كتَّاب إيلاف

روبرت ريش والسوبر كابيتاليزم

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان أهتم باراك أوباما بالبساطة وخدمة المجتمع، وابتعد عن الركض وراء حلم الغناء وبناء قصور في الهواء. فمع أنه تخرج بتفوق من جامعتي هارفارد وكولومبيا، ولكنه ترك صيت غناء الوول ستريت، وتفرغ للعمل المجتمعي بين فقراء مدينة شيكاجو. وأقتنع بضرورة التغير في واشنطون والكونجرس "والشارع الرئيسي"، فاستخدم الأدوات الشرعية المتوفرة، واحترم الاختلاف بين العقائد والأديان والمذاهب، وتجنب فلسفة التطرف والعنف، وآمن بأهمية التطور التدريجي من خلال الأنظمة والقوانين. واستفاد من حرية التعبير وتكنولوجية الاتصالات، لنشر أفكاره وزيادة مؤيديه، وجمع من المال الكثير لتمويل حملته الانتخابية. وحينما أصبح رئيسا للولايات المتحدة، تفهم الديمقراطية بعقلانية، فأستوعب بأن حوالي نصف الشعب الأمريكي لم ينتخبه، ولم يؤيد حزبه، فأحترم توجهات الحزب الجمهوري وعمل مع قياداته، بل اختار بعضهم مسئولين في إدارته الجديدة. والسؤال لعزيزي القارئ: ما هو سبب إصرار أوباما على التغير؟ وما علاقة ذلك بالسوبر كابيتاليزم؟
يعتبر روبرت ريش من خيرة المفكرين الذين درسوا المجتمع الأمريكي المعاصر. وهو اقتصادي متميز، وخريج جامعة أكسفورد، وكان أستاذ بجامعة هارفارد ووزيرا للعمل بإدارة الرئيس كلينتون. ويناقش في كتابه الجديد "سوبر كابيتلزم" تحديات المجتمع الأمريكي فيقول: "التحدي الرئيسي الذي نواجهه هو التصادم المتصاعد بين الديمقراطية والرأسمالية، والذي يتعلق بنا، كمواطنين لنا مثاليتنا، وكمستهلكين لنا حاجياتنا. فنحن نمقت عمالة الأطفال، ولكننا نرغب في منتجات رخيصة، كما نحقد على ربحية المؤسسات الخاصة العملاقة، ولكننا نتراكض على تخفيضاتها ونتاجر في أسهمها." ويؤكد الكاتب بأنه لم يكن هناك في الواقع صراع دائم بين مثاليات الشعب الأمريكي وغريزة حاجياته. ففي الفترة ما بين عام 1945 وحتى 1975، كان هناك توازن بين التجارة والحكومة والقوى العاملة. ولكن حينما بداء التطور التكنولوجي في السبعينيات ونمت ديناميكية الاقتصاد، تنافست الشركات العملاقة للدخول في السياسة، لفرض تشريعات تزيد من ربحيتها. وقد أدى ذلك لتأثر حقوق المواطن في العملية الديمقراطية، بإبداء راءيا فاعلا لانتخاب ممثلين لوضع تشريعات تعكس قيم المجتمع.
فقد ارتفعت الإنتاجية في العقد الأول من القرن العشرين، بتطور التكنولوجية وإنشاء المصانع العملاقة، وبتطور النظريات الإدارية لفريدريك تايلور التي خصصت مسئوليات العمل في خطوات متكررة، لتزيد من كمية الإنتاج وبأقل وقت ممكن. وتركزت الإنتاجية في المصانع العملاقة، وارتفعت كمية شراء الموارد الخامة وبأسعار مخفضة. لتصبح شركة فورد مثلا للصناعة المعاصرة، فزاد أنتاجها من عشرة آلاف سيارة في عام 1909، لمائتين وخمسين ألف خلال خمس سنوات. ونمت المؤسسات المتخصصة في صناعة السيارات والتلفونات والتلغراف والمحركات الكهربائية والطاقة، لتتطور وتسيطر على الاقتصاد العالمي في القرن الواحد والعشرين. ولتمثل الفورشن 500 لعام 1994 نصف الشركات التي أسست في الفترة ما بين عام 1880 وعام 1930، بينما أسس الجزء القليل من الباقي في الفترة بين عام 1948 وحتى عام 1975.
فقد نجحت الولايات المتحدة في خلق التناغم بين الرأسمالية والديمقراطية، في الفترة بين عام 1948 وحتى عام 1975. فجمعت بين نظام اقتصادي منتج، ونظام سياسي متفاعل مع تغيرات الواقع. وترافقت هذه الفترة بأعلى نسبة من عدالة توزيع الثراء بمشاركة الربحية مع القوى العاملة، وذلك بفضل اتحادات العمال الفاعلة. فزاد في هذه الفترة الإيمان بالديمقراطية والثقة بالحكومة، ولتصبح أمريكا دولة للحرية السياسية وثراء الطبقة المتوسطة. واعتمد ازدهارها الاقتصادي على الإنتاجية الصناعية الجماهيرية، وبشراء الطبقة الوسطى الغنية لمنتجاتها. لتصبح ديمقراطية قوة اقتصادية، وبإنتاجية جماهيرية ذو ربحية عالية، وترافقت بعقد اجتماعي يلزم الدولة بتوفير التعليم والعمل للجميع.
ومع بداية الثمانينيات تطور اقتصاد العولمة بتطور تكنولوجية الاتصالات، وترافق ذلك بفرص كبيرة، وقل الأمن والاستقرار الوظيفي. لتبدأ مرحلة السوبر كابيتالزم، أي بفترة الرأسمالية الخارقة، ووصفها الكاتب: " بفترة منافسة الربحية الكبيرة، ليصبح نصف كل منا يريد أسعار مخفضة، ونصفنا الآخر يريد زيادة ربحية استثماراته. ليصبح نصفنا الذي يعيش على البضائع والخدمات وسوق الاستثمار كوفئ في هذه المنافسة الجديدة، بينما ضمر نصفنا الآخر الذي يتصور بأنه مواطن لا مستثمر. ويطالب نصفنا الضامر من الحكومة، بوضع حدود ضد الاستثمار. كما أدى شكوكنا بالحكومة لابتعادنا عن دورنا في وضع سياسات عقلانية، وتركنا المؤسسات الخاصة تضع السياسات والتشريعات من خلال لوبياتها، وعوضنا عن ذلك بمطالبتها بمسئوليتها الاجتماعية، مقتنعين بأنها ستحارب مصالحها. لتتحول هذه المؤسسات لآلات لجمع المال، فاختفت قيود المنافسة فيها، لتصبح أكثر وحشية لزيادة أرباحها، وعلى حساب المجتمع والبيئة."
ويعتقد الكاتب بأن أموال الرأسمالية الخارقة قد غزت المجتمع، وحولت ديمقراطيتها لديمقراطية مزيفة، فأنشغل السياسيون والمحامون بمدح التصرفات الأخلاقية المسئولة لمؤسساتها العملاقة الخاصة أو نقذ تقصيرها، ليبعدوا الانتباه عن مسئوليتهم في وضع تشريعات تحمي مصالح المواطنين. وقد سهلت هذه الظروف بيئة الجشع التي أدت لأزمة الوول ستريت، ولتكرر الإدارات التنفيذية لهذه المؤسسات بالقول لموظفيها، ارفع يدك، فهل تريد أن تحمي ضميرك؟ أم ستخالف القوانين لتحمي الاقتصاد، ووظيفتك والعلاوة؟ فيعلق الكاتب على هذا الجشع بالقول: "والمشكلة بأن هذا الجشع ليس مشكلتهم فقط بل هي مشكلتنا أيضا، فالكل منا يريد أن يكون غنيا. ولم يعد بيع الضمير خاصا بهذه المؤسسات، بل أصبح الكل يريد بيع ضميره، والكل يريد سرا أن يصبح مليونيرا ويتقاعد غنيا."
ويؤكد الكاتب بأنه في العقود الثلاثة الماضية انتصرت السوق الحرة للرأسمالية، وضعفت الديمقراطية، وتحول المواطنون "لريبوت" متزايد ماديته، وفي عملية التحول هذه تحسنت مواقعنا كمستهلكين ومستثمرين، ولكن فقدنا أرضيتنا الإنسانية كمواطنين يجمعنا خيرة المواطنة. فانتصرت "السوبر كابيتاليزم" وساءت تداعياتها الاجتماعية، فقلت المساواة، واختفت الربحية في جيوب القلة في القمة، وزاد التلوث البيئي، وارتفعت نسب تجاوزات حقوق الإنسان، وزادت النزوة للمنتجات المكلفة. وبدأت السوبر كابيتالزم تقتل الديمقراطية، وعوضت حقوق المواطنين "بالفيس بوك" و"الماي سبيس".
لقد استأجرت الوول استريت وشركات البلو شيبس والفوربس 400، مجموعات من اللوبيات والمحامين والخبراء والمتخصصين في العلاقات العامة، وخصصت مبالغ ضخمة للحملات الانتخابية، لتزيد نسبة هذه اللوبيات بعشرين ضعف عن المسئولين المنتخبين، مما أدى لضياع أصوات المواطنين. وقوت هذه اللوبيات بحيث أن الخمسة والعشرين الكبرى من صناديق الاستثمار الأمريكية، والتي متوسط رأسمالها 560 مليون دولار، تدفع ضرائب تقل قيمتها عن معدل ما يدفعه العامل الفقير. وقد اعترف الملياردير ورن بوفيت بأن نسبة الضرائب التي يدفعها هو أقل من النسبة التي تدفعه سكرتيرته. وأنتقد الكاتب الوضع بالقول: "ففي هذه البيئة من الجشع، جميعنا، من إداريين، للطبقة المتوسطة، وحتى عمال المناجم، نبيع ضمائرنا للمؤسسات التي يملكها قلة من الأغنياء. والصمغ الذي يجمعنا كأغنياء وفقراء، هو المصلحة الشخصية والجشع. فنحن جميعا نريد الأكثر، ونريده الآن، وحتى الكثير أيضا لا يكفي. ويختفي تحت مظلة السوبر كابيتاليزم مساومة قاتمة وكاذبة. فجمعينا محبوسين بإدماننا للأكثر، كمستثمرين ومستهلكين، ونساوم على ضمائرنا." ويؤكد الكاتب بتحول بلاده لرشستان، أي بلد سلطة الغنى، بانتقالها من الديمقراطية المجتمعية إلى ديمقراطية سلطة الأغنياء، والذين يسيطرون على الحكومة في الظل وبهدوء، ويستخدمون ثرائهم من خلال اللوبيات المستأجرة، ويملكون 90% من الثراء. فيسيطر 1% من الأغنياء على أكثر من 33% من الثراء، ليزداد ثرائهم عن 90% من الشعب. ويكمل انتقاده بالقول: "فالمشكلة أنه 10 مليون يملكون 90% من الثراء الأمريكي، بينما 290 مليون منا مشغولون بجشع حلم الغناء، بزيادة استثماراتنا واستهلاكنا، وحتى لو أدى ذلك لفقد حقوقنا كمواطنين وناخبين، لفئة صغيرة من الأغنياء، الذين يملكون السلطة والقوة." ويطالب الكاتب بالتغير لإرجاع التوازن من جديد بين الديمقراطية والرأسمالية، وذلك بتقوية المسئوليات الحكومية من جديد وتطوير آلية عملها، وحماية رجال البرلمان من لوبيات الشركات الخاصة، ومنع تدخل أموالهم في الحملات الانتخابية. والسؤال: هل "السوبركابيتاليزم" ظاهرة أمريكية أم ظاهرة عولمة دولية؟ وهل التغير المطلوب يخص الولايات المتحدة فقط، أم يحتاجه العالم بأجمعه؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف