كتَّاب إيلاف

تأسيس منهج النقد الذاتي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

انتهت حرب غزة في شتاء 2009م بعد ثلاث أسابيع من اندلاعها، وقتل فيها أكثر من ألف إنسان، قسم كبير منهم نساء وأطفال، ومن قبل انفجرت حرب لبنان في عام 2006م ودامت أكثر وكلفت أكثر.
وفي كلا الحربين خرجت إسرائيل بحماقة أكبر من حماقة هبنقة وأشعب معا، بظنها أن القوة سيدة الحلول، وغفل عنها أن القوة تخلق من العدو غولا، كما فعلت قرطاجنة من قبل مع روما، التي أصبحت ورما لا يكف عن التضخم، حتى التهم من حوله ونفسه في النهاية..
وكذلك ستكون نهاية إسرائيل، كما يتوقع لها السلامي الإسرائيلي أوري أفنيري في مقالته عن قميص نيسوس، وهو كائن أسطوري رأسه إنسان وجسمه حصان، كلفته امرأة هرقل أن يذهب بقميص نسجته لهرقل، أن يغمسه في ينبوع الحب كي يزداد هرقل لها حبا؟ فغمسه نيسوس في ينبوع البغضاء فلبسه هرقل فمات به؟؟
يقول أفنيري وكذلك سنموت بهذا القميص الفلسطيني الذي لبسناه..
والموضوع ليس هنا فقد خرجت إسرائيل من حرب لبنان بمراجعة قاسية للذات، أو بمصطلح علم النفس بما يعرف بـ (النقد الذاتي) واستجوبت 74 رأسا مهما من ماكينة الحرب والدولة لتصل بتقرير فينوغراد أن لعبة لبنان بالنار لا يجعل النار لعبة..
وهي راجعت نفسها على أبأس مع حرب غزة التي ستكون ربما آخر حرب بين بني صهيون والفلسطينيين، بعد أن وضعت أوزارها مع الحكومات العربية..
ولكن السؤال الكبير والتأسيسي أنه لا في حرب لبنان عندنا قام رجل رشيد فقال لنقوم بنقد ذاتي ونقول ماذا ربحنا وماذا خسرنا، وما هو الأرجح بين الربح والخسارة؟؟ فهكذا تفعل الأمم الحية..
إن هذه الروح أي روح النقد الذاتي لا توجد في قواميسنا الفكرية بالأصل سواء من يمشي خلف آيات الله عفوا أو من يمشي خلف أولياء الشيطان من أي اتجاه كانوا..
ونحن لسنا في صدد اتهام شخصية أو حزب أو اتجاه..... فسهل النيل من أحد وعظيم أثر النقد وجميل أثر الثناء، ولكن علينا تأسيس طريق بين ذلك قواما..
فهي محاولة في وضع وتنهيج طريق مزدوج سريع للبناء الحضاري، أعني بنا ء وتأسيس منهج النقد الذاتي، الذي هو إعلان الوعي والعقلانية وتدشين وحدة العمل الناجحة وشق الطريق بعقلية علمية تقية للمستقبل..
فهل يا ترى تقوم القيادات في المنطقة بمراجعة تجربة غزة في هذا الضوء؟؟

لماذا كان الحبس الانفرادي للسجين عذاباً لا يطاق؟
يعتبر الحبس الانفرادي للسجين عذاباً لا يطاق بسبب الوحدة، فقد جاء في كتاب (الخواطر) للفيلسوف الفرنسي (باسكال) ما يلي:
(كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن الاعتكاف ومن هنا جاء ولع الناس بالضوضاء والجلبة ومن هنا كان السجن عذابا مريعا ولذة الوحدة أمرا يستعصى فهمه)
وألم الوحدة مصدره فقدان الاتصال بالعالم الخارجي ومواجهة الذات، فمواجهة الذات إذاً هي ذلك الحقل المملوء بالصخور والعناء والمجهول، وهذا يعني بكلمةٍ أخرى أن أعظم اكتشاف لم نمارسه بعد هو معرفة حقل النفس الداخلي، وأن القارة المجهولة التي لم نطأها بأقدامنا بعد؛ ليست تلك المختفية وراء لجج المحيطات، بل هي دماغنا الذي نتعامل بواسطته مع العالم كل لحظة حتى في النوم، فقد تمت دراسة الدماغ كهربيا وقت النوم؛ فظهر أنه يستمر في العمل بدون توقف، وهذا يفسر انكشاف حلول بعض المعضلات بعد النوم، لان الدماغ اشتغل منفردا على حلها بآلية مستقلة...
وإذا كان وعي الذات هو أرفع أنواع الوعي؛ فإنه يمثل انقلاباً نوعياً في تصور المشاكل وهندسة معالجتها ، فالبشر اعتادوا وما يزالون عند اندلاع المشاكل اتهام الآخر وتنزيه الذات، وهذا يحمل مجموعةً من الأخطاء القاتلة.
ومثلا وباعتماد آلية (لوم الآخر) نكون بشكل آخر قد أحيينا آلية (تنزيه الذات) وتقديسها بعصمتها من الخطأ، فالعلاقة مرتبطة جوهرياً وبشكل غير مباشر، بين (إدانة الآخر) و(تقديس الذات) وعبادتها، وكأن طرفي العلاقة طرفي رافعة.
ومع انطفاء روح المراجعة الذاتية، وتجميد آلية نقد الذات، يكون الحقل الذي يجب أن نحفر فيه لحل المشكلة قد زُحزح تماماً، وفي الوقت الذي نعترف بمشاركتنا ولو الجزئية في المشكلة، نكون قد بدأنا بالحراثة في الحقل الخصب، أما اتهام الآخرين وتنزيه الذات؛ فإنها تلحق الشلل الكامل بآلية تطهير الذات وإمكانية تصويبها
وهو الأمر الذي جعل بلدية هيروشيما تغير العبارة الواردة حول جهنم النووية من عبارة لن ندعهم يعيدون الشر إلى عبارة لن ندع الشر يتكرر، فهو اعتراف غير مباشر أن الكل شارك في إيقاد جهنم النووية..

لماذا إذن 400 رأس نووي عند إسرائيل؟؟
ونحن في الشرق الأوسط قد نكون سببا في تفجير حرب نووية، فالعقل العلمي منفتح على كل الاحتمالات، وإسرائيل حسب كتاب سيمور هيرش عن سلاح المعبد، انتقى بعناية عنوان الكتاب من قصة موجودة في التوراة عن شمشون ودليلة، حيث مارس الرجل لعبة الانتحار الأعظم على نفسه وأعداءه!!
ولكن يبقى سؤال جانبي لا ينتبه له أحد وهو لماذا بنت إسرائيل هذه المدرعة النووية من 400 رأس نووي من كل الأجيال الخمسة، الانشطاري والالتحامي والنتروني والمكبّر والمصغّر، إذا كان الأمر يتعلق بمسح عشر عواصم عربية مع سد النيل ودجلة والفرات، وإحداث ما يشبه طوفان نوح في المنطقة؟

لماذا إذن 400 رأس نووي؟؟
إنني أزعم لنفسي أن إسرائيل في لحظة غرغرة الموت، سوف تمسح قبل العواصم العربية، الحواضر الألمانية انتقاما لآوسشفيتس، وما أدراك ما سقر؟؟

مابين موقفين: آدم والشيطان؟
إنه لم يكن عبثاً أن تكررت قصة آدم والشيطان في كل الكتب المقدسة لأنها تحمل مجموعةً ضخمةً من الرموز لكل تجليات الوجود الإنساني، فالتناقض بين موقفي آدم والشيطان والتبعات الرهيبة التي بنيت عليهما؛ انبثقت من هذه الحركة في اتجاه النفس للداخل أو الخارج؟ في مراجعة الذات أو في اتهام الآخر؟
أما الشيطان فاختار الأسهل؛ وأخرج نفسه من المشكلة؛ فهو غير متهم ولا ملام عن موقفه؛ حين أحال خطأه إلى مصدر خارجي فعزاه إلى الله (بما أغويتني)، فهو إذاً لم يخطئ.. هو إذاً كامل؟!
بكلمة أخرى رفع نفسه إلى درجة الكمال الإلهي الذي لا يعتريه النقص ولا يقاربه الخطأ!!
في حين كان موقف آدم أنه قام بمراجعةٍ قاسيةٍ للذات، وكانت المرأة (زوجته حواء) معه يداً بيد في هذا الاختبار القاسي، الذي لولاها ودعمها ودفئها الروحي ما نجح فيه، فأنشد كلاهما (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، فالمرأة هنا لعبت الدور المصيري في إنقاذ الجنس البشري؛ كونها خزان الرحمة الذي لا ينضب، خلافاً للأسطورة الشائعة أن حواء هي التي أغوت آدم بالخطيئة، فأكل التفاحة من الشجرة المحرمة، ومع هذه المراجعة النفسية ومواجهة الذات والاعتراف بالخطأ، أمكن لنا نحن البشر أولاد آدم، أن ندشن إمكانية الارتفاع بدون توقف، في رحلة العروج الروحية إلى الله، في الوقت الذي فشل الشيطان في الرهان.

مجموعة من الأفكار التأسيسية
هناك مجموعة من الأفكار (التأسيسية) يجب أن نتعلمها ونعيدها ونحييها في الثقافة من جديد، ولا مانع من صياغتها على شكل قواعد، وفكرة النقد الذاتي من جملة هذه الأفكار (الحيوية) فهي تؤسس عندنا أن لا نلوم أحداً عند وقوعنا في الخطأ، مع كل إدراكنا الكامل أن الآخر مشترك في توليد الحدث، حرصاً على مبدأين:
الأول:(توفير الطاقة) فاللوم يشل طاقة الاستنفار للعمل والإصلاح، كونه يحذف الذات من الحدث، طالما كان كبش الفداء الممثل في الآخر موجوداً. وإذا كان فاعل الجريمة معروفا فقد توقف بحث الشرطة.. ولكن ماذا لو كان المجرم طليقا والشرطة تغط في النوم؟
هذا هو واقع العالم الإسلامي في معظمه...
والثاني:(توجيه الطاقة) للعمل في الحقل المفيد؛ فطريقة (الشيطان) حينما قام بتبرير خطأه، بأنه غير متسبب فيه، وأن الله هو الذي دفعه إليه (بما أغويتني)، ترتب عليها أنه دخل في طريق اللا عودة بالنسبة للتوبة والرحمة، أي قطع الطريق لأي إمكانية في الإصلاح المستقبلي، ومن الغريب أن الشيطان ينتبه إلى هذه الحقيقة ولكن بشكل متأخر حيث لا فائدة، فالقرآن يذكر عنه أنه يقوم (يوم القيامة) فيعترف أنه لم يكن له سلطان على الناس (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) وهذه الحكمة التي نطقها الشيطان تمثل قانوناً صارماً في التعاملات اليومية، وهي أن لا نسلط اللوم على أحد حتى ولو كان الشيطان!
وفي هذا الضوء الجديد، عندما يسلط على العامل الداخلي، يمكن فهم الأمور قد اختلفت أولياتها، فالحقوق تأتي ليس بالمطالبة بل بالقيام بالواجب، والاستعمار ظاهرة امتصاصية لوجود القابلية لها، والحضارات تنتحر داخلياً، والدول تنهزم بالتفكك الداخلي، والعضوية تمرض بضعف المقاومة أكثر من سطو الجرثوم، وسقوط الغصن بالنخر الداخلي أكثر من زوبعة الريح، ووجود إسرائيل بتناقضات الوسط العربي أكثر من جبروتها الذاتي وأسلحتها النووية الضاربة!.
وهكذا فآلية النقد الذاتي تتجه إلى الداخل، إلى العمق كي تكتشف الآليات النفسية الدفينة، فهي تقوم بإماطة اللثام عن نظام العوامل الداخلية التي يمكن السيطرة عليها، وبالتالي التدخل لاحقاً في توجيه الأحداث وهندسة مصيرها.

(النقد الذاتي) أو علم الجرح والتعديل
آلية النقد الذاتي ترى أن هناك حقلين متشابكين للأحداث (داخلي وخارجي) ولا يوجد حدث بدون تشابك مجموعة العناصر هذه، ولكن هذين الحقلين مختلفان للغاية من ناحية الاتصال والتأثير، ولذا فهي تتوجه إلى الحقل المفيد، حيث يمكن التأثير في مجموع الأحداث، من خلال تبديل الحقل الداخلي، الذي نستطيع أن نتدخل فيه بجراحات خاصة، هي ضمن إمكانياتنا، ونصل بالتالي إلى تغيير شكل الحدث بالكامل، ويتولد من هذا المعنى نتيجة عملاقة عن دور الإنسان في هندسة الأحداث، والتخلص من الآثار النفسية الضارة للاستلاب تجاهها.
وبذلك يكون النقد الذاتي أداة رائعة لنمو الذات ونضجها، وليس كما يخيل للبعض أنها أداة نهش وتجريح.
وكان علماؤنا سابقاً محقين حينما عكفوا على إنتاج علم رائع لتمحيص الحديث الذي جُند كأداة في حرب الفرق المتصارعة، فأسسوا علماً في إطار (النقد الذاتي) أعطوه لقب علم الجرح والتعديل.

أعظم ظلم هو ظلم الإنسان لنفسه؟
لعل القرآن انفرد بمصطلح غفل عنه العالم الإسلامي حتى اليوم وهو (ظلم النفس) فعشرات الآيات المتناثرة تؤسس معنى يمشي في اتجاه واحد، وهو أن الظلم في تجلياته العظمى هي (ظلم الإنسان لنفسه) أكثر من ظلم الآخرين أو أي جهة خارجية (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)وهذا يكشف الغطاء عن أعظم آلية خلف العطب النفسي ـ الاجتماعي بأن العجز والخطأ هو داخلي بالدرجة الأولى، وبذلك نفهم أيضاً طرفآ من (ميكانيكية الدعاء) فهي توجه داخلي.. وتذكير للنفس.. تأمل وجداني.. وشغف وتعلق وتمني للوصول إلى حالة نفسية، وهو ما يسمى في علم النفس بــ (قانون التوقع EXPECTANCE LAW) فعندما ترغب النفس في شيء وتحرص عليه وتتوجه إليه يتحقق في العادة. وعندما شعر نبي الله يونس عليه السلام أنه غرق فجأة في بطن الحوت لم يلعن الظروف التي قادته إلى هذا المصير الفظيع والظلمات تطوقه من كل جانب بل توجه باللوم إلى نفسه (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)
إن العالم الإسلامي اليوم عنده استعداد أن يبحث بدون ملل في توجيه اللوم وتوزيع اللعنات في كل اتجاه، واكتشاف الأعداء الذين يقفون خلف عجزه!
وليس عند معظم سكان العالم الإسلامي استعداد للوقوف لحظة واحدة لاكتشاف هذا السرطان المرعب (مرض ظلم الإنسان لنفسه) وهذا التوجه يخترق كل طبقات التفكير والشرائح الاجتماعية والمجموعات الفاعلة في الساحة الاجتماعية، فالفرد يلعن الأفراد الآخرين المتسببين في وضعه الذي لا يعجبه، فإذا رسب الطالب في الامتحان لعن الأستاذ أو الأسئلة الصعبة أو الحظ السيئ أو الشيطان الرجيم، وعندما تفرغ الجعبة من كل تلك الأسلحة التبريرية يبقى في اليد السلاح الأعظم الذي لا يرد، وهو نفس السلاح الذي عمد إليه الشيطان في تبرير خطأه واستعمله فيما سبق (بما أغويتني) فيتم التوجه إلى الإرادة الإلهية التي هي خلف هذا الفشل، وهو سلاح يخدع الكثيرين أشار إليه القرآن على لسان المشركين الذين أرجعوا شركهم إلى الإرادة الإلهية (لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا).

الدينامية النفسية في العلاقات الإنسانية
لنتأمل جدلية النقد الذاتي والدينامية النفسية في العلاقات الإنسانية، عند تورط الإنسان في مشكلة ما (مثلاً تسريح موظف من عمله) فإن موقف الإنسان يأخذ أحد اتجاهين؛ إما مراجعة الذات ونقدها الصارم، وإما لعن الطرف الآخر المتسبب في المشكلة، بل وحتى تكريس الدعاء في الصلاة في استمطار اللعنات عليه (الدعاء الذي شرع بالأصل لتوليد معنى الاستعلاء والمقدس والرحمة) فتمرض النفس بالكراهية؛ لتتكثف مع الوقت إلى حقد مدمر أعمى، كما في تحول مرض النزلة البردية البسيطة الذي يزول في بضع أيام إلى التهاب جيوب مزمن معند، ومع الحقد تتوقف أية إمكانية للرؤية الواضحة ومحاولة الإصلاح، وهذا الوضع النفسي هو في الواقع الأرضية المهيأة للحرب، فمع الحقد الأعمى المدمر وروح الانتقام الضارية تكون الحرب الأهلية الخفية قد بدأت، كل ما تنتظره هو مواتاة الفرص لاندلاع الحرب الأهلية بالأسلحة المعروفة، ونلاحظ هنا أن المضي في هذا الاتجاه مع الوقت يعطي صلابة للموقف، وصعوبة بالغة في التراجع عنه، فهناك بعض العائلات التي اختلف فيها الأخ مع أخته فقاطعها فاشتد في الكراهية، فازدادت الجرعة، فتكثف الحقد، فتصلب الموقف فأصبح التراجع اقرب إلى الاستحالة، وفي الصورة المقابلة ومنذ البدايات يعتبر التوجه المقابل ذو ثمرات مختلفة تماماً، فعندما يراجع هذا الموظف موقفه (الذي يشعر أنه مظلوم من الآخرين وليس ظالماً لنفسه) ووضع ولو (مجرد احتمال) كونه مشاركاً في المصير الذي وصل إليه!.

التوبة حسب مصطلح القرآن
إن إمكانية مراجعة الموقف أصعب من قطع الأنف بالمنشار وبدون تخدير؟! إن إدخال فكرة (الاحتمالية فقط) تنبع في الواقع من أرضية عقلية وتربة نفسية، فالأرضية العقلية التي ترى كما رأى آدم أنه (قد يكون) قد (ظلم نفسه) في موقف ما، والتربة النفسية هي في القدرة على الاعتراف بالخطأ، فمع القدرة على فتح ملف مراجعة النفس يمكن اكتشاف الخطأ، فإمكانية الاعتذار، أو الحذف والإضافة وإصلاح الموقف، أي (التوبة) حسب مصطلح القرآن، فالمسار الأول شيطاني لأنه يحذف إمكانية التوبة، والمسار الثاني رحماني لأنه يفتح الطريق على التوبة وإمكانية إصلاح الأخطاء وترميم الثغرات، فمع تنشيط أداة النقد الذاتي نكون قد فتحنا الطريق إلى الحوار، وفرملة الصدام، ونزع فتيل العنف، وتوليد روح الديمقراطية، فالديمقراطية ليست حلويات توزع، وهدايا تمنح، بل هي عملية عضوية بطيئة تزرع في النفوس فلا يمكن اقتلاعها.
فالنقد الذاتي كما نرى هي آلية مفاتيح التحكم بالنفس الإنسانية، وإيجاد جو
التوازن العقلي والأخلاقي في مستوى الفرد ليشمل في النهاية الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري.

اكتشاف القيم المخبأة داخل كل واحد منا...
النقد الذاتي بهذه الطريقة هو استبدال الآليات العقلية القديمة بجديدة، فيتحول الفرد إلى كائن يميل إلى المغفرة والتسامح مع الآخرين، وإيجاد العذر لهم، وتبرير تصرفاتهم، وقبولهم كما هم، وحبهم مع كل الاختلاف معهم، وبتوليد هذه المعاني الراقية يكتشف الانسان جوهره باكتشاف هذه القيم المخبأة داخل كل واحد منا، فيتخلص من مشاعر الرثاء والشفقة الذاتية واحتقارها، ويصبح الانسان بالتالي عظيما، والآثار المباشرة العقلية من هذا النوع هو الإيمان بالاختلاف والتعددية، فيرى الآخر في صورة جديدة، فهو شديد الحذر في كشف عورات الآخرين، لأن أسلوب الإدانة يحمل السلاح المضاد معه، والعكس بالعكس؛ فإن احترام الآخر سيحمل احترام الذات، والمحافظة على الآخر سيحمل المحافظة على الذات، أما عقلية التآمر والاغتيال وقتل الآخرين؛ فإنه يحمل معه تدمير الذات بنفس الوسائل.

اللامفكر فيه
إن إمكانية ولو مجرد التفكير بالدخول إلى هذا الحقل (اللامفكر فيه) واستخدام هذه الأداة مؤشر (نضج) فآدم دخل مرحلة جديدة بعد تجربة السقوط المريرة، وكانت مرحلة النضج هذه هي (رب إني ظلمت نفسي) التي توجت رأسه بإكليل خلافة الله في الأرض.
جاء في الحكاية أن أهل قرية ذهبوا إلى صلاة الصبح، ولكن لم يعثروا على المؤذن فأَّذن أحدهم ثم قاموا فصلوا، وفي طريق العودة وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ رأوا المؤذن وهو يُهرع مهرولاً في اتجاه المسجد، وعندما سألوه عن سبب التأخر كان جوابه:
(إنني جئت كالعادة ولكن يبدو أن الشمس قد أشرقت أبكر من عادتها؟!).
هذه القصة تحمل في طياتها آلية نفسية فاضحة، فنحن نضحك لانكشاف النكتة، فلا يعقل أن يضطرب النظام الكوني لنزوة رجل، ولكن المعنى الدفين في هذه القصة المسلية، هو استعدادنا أن ندخل الكون في تناقض، فهذا أسهل لعقولنا وأريح من مراجعة أنفسنا لاكتشاف التناقضات العقلية الكبرى، وإذا كانت هذه القصة مكشوفة، إلا أنها تفتح البوابة عريضةً لكثير من أوهامنا التي نحياها وليس عندنا القدرة على لمسها.
إن إمكانية ولو مجرد التفكير بالدخول إلى هذا الحقل (اللامفكر فيه) واستخدام هذه الأداة مؤشر (نضج) فآدم دخل مرحلة جديدة بعد تجربة السقوط المريرة، وكانت مرحلة النضج هذه هي (رب إني ظلمت نفسي) التي توجت رأسه بإكليل خلافة الله في الأرض.
جاء في الحكاية أن أهل قرية ذهبوا إلى صلاة الصبح، ولكن لم يعثروا على المؤذن فأَّذن أحدهم ثم قاموا فصلوا، وفي طريق العودة وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ رأوا المؤذن وهو يُهرع مهرولاً في اتجاه المسجد، وعندما سألوه عن سبب التأخر كان جوابه:
(إنني جئت كالعادة ولكن يبدو أن الشمس قد أشرقت أبكر من عادتها؟!).
هذه القصة تحمل في طياتها آلية نفسية فاضحة، فنحن نضحك لانكشاف النكتة، فلا يعقل أن يضطرب النظام الكوني لنزوة رجل، ولكن المعنى الدفين في هذه القصة المسلية، هو استعدادنا أن ندخل الكون في تناقض، فهذا أسهل لعقولنا وأريح من مراجعة أنفسنا لاكتشاف التناقضات العقلية الكبرى، وإذا كانت هذه القصة مكشوفة، إلا أنها تفتح البوابة عريضةً لكثير من أوهامنا التي نحياها وليس عندنا القدرة على لمسها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
خالص أنسان
ali -

المقالات السابقة للسيد الكاتب كانت تعني بالشيعة كثير و كنت اتعجب من رجل دارس و واعي مثل الاستاذ خالص لماذا يخاطب طائفة باقصى الطائفية و كنت اتألم من مقالاته لكونه طبيب و أقول لو كان مريضه شيعي فهل سيداويه ؟ و باي قسم سيلتزم بقسم جاليانوس على الطبيب ام قسم القران على الانسان ... ان اكرمكم عند الله اتقاكم ... لكن الحمد لله مقالاته الاخيرة ابتعد عن الطائفيه و سيذهب الشيعي لمطبه باطمأنان لأن خالص أنسان

عمى القلوب
متعب -

المهاتما غاندي أو الروح الكبيرة غاندي كان مثالا علما على ذلك يقول غاندي ;يجب ان نمثل ذلك التغيير نريده ; إنه واحد من مصابيح غاندي الشهيره ، وكم من مصباح علقه غاندي في طرقات الزمان كلها مصابيح تتلوا على قلبك ءآيات الحياة لعل قلبا يبصر مشكلة كثير من من الجماعات التي تدعي الاصلاح انها قائمة على فكر الثورة والمقاومة فحتى عندما لاتجد عدواأو تعيش مع العدو زمن هدنة سوف تبحث عن من تقاومه او تقاتلهالمشكلة في فكر التغيير لدى بعض من قومنا قائم على افكار ثورية تنشد تحولا كبيرا لا اساس له من المصادر سواء على صعيد البصيرة القلبية او المعرفة العقلية البحتة ولا الماديةويريدون تغييرا في المنطقةوصدق الله {إنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}سؤالي لكل احد مناكم عدد الاشياء التي تبصرها بقلبك؟!

شكرا
متعب -

شكرا للكاتب على هذه الاضاءات المتواصلة ضمن منهجه السلامي الجميل مايعجبني في مقالاتك منذ ايام طفولتيهو عمقك وتخصصك الكتابي شكرا من قلبي

النقد الذاتي
عبد الباسط الراشد -

تشخيص طبيب حاذق ورؤية حكيم بارع نقذت الى اعماق المرض ولذلك جاءت وصفة العلاج وادواته عميقة وناجعة مما اثارته في السؤال التالي, هل عندما اقول للسارق انك سارق والكذاب انك كذاب لامر او مشكلة بيننا اكون قد ارحت نفسي وبرئتها من ان انقدها؟ ام انني وف نفس الوقت الذي اقول ذلك يجب ان ارى حجم دوري في المشكلة على اية حال؟ المقال حقيقة تحفة تحليلية من تحف استاذنا الدكتور الجلبي

أتمنى يوماً ما..
الوليد -

مقال رائع بكل معنى الكلمة.. تخيلت نفسي أعيش في هذا العالم الجميل الذي وصفته. الوصول لهذة المرحلة من الشفافية مع النفس يتطلب مواصفات خاصة وسمو في الأفكار لا تجدها في 99% من البشر. أتمنى يوماً ما أن أصل لهذة المرحلة من التصالح مع نفسي وفهمها. لك جزيل الشكر أستاذنا القدير.

حرث في البحر
ابو ايمان -

كلمات واحاديث وايات سطرها لنا الخالص جلبي مداده ذهبا لاناس يعيشون في قاع بحر الظلمات لن ولم يستوعبوها اليوم ولا حتى بعد مئات السنين يكفينا اليوم وفي القرن الواحد والعشرين ان تشدنا كليبات نانسي وهيفاء كما تشدنا نجوم فقهاء السلاطين من على الفضائياتالتي يراها الملايين من البشر من الاخريين ليتعلموا ويتجنبوا الفواحش والاخطاء التي نزاولها مع سبق الاصرار والترصد . يكفينا ان ندعوا في ختام كل صلاة ان يورثنا سبحانه وتعالىنساء واموال الكافرين .

منهج منطقي
د. محمد رفعت زنجير -

فكرة النقد الذاتي فكرة منهجية منطقية تمارسها الأمم المتحضرة باستمرار، وقد عرفها الناس من قبل أيام أرسطو وأفلاطون.أذكر أنني قرأت تصريحا لأحد الأمريكيين تحدث فيه عن بعض السلبيات التي تهدد المجتمع هناك ولكنه أردف فذكر فيه أن من مزايا المجتمع الأمريكي أننا ننقد أنفسنا باستمرار وهذا ما يؤهلنا للبقاء في القمة.وفي التاريخ الإسلامي كان عمر يقول رحم الله أهدى إلى عمر عيوبه فقد كان عمر رضي الله عنه يعتبر الدلالة على العيوب هدية، لأن الإنسان قد لا يرى عيوب نفسه فيدله أخوهوالمؤمن مرآة أخيه كما في الحديثمن أكثر الناس مراجعة للذات ومحاسبة للنفس بعض أهل التصوف، فهم يجلدون نفوسهم بكثرة المراجعة والمجاهدة والحساب عملا بالحديث (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ولكنهم كانوا احلاس بيوتهم، فلم تتحول المجاهدة إلى عمل اجتماعي مفيد، بل تحولت إلى انسحاب من المجتمع وعزلة قاتلة كسرها هولاكو عندما اقتحم بغداد وذهبت سيوفه بالصالح والطالح معا...فنقد الذات يجب أن يؤدي إلى تطوير المجتمع وتغييره لا إلى الإنسحاب منه لأن الإنسان كائن اجتماعي.وعامة العلماء وأهل الحديث والأدب ـ وبخاصة أبي العلاء المعري رحمه الله ـ مارسوا النقد الذاتي بشكل فرديما ينقصنا النقد الذاتي الحضاريأي أن نسأل أنفسنا لقد كنا ذات يوم كما قال جرير:ألستم خير من ركب المطايا/وأندى العالمين بطون راحواليوم نفتح عيوننا فنرى الغرب واليابان والصين وقدملأواالدنيا اختراعات وعلما وتقدما ونحن ننظرإليهم كمتفرجين يرقبون مبارة بالكرة على البطولة.نحتاج أن نعرف الأسباب وهي تكاد تكون معروفة على العموم كتب فيها الكثيرون من جمال الأفغاني وشكيب أرسلان ومالك بن نبي وحتى كتاب اليوموإنما الأهم أن نمتلك إرادة تغيير أنفسنا حتى يتغير واقعنا، لأن التغيير يبدأ من النفس أولا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)ومع اتفاقنا أحيانا واختلافنا أحيانا مع بعض ما يطرحه الدكتور خالص، فإنه ينبغي أن نقر أنه يمكن أن يعد صاحب مدرسة في الإصثلاح والنقد الذاتي في العصر الحديث..فركام المعرفة التاريخية والسلوك الواقعي والمعرفة القادمة من عصر العولمة كل ذلك يحتاج إلى دراية وخبرة ونقد وتمحيص وتقويم، وهو يدخل ضمن النقد العلمي والحضاري، ولكن ما يخص تراثنا العربي الإسلامي فهو يندرج ضمن النقد الذاتيومن يرى البون الشاسع بين اهتمامات المتكلسين الذين يعيشون في الما

النقد الذاتي
ن ف -

في معرض حديث الكاتب عن النقد والنقد الذاتي فاته أن النصر الذي تحقق في لبنان عام 2006 كان نصراً ((إلهياً)) بامتياز، لذلك لم يجرأ أحد، سواء كان رشيداً أو مجنوناً، في الحديث عن الربح والخسارة. أنا شخصياً أضفت هذا المصطلح العجيب الغريب ((النصر الإلهي)) إلى قاموس المصطلحات التي بدأت مصطلحاته تطفوا على سطح لغتنا المقدسة منذ مطلع القرن الماضي وحتى هذه اللحظة البائسة من تاريخ الامة العربية المشرذمة. إذ لاحظت أن الانظمة العربية لا سيما النظام البعثي البائد (في العراق) وسوريا بذلت جهوداً واعية ومكثفة لفرض بعض الالفاظ السياسية المبسّطة للغاية على مجتمعاتها، ولكن ما يُميّزها هو ضبابية الخط الفاصل بين البلاغة والفعل، وبين الخيال والواقع. لغة تُفصح عن القليل وتخفي الكثير، إلا أن كلمة الحاكم فيها تهبط، دون شك، من السماء. لقد وصف أحد الصحفيين صدام أنه ((سيد الكلمات)) و ((مهندس الحروف والكلمات))! وهنا أراني أتفق مع ما جاء في كتاب ايرنست كاسيرر، اللغة والاسطورة، أن اللغة ترسم ((دائرة سحرية)) حول نمط معين من الناس، دائرة لا مفرّ منها إلى غيرها. تحياتي.

كنوز مشوهة!
آية -

ثقافةالإعتراف بالخطأ المتمثلة في محاسبة النفس والإستتابة وكذلك النهي عن الغطرسة والعُجب أو الغرور جانب جوهري من قيمنا وتراثنا الديني, يتحقق بها تقويم واصلاح النفس والرجوع عن الخطأ والسعي للعيش في سلام مع الآخر. المشكلة في الكبار القابضين على دولنا مع بطاناتهم.. هؤلاء هم سبب البلاء فهم متغطرسون لا يطبقون ذلك إلا (خوفاً) أو (للمصالح) وغير ذلك فهم لا يعبأون إلا بدنياهم.. وهذا بالطبع له أثر سيء على الأفراد فالغالبية تتعلم منهم .. محاسبة النفس والتوبة والإعتراف بالخطأ ينبغي أن تأتي من وازع الفرد أو تقبل النصح من الآخر وليس من فضيحة أو تهديد بشري لولاه لما تاب صاحبه.. أؤيد ما جئت به بخصوص تشرب المفاهيم العصرية فالبعض يعتقد أن الديموقراطية والليبرالية معلبات يمكن أقتناؤها ويتم التغيير بين يوم وليلة.. ويضربون لنا أمثلة حية لا نجد لها أثر يذكر في شارعهم فكيف في دولنا مجتمعة؟؟ وما يؤسف له أن يكون في منهجنا ما يكفي لتحقيق ذلك ولا يعيرونه إلتفاتاً.. لقد شوهت كنوزنا!!أحسنت لهذا الجهد وأرى أن له أثر جيد فقد قرأت إعتذارين حتى الآن من بعد نزول الموضوع!استمر.

النقد والنقد الذاتي
ن ف -

في معرض حديث الكاتب عن النقد والنقد الذاتي فاته أن النصر الذي تحقق في لبنان عام 2006 كان نصراً ((إلهياً)) بامتياز، لذلك لم يجرأ أحد، سواء كان رشيداً أو مجنوناً، في الحديث عن الربح والخسارة. أنا شخصياً أضفت هذا المصطلح العجيب الغريب ((النصر الإلهي)) إلى قاموس المصطلحات التي بدأت مصطلحاته تطفوا على سطح لغتنا المقدسة منذ مطلع القرن الماضي وحتى هذه اللحظة البائسة من تاريخ الامة العربية المشرذمة. إذ لاحظت أن الانظمة العربية لا سيما النظام البعثي البائد (في العراق) وسوريا بذلت جهوداً واعية ومكثفة لفرض بعض الالفاظ السياسية المبسّطة للغاية على مجتمعاتها، ولكن ما يُميّزها هو ضبابية الخط الفاصل بين البلاغة والفعل، وبين الخيال والواقع. لغة تُفصح عن القليل وتخفي الكثير، إلا أن كلمة الحاكم فيها تهبط، دون شك، من السماء. لقد وصف أحد الصحفيين صدام أنه ((سيد الكلمات)) و ((مهندس الحروف والكلمات))! وهنا أراني أتفق مع ما جاء في كتاب ايرنست كاسيرر، اللغة والاسطورة، أن اللغة ترسم ((دائرة سحرية)) حول نمط معين من الناس، دائرة لا مفرّ منها إلى غيرها. تحياتي.

جوهرة
داريوس حرب -

جزاك الله الف خير على هذا المقال الثمين!ارجو تعميمه في كل وسائل الاعلام لتعم الفائدة

مقال جميل
حسن -

جزاك الله خيرا على مقاللاتك الهادفة و الموضوعيه.