عصر التنوير والحداثة 1-2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وقد احدثت اراء رينيه ديكارت (1596-1650) اول ثورة في الفلسفة الحديثة في تطويره المنهج العلمي الجديد وتصديه للكون بوصفه آلة محكومة بقوانين الطبيعة الميكانيكية، والتي ابعدته تماما عن الاسطورية والرمزية والغائية، و كانت غايتها ان تبحث عن الكمال في النظام الرياضي للطبيعة، حيث عزل ديكارت العلم الفيزيائي عن العلل الغائية وارجعها الى الاسباب الكامنة وراء الاحداث الفيزيائية. كما اعتبر ديكارت بان الطبيعة هي نظام منسق من القوانين القابلة لسيطرة الانسان. وقد نتج عن اراء ديكارت الفلسفية تياران هامان هما، التيار العقلي، كما ظهر عند سبينوزا ولابتنز، والتيار التجريبي كما ظهرعند جون لوك وباركلي وهيوم. وقد شكل التيار العقلي منذ ذلك الوقت اتجاها تفاؤليا، كان نقطة البداية للاتجاه النقدي، اما الاتجاه التجريبي فقد اتجه نقده الى العقل نفسه. وكان لوك قد اعلن بان جميع معارفنا انما تاتي عن طريق الحواس، كما نقض هيوم العقل مثلما نقض الدين واتجه الى العلم.وقد انتجت اراء ديكارت الفلسفية تطور رؤية ذاتية للعالم و اصبح الانسان يرى صورته في مراة صافية يتمثل من خلالها العالم واخذ يدرك نفسه كذات مستقلة تميز نفسها عن الطبيعة، بل وتسيطر عليها وتستغلها. كم اخذ يستمد يقينه من ذاته وليس من سلطة اخرى غيرها. وقد اعتبر ديكارت مؤسس الحداثة الفلسفية بوضعه مبدء الذاتية "الكوجيتو" الذي يقول "انا افكر اذا انا موجود"!. وبهذا جعل ديكارت الانسان مركز الكون واساس الحقيقة واليقين(1).
واذا كان ديكارت مؤسس الحداثة الفلسفية, فان لايبتنز(1646-1716) هو اول مؤسس للحداثة الفلسفية على مبدء العقلانية، اذ ان "لكل شىء سبب معقول" وهو ما حول الانسان من متأمل للكون الى غاز له وباحث ومنقب عن " اسباب معقولة " فتحت امامه ابواب العلم الحديث ومنحته سلطة استعاض عنها عن الغاز الميتافيزيقيا القديمة.(2)و كانت الحداثة الفلسفية قد مهدت الطريق لظهور كانت على المسرح الفكري وتطويره للفلسفة النقدية، حيث اصبح النقد عنده سيرورة معرفية وفعالية فكرية، ثم تحول الى منهج نقدي يرتبط بالنشاط المتميز للعقل ويقوم على الجدل العقلي. كما اصبح النقد محورا للفكر الفلسفي والاجتماعي خضعت له جميع ظواهر الحياة من دون استثناء، الدين والمجتمع والقوانين, وبخاصة بعد صدور كتابه نقد العقل الخالص عام 1781.وقد امتدت رياح التنوير الى الادب والفن والمسرح واللغة وفي جميع انحاء أوربا، حيث صدرت اعمال ادبية وفنية ومسرحيات نقدية وترجمت امهات الكتب الاغريقية، كما صدرت مجلات ادبية وعلمية وفلسفية. وقد ظهر في فرنسا كتاب ومفكرين عظام امثال فولتير وروسو وديدرو وفي انكلترا امثال هيوم وجونسون وبروان وفي ايطاليا فيكو وميكافيلي وغيره. اما في المانيا فقد ظهر هيردر وغوته وشلر وليسنغ. وكانت لكتابات ليسنغ ومسرحياته الكوميدية والتراجيدية على سبيل المثال دورا هاما في تطور المسرح النقدي في المانيا، وبخاصة مسرحية "ناتان الحكيم" 1779، التي دعت الى الحوار والتسامح بين الاديان والتحذير من الاحكام المسبقة وعدم التسليم الاعمى للعقائد. وبهذه الاقكار التنويرية عبر ليسنغ بصدق عن ما طرحه عصر التنوير حول العلاقة بين الدين والانسان.
وقد انتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات اجتماعية و فلسفية نقدية وحركات اجتماعية جذرية شملت جميع اوربا، وكان في مقدمتها فلسفة التاريخ وفلسفة القانون ونظريات العقد الاجتماعي والاشتراكيات الطوباوية وغيرها التي طبعت تاريخ الفكر الحديث في اوربا.
انقلابية عصر التنويريعتبر عصر التنوير عصر انتصار الفكر الاجتماعي والفلسفي التنويري الحر, الذي مهد الطريق لقيام الثورة الفرنسية والاعلان عن لائحة حقوق الانسان وترسيخ قيم الطبقة الوسطى فكرا وسلوكا وسياسة.
يعني التنوير انبعاث الروح النقدية التحررية التي تخطت تشاؤمية العصور الوسطى وانتجت ابداعات ادبية وفنية وعلمية وثقافية اتسمت بالشجاعة الكافية لاستخدام العقل لمناهضة التفكير الغيبي والاسطوري وتحريره من الاوهام والخرافات وفتحه افاقا جديدة في البحث والدراسة والمعرفة واكتشاف المجهول.وقد تميز عصر التنوير، الذي تطور خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بتدفق تيارات فلسفية عارمة وافكار اجتماعية نقدية وحركات سياسية انقلابية انبثقت عن التحولات البنيوية التي صاحبت الثورة الصناعية في اوربا والتبدلات التي رافقتها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وبخاصة في فرنسا وانكلترا والمانيا, كما ساد مناخ فكري سيطرت فيه الفلسفات الحسية والعقلية وافرزت صراعات فكرية بين الاتجاهات الفلسفية المادية واللاهوتية والعقلية، الى جانب التيار الانساني والليبرالي وما رافق ذلك من جدل حول مفهوم الطبيعة البشرية.وكان الهدف الرئيسي الذي سعى عصر التنوير الى تحقيقه هو تكوين "فلسفة جماهيرية " تكون بديلا لفلسفة الطبقة الارستقراطية المحافظة وتهيئة الاذهان لتغيير الانظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية, التي باتت لا تتلائم مع روح العصر، وكان محورها الاساسي هو فكرة التقدم الانساني الذي ينبثق عن قدرة العقل البشري على السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الانسان والمجتمع البشري. وكان من نتائج عصر التنوير احترام العقل ومناهضة التفكير الميتافيزيقي, انطلاقا من ان العقل البشري هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة.
ومن اهم الحركات التي ساعدت على تبلور الفكر الاجتماعي والفلسفي الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر الحركة الانسانية التي تمثلت بافكار الانسكلوبيديين في العلوم والمعارف، والحركة السياسية التي تمثلت بمبادىء الثورة الفرنسية ولائحة حقوق الانسان.انطلقت الحركة الانسانية من نقض الفكر الميتافيزيقي الذي ساد في العصر الوسيط ونادى بالعودة الى الطبيعة الانسانية، التي تنبع اصلا من الظروف الاجتماعية التي تحيط بها, تلك الحركة التي عبرت عن موقف فكري واضح المعالم يؤكد على ان منبع الافكار هو الواقع الاجتماعي بذاته. وكان من ابرز ممثلي هذه الحركة جان جاك روسو وفولتير وهلفسيوس وغيرهم من الانسكلوبيديين. اما الحركة الثانية فكونت مشروعا سياسيا هدفه تأسيس دولة تنزل السلطة, بما فيها سلطة الافكار، الى المجال الشعبي، وتمثلت بالثورة الفرنسية واعلان مبادئ حقوق الانسان.والى جانب الثورة الفرنسية ذات الطابع السياسي تفجرت الثورة الفلسفية في المانيا على يد كانت, التي كانت تدشينا لفكر نقدي جديد مثل قطيعة مع ما سبقه من فلسفات.
وكان فولتير(1694-1778) اصدر عام 1732 "رسائل من لندن بواسطة الانكليز" اتخذ فيها موقفا معاكسا لشكل الحكم الانكليزي انذاك كما انتقد فيها الحكم الملكي المطلق. وقد احرق الكتاب في حينه، غير ان صدوره فيما بعد شكل بداية لحركة فلسفية اصبح لها معنى تاريخيا عالميا، بالرغم من انها لم تفهم بصورة جيدة في انكلترا انذاك للظروف التي كانت انكلترا تمر بها. كما انتقد فولتير التعصب الديني ونادى بفكرة التسامح, مثلما انتقد الكنيسة ودعا الى التمرد على سلطتها وطالب بتخلي الدولة عن وظيفتها في رعاية الكنيسة بدلا من رعاية افراد المجتمع. وقد اعتبر العقيدة قضية شخصية ترتبط بالانسان وان كل شخص مسؤول امام خالقه وعليه ان لا يفرض تصوره الخاص للعقيدة على الاخرين.(3)وقام جارلس مونتسكيو(1689-1755) برسم ملامح الحكومة الصالحة على اساس مبدأ فصل السلطات، اي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو المبدأ الذي يستطيع تحقيق الحرية السياسية للافراد. وقد اعتبر القانون هو العقل البشري ذاته، الذي اخذ يحكم الشعوب والاقوام.كما اشرف دنيس ديدرو(1713-1784) على وضع موسوعة فلسفية شاملة للمعارف الانسانية تساعد على تربية "حس نقدي" لدى الافراد وتنويرهم عن طريق محاربة الجهل والخرافة وتعريفهم بمنجزات العقل في جميع المجالات العلمية والادبية والفنية والاقتصادية.أما جان جاك روسو(1712-1778) فقد دعا الى تحقيق الحرية السياسية وضمان الحقوق الطبيعية للافراد, التي تتوقف على مدى تمتع الشعب بحق السيادة. وقد اعتبر الحرية هي جوهر الانسان وعلى المؤسسات السياسية ان تلتزم بضمان الحرية، وان افضل نموذج للدولة هو الذي يضع فيه الشعب القوانين وتكتفي الحكومة بتنفيذها وحمايتها. وان التربية الليبرالية ضرورية لانها كفيلة لجعل المواطنين يستوعبون قيم الحرية والديمقراطية والمصلحة العامة.(4)لقد شكلت هذه الافكار التنويرية بذور الوعي الاجتماعي والسياسي, التي اثمرت في نهاية القرن الثامن عشر مبادىء، الثورة الفرنسية وتوجت بالاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1789. المصادر:
1- Horkheimer, Kritische Theorie, Bd.I ,FFm 1968 s, 303ff, Adorno, Vorlessung, zur Soziologie, 1958,s, 208f. 2- محمد الشيخ وياسر الطائري, مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة (اعداد وتعريف) دار الطليعة
1996 ص13
3- Voltair, F. M. in : Philosophische woerterbuch. s.630.
4- Rousseau, J.J. in : Philosophische Woerterbuch, s.516.
التعليقات
مقال ممتاز
يساري عراقي -ما احوجنا في عصورنا الظلامية في الوطن العربي الى نشر الفكر العقلاني والتنويري والانساني وتجارب الشعوب في التحول من البدائية الى الحداثة.
thank you very much
maroc -thank you very much for this good article ,i wish that the arab world and islamist in general to understand that they is something inside our head that we can use and also they should have to respect each human being religion ...thanks
ما بالنا نحن
نشوان -ما احوجنا الى عصر تنويري ينهض بنا وينتشلنا من ربقةالتخلف التاريخي الذي لا زال يجسد افكاراً وقيماً ومسلمات عصور تجاوزتها الامم المتحضرة والسائرة حثيثاً الى امام في التسابق الحضاري ونحن نمضي عهوداً في التخبط الفكري والمراهنة الفاشلة في وضع الحاضر باحضان الماضي لنكرس العجز الكلي في مسايرة سمة العصر .
جدير بالدراسة
خوليو -الموضوع هو أن التنويريين الأوروبيين المذكورين في هذه الدراسة القيمة أنتجوا أفكارهم وطرحوها في المجتمع وقد لاقت في بادئ الأمر صعوبات ورفض ولكن بعد مدة جرى تقبلها وانتشارها وسرت مثل النسيم العليل تنعش حضارة الإنسان، في منطقتنا جرت محاولة شبيهة تنويرية ولو متواضعة(شبلي الشميل فرح أنطون ،الأفغاني، أنطون سعادة، طه حسين، فرج فودة، ولكن أفكارهم ومشاريعهم التنويرية جوبهت بشكل عنيف ولم تنتشر فيما بعد على غرار ماحدث في القارة الأوربية، لماذا ياترى هل هناك عطل في خلايا الاستقبال عند الشعب؟ موضوع جدير بالدراسة.
من دون مسميات
محمد لافي -المقال ممتاز ولكن كان ختامه...! وذلك فيما يخص (التربية الليبرالية)..سيدي هل اختصرت مفاهيم العدالة،الحرية،الديموقراطية المزعومة،أو فلنقل (مباديء الثورة الفرنسية.... بمصطلح (تربية ليبرالية)؟؟ هذا كثير..شخصياً لا تهمني المسميات ولكن الحق الطبيعي لكل البشر وبكل بساطة التمتع بالحرية و العدل والعيش بسلام
الى متى؟؟؟
رمضان عيسى -لكل شىء سبب معقولمتى تصل هذه الفكرة الفلسفيةالى البقعة الجغرافية التي تقع بين المحيط والخليج العربي ، فان أولى الأسباب للتأخر تبدأ من تغييب العقل عن أن يبحث عن الأسباب المعقولة ، التي يقبلها العقل ، الأسباب الواقعية ، لا الخيالية التي تجعل سيرورة الزمن في المجتمع البشري والحركة في الطبيعة ، تسير بالشكل الذي سارت عليه وليس غيره ، مع التعرف على كل المسببات وتسلسل الاٍحتمالات الأقوى التي دفعت الحدث بهذا الاٍتجاه لاغيره . ولا يمكن هذا بدون تدريس الفلسفة والتعرف على مفاهيم التغير والتقدم والتطور والتي بمعرفتها أمكن ظهور نظريات حول تغير وتقدم المجتمعات البشرية ، أي كيف تقدمت المجتمعات من مرحلة البربرية الى البداوةوالعبودية ، الى الزراعة والاٍقطاعية ، الى الصناعة فالرأسمالية ، الى مجتمع التوافق والتكافل الصناعي والاٍجتماعي. اٍن فهم معنى التطور قد أوجد الأرضية لفهم عملية التطور الطويلة التي تطورت بموجبها الكائنات العضوية وكيف وصلت الى ما وصلت اليه من قدرة على المحافظة على نفسها والتكيف مع الطبيعة المحيطة بها . أن الفلسفة هي التي تجعلنا نبحث ونستكشف القوانين الأكثر شمولا التي تخضع لها جميع الظواهر في الطبيعة والمجتمع والفكر الاٍنساني ، وبكشف هذه القوانين ومعرفتها ،ممكن تحاشي خطرها وتجيير منفعتها لصالح البشرية ، فكل المكتشفات العلمية وأحداث الطبيعة لها وجوه ضارة ووجوه نافعة ، مثل النار والقوة الذرية ، والبارود والسموم وقانون الجاذبية والطفو والرياح وقوانين السرعة ، والانسان بالعلم والمعرفة يستطيع أن يجعل حياته أكثر متعة وسهولة على سطح هذا الكوكب .
أولاد آليون
ايمن -ذلك التاريخ الحافل ..أنتجه عقل واجه مشكلات دينية واجتماعية وسياسية معينة ..لو تغيرت إحداها ..سيتغير التاريخ وسيتغير الحاضر جذرياً نحن نواجه شيئاَ مختلفاً ..لذا علينا أن نخلق ما نحتاج .. لا أن نستنسخ .. فننجب أولاداً آليين ..بلا نكهة ..
الحداثة
han -لاتغتر بالحداثة وخاتمة الفكر الفلسفيفمعظم صناعها لازالو يتمسكون بهوياتهم وثقافتهم لاكن العرب يمسكون بذيل الحداثة لاهم ركبوا ظهرها ولاهم تركوها وشأنها الحداثة لابد ان تشمل الكل في الكل ،لاتشدق في الكلام والثرثرة بأشياء قد لا توصل بين الشفة العلية والسفلى ناهيك عن التقدم
وما فرطنا فى الكتاب
مصرى وبس -ياسيدى لدينا كتاب جامع مانع فلماذا الحداثة ولماذا نستعمل عقولنا؟ عندنا مبادىء جاهزة منزلة فلماذا حتى خلق الله العقل شىء يحيرّ!