حادثة فلسفية مثيرة
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وانصب عمل هيدجر خلال مسيرته الفكرية (1889 - 1976) على النصوص الفلسفية، وقام منهجه الاستذكاري على أنقاض النظرة التاريخية الهيجلية (وحدة العقل والتاريخ = الحضور) مواصلاً " تقويض " - Destruction الميتافيزيقا، انطلاقًا من مقولة "الاختلاف" الانطولوجي بين الموجود والوجود.(1)
وهو النهج نفسه الذي سيتواصل مع "حفريات" فوكو، و "تفكيك" دريدا، وسيشكل اتجاهًا فلسفيًا في "الاختلاف" أو فلسفة ما بعد الحداثة، بدءا من داروين ونيتشه.
يقول هيدجر: "hellip; يقتضي ذلك أن يحرر الفكر الذي نقل إلينا فيتمكن من العودة إلى ما اختزن فيه: إلى هذا الذي لم ينفك عن الوجود - إلى هذا الذي يهيمن على التراث منذ بداياته وكان دومًا أسبق منه، دون أن يفكر فيه مع ذلك بوضوح ودون أن ينظر إليه كأصل (hellip;). إن حوارنا مع تاريخ الفكر لا يتحدد بالتجاوز وإنما بـ "الرجوع إلى الوراء" (hellip;) هذا الرجوع يقودنا إلى ميدان أهمل حتى الآن وهو أول ميدان يستحق أن يذهب فيه التفكير إلى الحقيقة في وجودها"(2)
إن هيدجر في بحثه عن "الأسس" التي أقيمت عليها حقائق الأفكار، لا يتوقف عند أي شيء يصل إليه، وهو يستمر في التراجع والتقهقر، وفي إعادة طرح السؤال، وكأن فلسفته لا يعنيها بتاتًا أن تتوقف عند لحظة جواب معين، فما يعني هيدجر هو الأسئلة نفسها بصرف النظر عن الأجوبة المعطاة ومضامينها.
في ضوء ذلك ينبغي أن نفهم أسئلة هيدجر عن الفلسفة والميتافيزيقا والوجود والفن، خاصة سؤاله عن " أصل العمل الفني " Der Mrsprung des Kunstwerkes، والذي هو مجموعة من المحاضرات ألقاها في مدينتي فرايبورج وتسورش في العامين 1935 و 1936، وقدم لها - فيا بعد - الفيلسوف هانس جيورج غادامر واصفًا إياها بأنها : "حادثة فلسفية مثيرة".
في هذا المقال عن "أصل العمل الفني" يقدم هيدجر صياغة أخرى لـ "الأصل" - ursprung فيما يتعلق بالعمل الفني hellip; ويرى أنه يصعب الحديث عن أصل مفرد وموحد، ومتموقع في مكان وزمان محددين، لأن الأصل بطبيعته متعدد وقابل للتكرار.
يبدأ هيدجر مقاله بالتساؤل عن أصل العمل الفني. ويجيب بأنه الفنان بما يبدعه من عمل فني سواء لوحة أو تمثال أو قطعة موسيقية hellip; إلخ. بيد أنه يشير إلى أن للفنان أصلاً أيضًا وهو العمل الفني نفسه، بمعنى أنه لن يكون هناك فنان إذا لم يبدع أعمالاً فنية.
"إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته. ويتم هذا الافتتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود"(3)
غير أنه يعود ليؤكد أن لكل من الفنان والعمل الفني معًا أصلاً آخر، هو "الفن" نفسه الذي يحتل الميدان المشترك الذي يشتغل فيه الفنان والعمل الفني. فالفنان لا يكون فنانًا إلا حين يمتلك رؤية عامة عن الفن أو ما يشكل الفن ويميزه عما ليس فنًا.
"الحقيقة تعمل عملها في الفن. وهذا الشعاع في العمل الفني هو الجميل. الجمال هو الطريقة التي توجد بها الحقيقة بوصفها كشفًا"(4)
إن الجمال في الأعمال الفنية ينبثق - حسب هيدجر - من الكشف عن جواهر الأشياء، هذه الجواهر التي لا تظهر عادة في الواقع، أي في حضور الأشياء خارج الفن أو بمعزل عنه، والفن الجميل إنما هو "يسمى هكذا لأنه ينتج الجميل"(5) هكذا يربط هيدجر بين الجمال في الفن وبين الكشف عن الحقيقة.
أو كما يقول "إن الفن إظهار للحقيقة، بعث شيء جلبه بواسطة الوثبة المتدفقة من جوهر "الأصل" إلى الوجود."(6)
هكذا نجد أن فكرة "الأصل" نفسها قد انقسمت مع هيدجر إلى ثلاثة أصول: الفنان، العمل الفني، والفن. بيد أنه يواصل التساؤل عن أصل الفن نفسه ويجيب بأنه "العمل الفني"، وهكذا يعود بنا إلى نقطة البدء في تساؤلاته عن "أصل العمل الفني". هذه العودة إلى نقطة البداية تعني أن البداية هي المكان الذي يتموضع فيه (أحد الأصول)، ولكن هيدجر يشير إلى أنها خطوة على امتداد طريق دائرة البحث المتقدمة باستمرار. هذه الحركة الدائرة تشير إلى تكاثر مفهوم "الأصل" نفسه. أي تكاثر الأصول، فليس الأصل - حسب هيدجر - في مكان واحد بل في أمكنة متعددة.
هذا التأصيل المتعدد أو تكاثر الأصول تقيم، رغم ذلك، ميدانًا تتحقق فيه عملية التأصيل. هذا الميدان أو الفضاء هو فضاء التكشف وإظهار المتحجب، إذ أن إحدي معاني كلمة " الحقيقة " باللغة اليونانية حسب هيدجر في كتابه ( نداء الحقيقة ) هو انكشاف الخفي والمحتجب. لذا ينهي هيدجر مقاله عن "أصل العمل الفني" بما قاله هولدرلين: "يصعب أن يترك مكانه من يسكن قرب الأصل"(7)
إن الحقيقة تتكشف في فضاء تمييزي، في مكان لا يمكن أن يوجد فيه لا العمل الفني، ولا الفنان، ولا الفن نفسه. إن الحقيقة توجد، بالضبط، حيث لا يكون هناك أصل، ولا أساس، ولا مصدر. أي أنها تتكشف عبر "الاختلاف" فقط، وعبر كونها لا تمثل أصلاً فقط، أو قل الحقيقة هي ذلك الفضاء أو المكان الذي ينشأ من تعدد الأصول وتكاثرها. إن الحقيقة تعتمد على التأصيل المتعدد.
الهوامش
1 - عبد السلام بنعبد العالي: هايدغر ضد هيجل، التراث والاختلاف، دار التنوير، بيروت - الدار البيضاء، 1985.
2 - Heidegger: Identiteacute; et difference in Questions 1. P. 283-4. Gallimard Paris 197.
عن عبد السلام بنعبد العالي: هايدغر ضد هيجل، ص - 13، هامش (1)
3 - مارتن هايدغر: أصل العمل الفني، ترجمة: أبو العيد دودو، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2003، ص - 57.
4 - المرجع نفسه: ص - 77.
5 - المرجع نفسه: ص - 53.
6- المرجع نفسه: ص - 102.
7 - المرجع نفسه: ص - 103.
dressamabdalla@yahoo.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
السرقة العلمية
روبى -يرجى التقيد بشروط النشر حتى يتم نشر الرد وشكرا
شكرا لإيلاف
مؤمن -شكرا لموقع إيلاف الذي أتاح المجال واعطى منبرا
السرقة العلمية
روبى -يرجى التقيد بشروط النشر حتى يتم نشر الرد وشكرا
حسم الامر
روبى -يرجى التقيد بشروط النشر