كتَّاب إيلاف

فرنسا و(الانتفاضة القادمة)!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لعل أبرز ظاهرة سياسية واجتماعية في فرنسا اليوم هي ظاهرة تصاعد نفوذ اليسار المتطرف وارتهان العمل النقابي لأشكال العنف، بالارتباط بالأزمة الاقتصادية الدولية، حيث تساعد الأزمات على صعود الغوغائية والتطرف السياسي.
إن ظاهرة التطرف اليساري ليست محتكرة فرنسيا، فهي موجودة بدرجات مختلفة في دول غربية أخرى ونرى ذلك عندما تجتمع عناصر المنظمات المتطرفة في مناسبات القمم الاقتصادية واجتماعات الدول الغنية الكبار، فتقوم بمظاهرات عنيفة، مصطدمة بالشرطة بقنابل مولوتوف، وممعنة تكسيرا وحرقا. هذا مثلا ما شهدنا أخيرا في ستراسبورج، وقد علقنا على أحداثها في حينه. إذ نقول هذا، فإن اليسار المتطرف اليوم هو الأقوى في فرنسا، وإن العمل النقابي، عماليا كان أو طلابيا، مرتهن غالبا للعناصر المتشددة، علما بأن هناك قيادات نقابية أخرى تلتزم الحوار ولا تشجع العنف وقد اشترطت هذه للمشاركة الجماعية في مظاهرات عيد العمال لهذه السنة أن تجري بسلام، بينما كانت كل نقابة تحتفل على حدة في العقود لماضية.
العمال والمواطنون الأميركيون هم الأكثر تضررا من الأزمة، التي انطلقت من بلادهم: المعدل الشهري للبطالة ما بين 150 ألف و200 ألف؛ عشرات الآلاف من البيوت تنزع من أصحابها العاجزين عن دفع القروض العقارية ويرون أنفسهم مشردين وبيوتهم بالأمس تعرض للبيع، ومنهم آلاف باتوا يسكنون الخيام. رغم كل هذه المآسي، فإنهم يواجهون الحالة بصبر وثقة بالدولة والكونغرس. إنهم يعلمون أن إقناع أعضاء الكونغرس باتخاذ تدابير ناجعة جديدة أجدى من صخب الشوارع ومحاولة إحلاله محل السلطتين التنفيذية والتشريعية المنتخبتين. العامل الأميركي يفكر في العمل وحياة العائلة بينما النقابات الفرنسية تسيس كل شيء وتؤثر عليها التيارات اليسارية.
لقد كان طبيعيا أن تنتقل الأزمة لدول العالم، ومنها فرنسا، فالمشاريع والبنوك في مصاعب كبرى، وتسريح العمل يستمر، مما يؤجج لا محالة مشاعر الغضب والاحتجاج والمرارة والإحباط. كل هذا طبيعي ومشروع، غير أن ما ليس طبيعيا هو قرن المطالبات بعنف غير مسبوق ولحد خطف أرباب العمل أو المدراء أو إداريين آخرين، وحجزهم ليلة او ليلتين بحجة التفاوض معهم. أما أحد أرباب العمل، فقد حوصر في سيارته، وراحت الشتائم والتهديدات توجه له، علما بأن كل هؤلاء لا علاقة مباشرة لهم بالأزمة، لاسيما بالنسبة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. لقد تعددت هذه الحالات دون أن تتخذ الحكومة تدابير قضائية خشية تأزيم الوضع، وباستثناء مديرَيْن لجئا للقضاء، فإن بقية الضحايا لزموا الصمت بطلب من السلطات الحكومية. إن خطف شخص وحجزه انتهاك للقانون وعدوان على حرية الأفراد وانحراف بالعمل النقابي إلى عمليات قريبة من الإرهاب. أما عمال الكهرباء، فقد لجئوا لبضعة أيام إلى قطع الكهرباء والغاز بطريقة عشوائية في هذه المنطقة أو تلك، مما خلق ضدهم مشاعر الغضب لدى السكان ضد هذا النوع الجديد من العنف ضد المواطنين وضد مخازن الأطعمة والمستشفيات المدارس.
لقد نشرنا خلال السنوات الماضية عشرات المقالات عن الأوضاع الفرنسية وتوقفنا لدى ظاهرة التطرف النقابي المقترن بتطرف سياسي يساري، فالعمل النقابي والمهني في فرنسا مسيس كله، وكل إضراب للعمال أو الطلبة أو المدرسين يتحول حالا إلى فعل سياسي، تلازمه غالبا أعمال عنف، وتعطيل الخدمات والجامعات، والمدارس. الطلبة، من طلبة ثانوية وجامعات، مضربون منذ أسابيع وهم يمنعون فتح العديد من الجامعات، ويعطلون الامتحانات. أما أي إضراب عمالي، فإنه سرعان ما يتحول لإضرابات عامة شاملة، تختلط فيها المطالب المتعددة والشعارات والهتافات السياسية، وهذه، أي الإضرابات العامة المتتالية، ظاهرة فرنسية بامتياز.
إن العمل النقابي يتحول إلى رهينة بعض النقابات المتطرفة، وفي مقدمتها نقابة [س. ج. ت.] الشيوعية، فيما يزداد نفوذ حزب أقصى اليسار وزعيمه "بيزنسون" بين الطلبة والحياة السياسية، حتى أن هذا الحزب، حزب "النضال ضد الرأسمالية"، هو اليوم أكثر شعبية من بقية أحزاب المعارضة، فتضطر القيادة الجديدة للحزب الاشتراكي للمزايدة اليسارية تجاهه. بل أكثر من ذلك، إن فرنسوا بيرو، الذي كان يوصف بزعيم الوسط، صار هو الآخر متأثرا بشعارات أقصى اليسار، ومثله دوفيلفان، رئيس وزراء شيراك، الذي أخذ يتحدث هو الآخر عن نذر "الثورة"، ويتغزل بالاشتراكية رويال!
إن الحزب الاشتراكي لا يدين عمليات ال"! ورويال، بالمناسبة، مليونيرة، ولم نسمع خطف، بل إن سيغولين رويال، المرشحة الاشتراكية الفاشلة للرئاسة، تصف أرباب العمل ب"قليلي الأدب أنها تبرعت ببعض أموالها للمحتاجين؟! إن أحزاب المعارضة، من أقصى اليسار لأقصى اليمين، تلتقي في التركيز ضد سركوزي وفي معارضة أي إجراء مهما كان تتخذه الحكومة، التي يلقون عليها مسئولية الأزمة. إن ظاهرة العنف في العمل السياسي والنقابي الفرنسي ليست وليد الأزمة، ولكن الأزمة صارت حجة لتصعيدها وهي مناخ مناسب لها.
نتذكر جميعا أحداث احتجاجات الشباب الفرنسي عام 1968، التي ترافقت زمنيا مع احتجاجات مماثلة في دول أخرى كانت من بينها الولايات المتحدة. إننا لو قارنا بين النمطين من احتجاجات الشباب، الفرنسي والأميركي، لوجدنا التالي:
الحركة الشبابية الفرنسية قادتها تجمعات أقصى اليسار وخرجت حتى على سيطرة الحزب الشيوعي، وقد اتصفت بحرب الشوارع مع الشرطة واحتلال الجامعات ورفع شعارات الثورة الاشتراكية، في حين أن الحركة الأميركية اتصفت بالمهرجانية المرحة، من غناء ورقص، والتعبير عن الطموح نحو حياة جديدة. صحيح أن الحركة الفرنسية أدت في النهاية إلى مزيد من الحرية في العلاقات بين الجنسين وانطلاق الشباب، ولكن هذا جاء نتيجة عرضية بينما كان شعار الثورة هو الطاغي.
إن التحريض على العنف والحديث عن "الانتفاضة الثورية" يتسع ونجد صداه منذ عقدين حتى في بعض الأغاني والأفلام الفرنسية، وقد انتشر مؤخرا كتاب بعنوان "الانتفاضة القادمة" بتوقيع مستعار هو "المجموعة الخفية"، ويشك البوليس أن وراءه "جوليان كوبات"، زعيم عصابة تخريب سكك الحديد، التي تعددت حوادثه قبل مدة قصيرة وأدت لعذاب المسافرين في صميم البرد القارص. هذا الكتاب، الذي وزعت منه عند ظهوره 1500 نسخة، يدعو إلى "تخريب الماكنة الاجتماعية" للنظام، ويشرح طرق تخريب خطوط حديد القطار السريع، أو أسلاك الكهرباء؛ ونذكر أيضا وصول رسائل مجهولة الهوية للرئيس سركوزي ومع كل منها رصاصتان.
أما الاعتداءات على الشرطة، حتى على أيدي مراهقي الضواحي، فكادت تصبح ظاهرة عامة؛ فالبوليس هو دوما في قفص الاتهام، وعندما يتعرض للضرب بالرصاص يصمت اليسار، ولكن حين يدافع البوليس عن نفسه فيُجرح أو يُقتل أحد المعتدين، فحينذاك تقوم احتجاجات المنظمات الإنسانية اليسارية، وإذا كان الجريح أو القتيل أسود أو عربيا، ارتفع الصراخ في الضواحي ضد ما يعتبر "عنصرية".
من الكتب الجديدة أيضا عن "الثورة" كتاب " النظام الديمقراطي" لمؤلفه المفكر "آلان باديو"، وهو يتحدث عما يعتبره فشل الرأسمالية، وأن الشيوعية يمكن " أن تفيد اليوم"، وإذا كانت للشيوعية "أخطاؤها"، [قاصدا انتهاكات ستالين وماو وكوريا الشمالية]، فإن الرأسمالية، على العكس، "يجب رفضها وتدميرها." أما "جان ليك مالينشون"، عضو مجلس الشيوخ والاشتراكي الذي خرج من الحزب الاشتراكي ليؤسس حزبا يساريا جديدا، وهو اليوم حليف الشيوعي في الانتخابات الأوروبية القادمة، فيدعو إلى "انتفاضة سلمية" عبر صناديق الاقتراع لإحداث "قطيعة تامة مع الرأسمالية"، قائلا إن الأزمة الاقتصادية تعني "نهاية عالم اللبرالية." إنه يهاجم من يعتبرهم "اليسار الخجول."
إن أحزاب اليسار، لاسيما أقصاه، تتبنى أكثر القضايا غير العادلة كمنح أوراق الإقامة بالجملة للمهاجرين غير الشرعيين، كما لا تتحدث عن عنف شبان الضواحي، لأن معظمهم من أبناء المهاجرين من أفريقيا السوداء وشمال أفريقيا، وعندما يتحدث أحد مذيعي التلفزيون عما يقع من جرائم هناك، ترتفع أصوات الاحتجاج بين شبان الضواحي ومن المنظمات "الإنسانية" وأقصى اليسار والجمعيات الإسلامية. المذيع إيريك زمور مثال لذلك، حيث تعرض للتهديد لذكره جريمة في الضواحي، فكتب عنه الصحفي الأفريقي "يوشوفا": "إنني سأدفع لمن يخرس هذا الحقير، زمور!"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف