الحزب الحر الدستوري
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بل لعل المفارقة هو أن كثيرا من التونسيين لن يقف عند هذه الذكرى التاريخية المفصلية في تاريخ بلادهم ودولتهم، ففي موقع الحزب الحالي على الانترنت ثمة إشارة باهتة لمؤتمر قصر هلال، في محاولة لرد عملية التأسيس إلى جماعة الشيخ الثعالبي، ولتهميش دور الزعيم بورقيبة من خلال إشارة ثانية إلى أنه كان الرقم الثاني في مؤتمر قصر هلال بعد الدكتور محمود الماطري، في حين يعرف مؤرخو الحركة الوطنية ورجالها، ومنهم عدد ما يزال على قيد الحياة، أن مهندس المؤتمر وصاحب المبادرة كان الزعيم بورقيبة، وأن إسناد الرئاسة للدكتور الماطري في حينها كان مسألة برتوكولية تتعلق بسن الرجل ومكانته في الحزب القديم، فضلا عن أن منصب الأمانة العامة كان من الناحية العملية، خصوصا أيام الاستعمار أكثر أهمية من منصب الرئاسة.
و يكتسب مؤتمر قصر هلال أهميته، ليس فقط لأنه شهد ولادة الحزب الحر الدستوري الجديد، وقيادته التي سميت منذ ذلك الوقت وإلى اليوم "الديوان السياسي"، إنما لأنه أرسى مفهوما جديدا للفظ الشعب التونسي، الذي كان يعني إلى حد ذلك التاريخ نخبة ضيقة من رعايا "الباي" (الملك التونسي) وبعض علماء الزيتونة وكبار التجار، بينما آمن الدستوريون الجدد بأن الشعب التونسي يجب أن يشمل كل تونسي أينما كان محله في البلاد التونسية، وبأن قضية النضال من أجل الاستقلال يجب أن يصل صداها وتحل مسؤوليتها في كل قرية وبلدة ومدينة تونسية، خلافا للاعتقاد الذي حمله الدستوريون القدامى، الذين آمنوا بأن السياسة شأن يخص الباي وأهل الحل والعقد من العلماء والنخب بالمعنى الضيق والمحدود للكلمة.
و انطلاقا من هذا المفهوم للشعب الجديد في حينها، طرح الزعيم بورقيبة ورفاقه في الحزب الحر الدستوري الجديد، آليات مبتكرة للعمل السياسي، لعل أهمها وأكثرها فاعلية في مواجهة المستعمر، هي آلية "الاتصال المباشر" بالجماهير، فقد تمكن المجاهد الأكبر في سنوات قليلة، وهو العائد قبل سنوات قليلة من دراسته الجامعية الباريسية، من زيارة كل قرية وبلدة ومدينة في بلده، من بنزرت إلى بنقردان، ومن المنستير إلى القصرين، منهضا ههم التونسيين ومبشرا بغد أفضل في ظل الدولة المستقلة، ولم تكن مهمته في ذلك يسيرة، مثلما قد يعتقد الآن بعد مرور خمسين عاما على الاستقلال، إنما كان المؤمنون بالقضية التونسية بين التونسيين أقلية، وكان الإحباط وقصر النظر وعدم الاستعداد للتضحية هو الغالب.
ألقي القبض على الزعيم بورقيبة بعد أربع سنوات من تأسيس الحزب، وتحديدا على إثر ما عرف بأحداث الزلاج، وهي أحداث دموية وقعت يوم 9 ابريل 1938، و سقط على إثرها عدد من شهداء الحركة الوطنية من المتظاهرين الذين رفعوا شعارات الاستقلال والدستور. وقد وجه المحققون الفرنسيون تهما خطيرة للزعيم بورقيبة ورفاقه من قادة الحزب، كان من شأنها أن تقودهم إلى حبل المشنقة لو لا اندلاع الحرب العالمية الثانية في السنة الموالية للاعتقال. وتشير الوثائق الفرنسية المفرج عنها لاحقا، أن المدعي العام الفرنسي استدعى الزعيم الشاب آنذاك في آخر جلسات التحقيق، ودعاه إلى التراجع عن أقواله لأنها ستفضي به إلى الإعدام، فكان رده كما يلي:" لقد ضحيت من أجل شعبي بوقتي وعائلتي، ولا مانع عندي من التضحية بنفسي في سبيل تحريره".
لم يكن الزعيم بورقيبة في ذلك الوقت يبصر الغيب أو يملك ما يؤكد أنه سيكون زعيما للاستقلال ورئيسا للبلاد بعد ثمانية عشرة عاما، إنما كان دافعه في صموده وثباته أمام آلة الاضطهاد الاستعماري الرهيب، إيمانه بعدالة قضيته و اعتقاده العميق بأن الشعوب والأمم مشاريع عظيمة تستحق التضحية، تبدأ بفكرة في أعماق الرجال العظماء وتنتهي بفضل عزمهم وتصميمهم وعنادهم في الحق، بلدانا نامية وناهضة وبشرا جديرون بالاحترام.
و مما تذكره سجلات الحركة الوطنية، أن الزعيم بورقيبة ورفاقه وهم متوجهون إلى السجن من مقر التحقيق، كانوا ينظرون إلى عامة التونسيين على قارعة الطريق يجلسون على مقاهي الرصيف يلعبون الورق ويدخنون النارجيلة، غير عابئين في عمومهم بأن ثلة من الرجال الشرفاء في طريقهم إلى المشانق فداء لشعب لم تقرر غالبيته بعد النهوض من حالة الاستقالة واللامبالاة. وقد واجه الرفاق زعيمهم الشاب بهذا الواقع المرير، فما كان منه إلا أن أكد على أن الحق لا يعرف بإيمان الأغلبية به دائما، وأن مسؤولية القيادة تقتضي الاستعداد المستمر للتضحية لتكتسب معناها.
لقد مر الحزب الحر الدستوري خلال المرحلة الاستعمارية بعديد المحن والتحديات، التي عرضت قادته للموت والمعتقلات والمنافي، وانتهت على مشارف الاستقلال بفتنة كادت تقصم ظهره، حيث انقسم الدستوريون إلى "بورقيبيين" يؤمنون بسياسة خذ وطالب، ويتطلعون إلى بناء دولة حداثية ومؤسساتية لا ترى مانعا في أخذ الحكمة من الغرب، و"يوسفيين" ( نسبة إلى الزعيم صالح بن يوسف الرجل الثاني في الحزب آنذاك) يرون أن استقلال تونس قد يضر بالقضية الجزائرية، وأن للمشرق حظوة ومصلحة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وقد شاء القدر أن يخرج الحزب الحر الدستوري من هذه الاختبارات على قساوتها، أصلب عودا وأكثر شعبية، وأن يكرس زعيمه الحبيب بورقيبة مكانته التاريخية كصانع شعب وأمة وحاكم استثنائي في تاريخ بلاده على الأقل، جمع بين الحنكة السياسية وعمق الفكر.
أما اليوم، فإن صورة الحزب الحر الدستوري فليست إلا نتاج مراحل الحكم المتتالية، فقد تحول الحزب مع مطلع الاستقلال التونسي إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري"، تناغما مع المرحلة التاريخية التي كانت تونس معها في أمس الحاجة إلى بناء حركة شعبية قائمة على التضامن الطبقي والدور المحوري للدولة في التنمية، حيث خرجت البلاد لتوها من تحت نير الإدارة الاستعمارية، طموحة بإمكانيات محدودة إلى وضع أسس اقتصاد وطني اجتماعي متين، ومتطلعة إلى تعميم التعليم والمؤسسات الصحية ومد الطرق والجسور وتشييد المصانع وتوسيع الرقعة الزراعية وتثبيت السكان الرحل في تجمعات تستجيب للحياة الحضرية.
كما تحول الحزب في مرحلته الأخيرة مع وصول الرئيس زين العابدين بن علي للحكم سنة 1987، إلى " التجمع الدستوري الديمقراطي"، في إشارة إلى استعداد الحزب إلى التحول من حالة "الحزب الواحد" إلى حالة "الحزب الحاكم" أو "حزب الأغلبية". و لا شك أن الدافع إلى ارتباط الحزب في مطلع الستينيات بالاشتراكية، دليلا على وعي سياسي بمتطلبات المرحلة المركزة على التنمية، هو تماما الدافع إلى ارتباط الحزب في الثمانينات بالديمقراطية، كدليل على وعي قيادته بمتطلبات المرحلة المركزة على التعددية السياسية وحقوق الإنسان.
و خلال المرحلتين، الاشتراكية والديمقراطية، كان هناك رابط مشترك في تقدير قيادة الحزب الحاكم للحياة السياسية، و في تمسكها بالخصوصية، فالاشتراكية برأي زعماء الحزب لا يجب أن تكون نسخة مما عرف بالاشتراكية الماركسية أو الماوية أو غيرها، إنما اشتراكية ذات نكهة محلية تراعي خصوصية الهوية الوطنية التونسية، ولا أشك في أن التنظير ذاته قد حضر في تأويل قيادة التجمع الدستوري الديمقراطي للديمقراطية، التي يرون أنها يجب أن تتزامن وتتناغم مع متطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأن لا تتحول إلى حالة فوضى تعيق العجلة التنموية أو تتسبب في المساس بهيبة الدولة، التي تعد بمقاييس التاريخ فتية، وتحتاج إلى تراكم أكبر لتقاليد الممارسة السياسية التعددية.
لا شك أن رؤية الكثير للحزب الحر الدستوري، أو حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس، متصلة بشكل كبير بالرؤية السائدة للأحزاب العربية الحاكمة، باعتبارها مسؤولة عن كل المشاكل والإحباطات السائدة في الشارع العربي، لكن الرأي أن كل حزب عربي حاكم يظل حالة خاصة، وأن الدستوريين التوانسة الحقيقيين، ما يزالون يؤمنون بأن حزبهم كان العمود الفقري لكيان بلدهم ودولتهم وهويتهم الوطنية، وأنه كان المؤتمن الرئيسي على قضيتهم الوطنية أيام الكفاح ضد الاستعمار، والمؤتمن إلى اليوم على مشروعهم الوطني في التنمية والهوية والديمقراطية..حزب قام في توجهه الايديولوجي على الوسطية الفكرية الجامعة لعناصر الهوية القومية والدينية، وفي ممارسته السياسية على العملية والواقعية، بعيدا عن المزايدات والديماغوجية..حزب قادر على التجدد دوما، و سيكون ضعفه، إن حدث يوما لا قدر الله، ضعفا للوطنية التونسية، التي هي قاعدة الدولة وصمامها.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف