيف هنا ان مصطلح الشمال و الجنوب اطلق بشكل واسع على التفاوت في النمو بين الدول الغنية و الفقيرة. و قد شاع كثيرا بعد اتساع نطاق ظاهرة العولمة بشكلها الجديد بحيث اصبح هذا المفهوم يستعمل للتمييز بين دول الشمال الغنية و دول الجنوب النامية او الفقيرة.

لم تكن هذه الحال
سعيد -

دراسة جيدة وتطبق على العصر الحالي وليس على ماسبقه. فمثلا عبر كل التاريخ كانت بلاداوروبا الجنوبية (اليونان وايطاليا واسبانيا) هي بلاد الغنى والعلم والحصارة بينما بلاد شمال اوروبا ( المانياو اسكندنافية..الخ) كانت بلاد البرابرة والفقر والتخلف . وطبعا بلادنا العربية كانت بلاد الغنى والعلم والفكر الحر قبل ان يسيطر علينا رجال دين متزمتون. ولاننسى ان الشرق كان دوما مرادفا للغنى والغرب باستثناء روما كان رمز الفقر والتخلف . ارجو من الله ان يعيد علينا تلك الايام ايام ابن رشد والرازي والجاحظ والمفكرون المعتزلة الذين دافعوا عن ديننا بالمنطق والعقل وليس بالاحزمة الناسفة والبعمليات الانتحارية الارهابية

تحية للدكتور الهاشمي
د.محمدعرب الموسوي -

لم يكن المنخ او الطوغرافية سببا رئيسيا في مثل تلك الصراعات بقدر ماللايدلوجية اهميه في ذلك.فكثيرا ما نلاحظ ان منطقة او اقليم في الجنوب ينعم بخيرات الا ان اهله مغيبين عن اتخاذ القرارات .نتيجة لحالة تراها السلطة المركزية التي قد تصل لسدة الحكومة بطريقة غير شرعية ولان هذه السلطة قد تشكل الاقلية في هذا البلد او ذاك ينتابها شعور بان هذا الاقليم قد يفكر اهله بالانفصال او التحالف مع قوى خارجية للانفصال .وهذا ماهو موجود في عالمنا العربي مقالة ممتازة وعرض شيق كما عودت قراءك.كما ابدعت في تحليل الصراع بطريقة علمية سلسة

المناخ
احسان الحسناوي -

انا في اعتفادي ان للمناخ دور اساسي في هذا الموضوع فترى الشمال دائما يمنعم بظروف المناخيه التي تبرز جمال الطبيعه ويوفر المصادر الطبيعيه التي تساعد الانسان على استغلالها بشكل جيد وبتالي مردود اقتصادي عالي وتنوع في مصادر العيش مما يشجع الكثير ومنها الحكومات علي الاستغلال والعمل في مناطق الشمال اكثر من مناطق الجنوب واود ان اذكر ملاحظه اخرى ان اصحاب الشمال في اغلب الاحيان يتميزون بالبشره البيضاء اما اصحاب الجنوب فيتميزون بالبشره السمراء الفاتحه ولو اخذنا ابن الجنوب ووضعناه في الشمال لتميز باللون الابيض مما يدل على تاثير المناخ حتى في هذا الجانب مع شكري الجزيل للدكتور الهاشمي على هذا الموضوع الجميل