جلد الذات: تصحيح لمفهوم عربي خاطئ!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مائة سنة من غيبوبة النقد
ليس هناك من ثقافة في هذا الوجود، يهرب أصحابها من الاعتراف بأخطائهم كما هو حال الثقافة العربية! ليس هناك من ثقافة في الدنيا قد اخترعت لها سبلا لتكريس الأخطاء وتبريرها كما هو حال ثقافتنا اليوم! ليس هناك من ثقافة في كل هذا العالم تحرّم النقد، وتستهجن أصحابه، وتلاحق رواده، وتحاكم من يمارسه إلا هذا الذي نجده في ثقافتنا.. بحيث بدأت السلسلة برجل مثل طه حسين في بدايات القرن العشرين.. وزادت مع توالي الأيام والسنين حتى يومنا هذا، لنشهد تشويه سمعة، أو تكفير دين، أو تعزير مذهب، أو تهميش نخبة.. كالذي نجده في ثقافاتنا كلها! ليس هناك من ثقافات منكمشة ومتيّبسة يعيش أصحابها بخوف ورعب وتضليل.. ولا يتمتعون بأي نوع من الحريات، كما هو حال ثقافات عالمنا الإسلامي بطوله وعرضه!
إن من أسهل الطرق والوسائل التي ابتدعها العرب أن يقطعوا الطريق على أي ناقد للسياسة والواقع، للدولة والمجتمع.. للتاريخ والذات بإطلاق مقولة " جلد الذات " من دون أن يفقهوا أنهم بعملهم هذا يستمرئون الأخطاء، ويحافظون على واقعهم الردئ.. إن أي خطوات إصلاحية أو إجراءات تحديثية، أو تغييرات جذرية.. لا يمكنها أن تتم من دون ممارسة للنقد بأنواعه، وبشكل صريح وعلني وجرئ وواضح.. وان النقد الحقيقي لا يحتمل المجاملات ولا الانشائيات ولا اللف ولا الدوران، بل ازدادت قيمة النقد اليوم بأساليبه ومدارسه واتجاهاته.. ومهما كان النقد ساخنا بتحليلاته، ومشخصّا بتفكيكاته، ومصيبا لأهدافه.. كان موضع اهتمام وتقدير، خصوصا، إذا تناول الذات وعّراها من كل أدرانها..
الناقد الحقيقي.. متهما!
لقد أصبح الناقد الحقيقي في ثقافتنا متهما بجلد الذات إن مارس أي نوع من التقييم الحقيقي الذي يعرض المشكلات، ويشخّص الأمراض، ويفكك الالتباسات، ويعّري كل من الواقع والتاريخ.. أصبح متهما بشتى التهم كونه لا يمالئ من رضي بكل الأسقام كيلا يقال أن مجتمعاتنا لها سيرورتها الخاطئة.. وكيلا يقال أننا " امة " تتضاحك عليها الأمم الأخرى! وكيلا يقال أن هذا طعن يستفيد منه الأعداء.. وكيلا يقال أن كلّ ما نشهده من ظواهر اجتماعية أو حركات سياسية أو قيادات أنظمة حاكمة.. لابد لها أن تتغّير وتتبدّل! أصبحت ثقافتنا العربية المعاصرة متيبسة وقد افتقدت نخبة من النقاد الحقيقيين الذين يمكنهم أن يكونوا صرحاء وأقوياء ولا تأخذهم في الحق لومة لائم.. لقد غدت الثقافة لا تعّبر عن أي تجديد أو أي حاجة للتغيير للواقع المضني الذي ترهلت فيه كل مجتمعاتنا..
متى ولد مصطلح " جلد الذات " عربيا؟
ان مصطلح " جلد الذات " ولد عربيا في غفلة من الزمن التعيس قبل أربعين سنة، ولا يعرف إلى حد الآن من الذي أطلقه ضد كل من ينتقد الواقع العربي كونه لا يريد الاعتراف بالهزيمة!! لقد كانت الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 أمام إسرائيل، قد سحقت الأمنيات العربية، وأوقفت الإرادة الثورية التي تغنى بها العرب ردحا من السنين، كما تراجع المشروع القومي العربي عن حضوره.. وكانت الصدمة تقتضي رد فعل تاريخي قوي تتمثل برفض كل ما كان عليه الواقع المهووس بالشعارات والأكاذيب.. بدل النكوص أو الهروب أو الخروج بمفهوم صيغ خصيصا من اجل إجهاض أي بديل واقعي وعقلاني! وبدأت الثقافة العربية مرحلة جديدة فيها كل التراخي والضعف حتى بدأ الاستلاب يأخذ مداه بتراجع المد القومي وبروز التيارات الدينية التي أخذت تساهم إيديولوجيا لملئ الفراغات ، ليس في تغيير الواقع، بل الإبقاء عليه والبناء فوقه.
لقد تكّرس مفهوم " جلد الذات "، وأخذ صفة قبيحة جدا، بحيث أوقف كل النقاد عن ممارسة أدوارهم في تعرية التناقضات، وكشف الموبقات، وتشخيص الداء.. والمطالبة بالتغيير الجذري بعد معالجة كل الأدران والقضاء على كل الأمراض.
معنى " جلد الذات " في الثقافات الاخرى
إن " جلد الذات " لم يزل مصطلحا يستخدم في ثقافات أخرى، ومنها في الانكليزية، إذ نجده في معظم القواميس والمعاجم والانسكلوبيديات هو ( Self-flagellation)، ولكنه يستخدم لا كما يستخدم في الثقافة العربية.. انه يعني بدقة: عقاب الإنسان لنفسه ضمن أشكال مختلفة منها: الضرب أو الحزن أو الإفراط في البكاء، أو اللطم، أو إيذاء الجسم باستنزاف دم.. الخ تعبيرا عن تكفير أو غفران أو تعويض أو ندم أو اعتراف أو تطهير أو توبة أو قصاص أو وخز ضمير، أو تأنيب وجدان، أو تورع ذاتي ((self- castigation.. الخ، فثمة تجارب لإيذاء النفس لدى شعوب مختلفة سواء في تايوان والصين والهند والباكستان وإيران والعراق ولبنان وبعض مجتمعات أوروبا.. الخ وقد تصل الصور والأفلام والمناظر الحقيقية عن أناس تمارس جلدا وتعذيبا لذواتها إلى درجة مقززة من المشاعر المؤذية.. بحيث تصل درجة القسوة إلى تربية الأطفال الصغار على مثل هذه الممارسات الدموية.. وأتمنى أن يراجع القراء الكرام كل المعاجم والقواميس الأجنبية لثقافات أخرى، كي يجدوا المعنى الحقيقي لمصطلح " جلد الذات "، فهو تفسير معنوي للإنسان في إيذاء نفسه وجسمه.. ولا يأخذ المصطلح أي مفهوم فكري أو فلسفي أو دعائي.. كما أصبح يجري في الثقافة العربية منذ أكثر من أربعين سنة، أي منذ العام 1967 وحتى يومنا هذا.
النقد الحقيقي اساس الاصلاح والتغيير
كثيرا ما يتهم العديد من النقاد والكتاب أنهم يمارسون جلدا للذات.. وكثيرا ما يأتي ذلك على لسان أناس لا يقبلون بالرأي أو الفكرة، فاستخدامهم لمثل هذا المصطلح عندهم، أو في تفكيرهم، هو بمثابة التهمة التي توجّه للنقاد كي يسكتوهم.. وأنهم ما داموا يمارسون جلدا للذات، فانهم يطعنون بالذات المقدسة شبيهة بالإلهة التي لا يمكن لأحد من انتقادها! إنهم لا يدركون أن النقد الحقيقي لا يعرف الشدة أو الارتخاء.. إنهم لا يدركون أن ليس هناك مجموعة قيم ثابتة ستبقى منزهة عن كل الآفات والأمراض.. إنهم لا يدركون أن واقعنا قد وصل إلى ما وصل إليه جراء انعدام أي ممارسة نقدية، سواء موضوعية كانت أم ذاتية.. ففي ثقافتنا، لا نعرف ممارسة أي نوع من النقد الذاتي، وتشخيص كل إنسان لمثالبه كي يعالج أخطاءه، ويصحح تصرفاته.. فان كان الوضع هكذا لدى المسؤولين والساسة والمثقفين وكل أبناء النخب الفاعلة، فما الوضع الذي سيألو إليه المجتمع؟ وما الحال التي ستصل إليها مجتمعاتنا مع الأسف؟
إنني أخاطب كل أولئك الذين يستخدمون مثل هذا المصطلح (الذي غدا مفهوما) في الثقافة العربية: هل بمقدوركم أن تفصلوا بين ما تشاهدونه من مشاهد مؤذية لبشر يؤذون أنفسهم بشتى الوسائل والوسائط سواء كان ذلك تقربا من الآلهة، أو تفاخرا على الناس.. وبين نقاد ومفكرين يمارسون مهامهم الحقيقية في كشف ما لحق بمجتمعاتنا من أدران، وما حاق بثقافتنا من اوصاب، وما حفل بسياستنا من همجية.. بل وما حل بإعلامنا من تهتكات؟ هل يمكنكم أن تميزوا بين هكذا حالات برؤية حيادية وإنصاف كبير؟ هل يمكنكم التفكير بما يقوله الناس، كل الناس، عندما يتمتعون بالحريات الشخصية والفكرية والسياسية؟
كيل بمكيالين
إن اغلب من يستخدم مثل هذا " المفهوم " الخاطئ في ثقافتنا العربية إنما يكيل بمكيالين.. فهو يتقّبل كل النقد الذي يمارس ضد الأنظمة السياسية والحكام العرب ـ مثلا ـ، ولكنه لا يتقبل أن يسمع نقدا أو يقرأ رأيا مخالفا للأحزاب السياسية أو الإيديولوجية التي يؤمن بها! انه يرضى أن تمارس كل الدعارات ضد هذه الدولة أو الحكومات، ولكن لا يتقبّل قراءة أي نقد للمجتمعات والشرائح والحركات الاجتماعية، وكأن مجتمعاتنا ملائكية.. علما بأن للمجتمعات أخطاء كما هو حال الحكومات والدول والأنظمة السياسية!
إن إرهابيا أو مجموعة من الإرهابيين لا ينتقدون أبدا على أفعالهم الشنيعة.. ولكن ينتقد الكّتاب والروائيين والنقاد على أفكارهم وتصويراتهم.. إنهم لا يصادرون الهذيان الذي يطلقه بعض من احتكر الدين لنفسه، أو احتكر الإعلام لذاته، أو احتكر السلطة لحاشيته.. وما يمارسه هؤلاء من أفعال مشينة .. ولكنهم يتهمون النقاد والأدباء والشعراء والفنانين بجلد الذات.. إنهم لا ينتقدون الحكومات وصنّاع القرارات، ولا كل المنافقين والدجالين والمصفقين والمهوسين على ما يمارسونه بحق مجتمعاتنا من إضرار ومصائب.. ولكنهم يلاحقون صناع الكلمة والرأي والموقف على ما يكتبونه أو يقولونه أو ينشرونه..
واخيرا: كلمة للاجيال القادمة
إن تعميم النقد لا يعني جلدا للذات.. إننا لا يمكننا أن نغطّي على حالة دون أخرى، فالكل يعرف كم هي قدرة مجتمعاتنا على الإبداع والإنتاج، وكم هي منسحقة ومعطلة القدرات! والكل يعرف العوامل الداخلية والخارجية التي سحقتها؟ ولكن لا يريدون إظهار أنفسنا إمام العالم بالعجز والشلل.. ويريدون أن يظهروا أمامه أقوياء وعظماء علما بأن العالم كله يعرف درجة رقي كل مجتمع ومستوى قوة كل دولة! لا يريدون أن يسمعوا بأنهم قد تخلفّوا عن ركب العالم، وان قال مّنا احد لذلك اتهموه بـ " جلد الذات ".. طيب، ما الذي تريدونه من أنفسكم؟ لا تريدون نقدا للذات.. لا تريدون نقدا للموضوع.. لا تريدون الاعتراف بالخلل.. هل نكذب على أنفسنا دوما؟ هل نبقى نكذب على بعضنا بعضا؟ هل نبقى نصفق لبعضنا بعضا نفاقا ورياء؟
إنني أخاطب الأجيال الجديدة لأقول لها: إن مفهوم جلد الذات خطيئة عربية ترتكب بحق نقادنا ومثقفينا ومبدعينا.. اتركوهم حتى تتعلم الأجيال الجديدة كيف يتم وخز الضمير.. اتركوهم حتى يعملوا على إنعاش الذات بعد أن تستهدي بكل الوسائل الخيرة من اجل حياة جديدة.. اتركوهم حيث يؤدون أدوارهم من اجل الإصلاح الشامل والتغيير الشامل! اتركوهم بلا أوهام، وبلا شعارات، وبلا أكاذيب وادعاءات.. كي يعملوا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه! اتركوهم أشداء على أنفسنا، كي نعرف الحقائق بلا أية تعميمات أو تغطيات تحت مسميات مفهوم اخترعتموه زورا وبهتانا، وسميتموه بـ " جلد الذات "!
التعليقات
100% true
Ahmed A. Al-Obaidi -Another MASTERPIECE ... thanks Dr. Sayyar
الشك
خوليو -أهم موضوع يجب نقده وتفكيكه وتبيان فضائله إن كان له فضائل ومساوءه إن كان له مساوئ، هو موضوع القيم الثابتة، هذه القيم الممنوع الاقتراب منها أو فكفكة طلاسمها، هي مرضنا المزمن، كل كتّاب ومثقفي الشعب متفقون على عدم الاقتراب من تلك الثوابت إما خوفاً أو محاباة للكتلة الجماهيرية المساقة بالعاطفة والتدين الأعمى المعطل للطاقات والامكانيات العقلية،(معظم الكتاب يستخدمون عبارة والقيم الثابتة بريئة من هذا أو ذاك الفعل أو التصرف أو العدوانية) قليلون من تجرأوا على الاقتراب من تلك الثوابت لكشف تأثيرها المخدر للوعي ودورها في التحريض على العنف عندما تكون سلطة سياسية وحكم، فهي خدمت وتخدم الديكتاتوريات، حيث تستخدمها هذه لصالحها وتبرير تصرفاتها كقوة قمع واستبداد على أنها وكيلة القيم الثابتة على الأرض،وهي بنفس الوقت تستخدمها السلطة كبنج محلي عندما تريد التستر على العيوب تحت عنوان الفضيلة والأخلاق، ،عندما تتقبل الجماهير فكرة أنّ الشك هو مفتاح باب الكشف عن الحقيقة، وأن النقد هو أهم عامل لمعرفة سبب التخلف، عندها سيشتعل فانوس العقل ليدلنا على طريق التقدم والحضارة .
النقد الموضوعي
الراصد -مقال جميل ومهذب ولكن لابد من الاشارة الى النقد في يومنا يمارس بطريقة غير موضوعية اذ نجد من يمارس بطريقة تهويلية ولا يرى الا بمنظار اسود لا مكان فيها للالوان الاخرى او يمارس بطريقة تهوينية بحيث يمارس بنوع من التهوين من كل الاخطاء والممارسات غير السليمة. والحديث عن النقد ينبغي ان يتجة الى العمل على نشر ثقافة النقد الموضوعي الذي يبين الاختلالات بطريقة موضوعية بالحجج والبراهين ولا ينبغي ان يمارس النقد من اجل النقد او للتشكيك في ثوابت الامة كما يريد البعض ان يفعل ممن يزعمون بن النقد لكي يكون فعالا ينبغي ان يشكك في كل شيء.
تحية للأخ خوليو
وحيد -دائما تعلقياتك تعبر عني تماما .. حقيقة دائما اتابع تعلقيات الذكية النافذة للك التحية اخي وأنت تكشف المنطقة السوداء في العقل العربي
there is a name for
magic -Yes there is a meaning for it in English, it is called: MENTAL DISORDER.
بارك الله فيك!
آشور بيث شليمون -شكرا لك أيها الأخ المحترم لهذا المقال الرائع، وشكرا لكل المعلقين الذين حقيقة قالوا الكثير الذي لا يتطلب مني أي إضافة.والشيء الوحيد الذي أحب أن أقوله هو نحن بحاجة الى ثورة اجتماعية بيضاء لا ثورة دموية لانتشال شعوبناالمستعبدة بأفكار خيالية رجعية مريضة تعود الى أكثر من عشرة قرون من الزمن كما لن يتم ذلك ما دامت المرأة مهضومة الحقوق !
Thanks
Zaki -Thanks for this enlightening article, I couldn’t agree more, all I can add here that one should always search for the truth and be well informed to speak about the Ills in our societies, and perhaps read a little more in sites such as: Islamic-intelligence, to know more about our realities
Good article
Iraqi American -As usual, a common-sense analysis by Dr. Sayyar. I also thank Khulio. His comments are always meaninful and constructive.