كتَّاب إيلاف

يهود العراق، ذكريات وشجون، 45

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تتمة عود وانعطاف، إلى أيام الحب والعفاف، في العراق (5)


إهداء: إلى إ.د. والشاعر المبدع السيد جبار جمال الدين، سليل الأسرة الهاشمية العلوية الشريفة

كان المسيحيون في العراق في العهد الملكي أكثر حظا في الحياة الثقافية والأدبية والمجتمع والعمل قياسا بالأقليات الأخرى، ولهم مكانة مرموقة في الصحافة السياسية والأحزاب وكتابة التاريخ والأبحاث في اللغة العربية وتحقيق النصوص والنشاط الاجتماعي والأدبي والاقتصادي، لتمكنهم، مثل اليهود، من اللغات الأوروبية وعلاقاتهم الوثيقة بالفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، وقد تنافسَ المبشرون الأوروبيون في خطب ودهم، وتوثقت علاقاتهم العلمية والأدبية بشيوخ اللغة العربية في مصر وسوريا ولبنان. وكان على رأسهم مطارنة كبار من الموصل خاصة، ومن رجالاتهم وعلمائهم الأب أنستاس ماري الكرملي وسليمان غزالة وكوركيس عواد ويوسف رزق الله غنيمة (خريج مدرسة الأليانس ووزير سابق، ألف كتاب "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق"، إكراما لمَدْرَسته اليهودية)، وروفائيل بطي وغيرهم، وكان من بينهم من التحق بالأحزاب السياسية والجيش وسلاح الطيران وتبوأ بعضهم المناصب الوزارية، وكانت ثقة صدام حسين بهم كبيرة حتى أنه عين الوزير طارق عزيز نائبا له، بالرغم من أن الضابط منير روفه كان قد فرّ بطائرة الميج 21 إلى إسرائيل (1966) بعملية استخبارية قام بها مركز المخابرات الإسرائيلية (الموساد). ويرى الكاتب والمؤرخ أبنير يعقوب يارون، حفيد الحاخام المتصوف يهودا فتيّا البغدادي، في كتابه "وداعا لك يا بغداد"، أنها كانت عملية معقدة محفوفة بالمخاطر وذكر فيه تفاصيل هذه العملية التي كان له ضلعا فيها. أما يهود العراق فلم يكن لهم سوى وزير واحد وهو وزير المالية السير حسقيل ساسون (1921-1925) الذي أنقذ الخزينة العراقية زمن الملك فيصل الأول، (أما اقتراح داود باشا الحيدري، خال الشاعر بلند الحيدري، على صالح جبر في 1948، بإسناد وزارة المالية إلى الأستاذ مير بصري، فقد أجهض بسبب قرار التقسيم واحتمال إنشاء دولة يهودية في فلسطين)، والطيار ناجي إبراهيم خريج الكلية العراقية العسكرية الذي خدم في القوة الجوية العراقية ثم في سلاح الجو الملكي البريطاني في الحرب العالمية الثانية. وأعلى رتبة بلغها ضابط يهودي في الجيش العراقي هي رتبة "مقدم" التي منحت للضابط الشهير سالم عيزر (أبو غازي) الذي كان عبد الكريم قاسم من معاونيه في الجيش عندما كان ضابطا في أول خدمته العسكرية.
وفي العهد الملكي انضم بعض المسيحيين إلى الحرس الملكي العراقي أيضا، وأشهرهم الضابط أنطوان، وهو الرياضي السباح الذي اشتهر بمغامراته الرياضية، وكان من مشاهير أبطال المسيحيين، والمنافس لبطل اليهود المصارع حاييم دُمّه، الذي كان حامي ذمار اليهود في أحيائهم الشعبية ومدار فخرهم، (وقد توفاه الله قبل مدة بعد أن فاز في انتخابات بلدية الرملة وأصبح نائب رئيس بلديتها، مثله مثل دافيد يوسف رئيس بلدية أور- يهودا. غير أن هذا الأخير نال شهرته بكتبه عن لهجة يهود العراق وعاداتهم وتاريخهم في معسكرات الخيام في الخمسينيات وفي عروضه المسرحية باللهجة اليهودية البغدادية ونكاته عنهم). أما أنطوان فقد نال شهرته بطريقة مبتكرة وهي أنه كان يقف عاريا على جسر الملك فيصل، ويستعرض عضلاته أمام "الرايح والجاي" بفخر. قطعتُ الجسر ذات يوم لأزور بيت خالي حاييم في مهمة أرسلتني إليها والدتي إلى أخيها، وأتسلق النخلة الخستاوي لأراقب نمو زغاليل الفخاتي في أعشاشها، فإذا "بلمة" من النساء والرجال قد التفت حول رجل "امصلخ أبطـَرْك للباس"، والناس تتهامس بإعجاب، "أنطوان أجا أيجيّت (يقفز) من الجسر!". قالت امرأة لم تسمع به من قبل، "اشديسوي هذا المخبل؟ ميستحي واكف مصلخ كدام النسوان ابطرك اللباس؟"، فأجابها رجل مداعبا، "لا هذا راسه حار جاي اجيّت من الجسر للماي خاطر ايبرد راسه!"، فضحك بعض الملتفين حوله. وكان أنطوان أثناء ذلك ينظر نظرات الديك المنتصر ويتبختر كالطاووس ويظهر عضلاته كالأبطال في مباراة أجمل جسم رياضي في الصحف الأوربية، وليمتحن عدد المشاهدين الذين توقفوا ليروا قفزته البطولية ولا قفزة طرزان، إلى المياه الوادعة لنهرنا الخالد. اقتربت من حاجز الجسر لامتحن المسافة التي سيقطعها في الهواء، وهالني الارتفاع العالي "اللي ايحط الراس يفتر ابسبع دواخات"، وهناك لاحظت زورقا وفيه شخصان وثياب خاكي وخاولي (بشكير أو فوطة الاستحمام) بالانتظار و"البلمجي أيغرف" ليحافظ على موضعه قرب "دنكات" (أعمدة) الجسر ليلتقط بطلهم بعد أن يعود سالما إلى سطح الماء. ثم جاءت المرحلة الثانية من عرضه الرياضي، وهو قفزته البهلوانية الرشيقة على حاجز الجسر بجرأة وبدون أن يترنح. ونظر إلى الأسفل ثم وضع يده على صدره متظاهرا بالخوف والهلع، ثم ابتسم ابتسامة المطمئن الواثق بنفسه. تمطى بجسمه العضلي ورفع يديه إلى الأعلى وقفز قفزة رائعة وقد تقوس ظهره ومد ذراعيه كنسر يفتح جناحيه لينقض على فريسته. وشهقت النساء وصفق الرجال، "هاضا شلون عفريت، شلون سبع، والله بطل!" وتدافعنا إلى حاجز الجسر، فرأيناه وقد قرب يديه ومدهما فوق رأسه ليتلافى صدمة الماء المدمرة. لم يثر رشاشا عند صدمته بصفحة النهر الأزلي، وانتظرنا وصوله إلى سطح الماء وقد أمسكنا أنفاسنا. خرج بعد فترة وهو ينفض عن شعر رأسه الماء يمنة ويسرة وسبح إلى الزورق الذي كان بانتظاره، وتسلق حافة الزورق بسرعة البهلوان وجلس في البلم وهو يمسح الماء عن عينيه ووجهه ويلوح للمتفرجين الذين كانوا يصفقون له بإعجاب. وفي اليوم التالي أخبرت أصدقائي في المدرسة "البارحة شفت أنطوان أيجيّت من جسر الملك فيصل". ابتسم بعضهم وقال، "ايكولون هاي كلها سخته، أيسوي هيج خاطر الشهرة".
كانت جميع مغامرات هؤلاء الرياضيين تتم بمبادرتهم، وإذا أصاب أحدهم مكروه فهذا حظه ونصيبه "واللي على الكصة أنكتب لازم تشوفه العين"، ولا راد لقضاء الله سبحانه وتعالى والذي لا يحمد على مكروه سواه. ومثل هذا الحظ السعيد الذي تمتع به أنطوان في قفزاته من جسر الملك فيصل، لم يكن من نصيب الصبيين اللذين قدما مع عائلتهما من أحياء بغداد اليهودية القديمة، وأتوا بخروفهم معهم وسكنوا قرب مدرسة السعدون. كانا يذهبان كل صباح "مصلخين" بلباس السباحة، يسوقان خروفهما معهما ويسيران حافيين مارين من أمام دارنا ويقطعان الطريق الرئيسي إلى شارع أبي نواس والى الشط. وفي شهر آب اللهاب وهو الشهر الذي يعقد فيه اليهود مناحاتهم في التاسع من شهر آب العبري من كل سنة لذكرى خراب البيت المقدس، يمتنع اليهود فيه عن السباحة تشاؤما، ويعتقدون أن من يسبح في النهر في ذلك اليوم يصيبه مكروه أو يغرق لا محالة، وذلك بالرغم من انخفاض منسوب مياه دجلة، حتى أن الجزرة تبدو فيه في أوج ارتفاعها وتبقى المياه بينها وبين الجرف أمام البتاويين والعلوية واطئة ضحلة، وان كان التيار فيها قويا كاسحا. قرر احد الأخوين أن يقفز إلى الماء، محاكيا أنطوان، دون أن يفحص عمقه ودون أن يعبأ بتحذير المتشائمين من ذلك اليوم. طار في الهواء من الجرف وقوس ظهره وفتح ذراعيه مثلما كان يفعل أنطوان وغاب في الماء. انتظر أخوه خروجه إلى سطح النهر، ولكن يا للهول، بقيت صفحة الماء واجمة مكفهرة عابسة، طلب أخوه النجدة من أولاد الحلال ثم ألقى بنفسه وهو السباح الماهر وغاص إلى قعر النهر، فتح عينيه في الماء الصافي فوجد أخاه فاقد الوعي ينزف رأسه دما، فقد اصطدم بعنف بالقعر الرملي والدم يلون الماء من حوله بحمرة الجحيم. نقل الفتى إلى مستشفى المجيدية. قالوا لنا فيما بعد إن الأطباء ربطوا رأسه بأثقال لكي يعيدوا فقرات الرقبة إلى مكانها، فلم ينفع علاجهم معه وفارق الحياة في مطلع شبابه، مأسوفا عليه. ومن ذلك الحين قررنا الامتناع عن القفز إلى الماء، وقال الوالد محذرا "تغا من اليوم وغادي ماكو لا اتجييت ولا زرك" (من اليوم وصاعدا، لا وثب ولا قفز إلى الماء)".
كثيرا ما كان تيار دجلة في أيام الفيضانات أيام العسمللي يجرف معه الجسور القديمة المصنوعة من الزوارق، فيقطع الحبال التي تربط الزوارق العائمة بألواح الخشب التي يسير عليها المارة ويفرقها أيدي سبأ، وكان المحظوظ منهم يقفز إلى أحد الزوارق وهي منحدرة مع التيار بسرعة هائلة، فإذا رأى احد أصدقائه على الجرف، يناديه ويقال له: "عيني داده، روح كلها الأمي أنت شايفني، لكن آني ما ادري وين رايح!". وفي ذات يوم ذهب الوالد مع مراد أخي واحد الجيران للسباحة في "جرداغ هامي" في الشريعة قرب السنك، وكان مراد بكربة واحدة، فحملهم التيار الهائج إلى ما بعد السنك، فصعدوا إلى الجرف ومنه إلى إحدى الأزقة التي لا يعرفونها. فلما شاهدهم رجال ذلك الزقاق يسيرون عراة بلباس السباحة فقط، صاروا يصيحون عليهم أن يتركوا المحلة بسرعة "شلون تمشون مصلخين كدام النسوان" وأمطروهم بوابل من الطابوق الذي صار ينفجر أمامهم وخلفهم كالزجاجات الحارقة، وهم يحتمون بالجدران، ونجوا بمعجزة من ذلك الوابل العدائي الذي يدافع عن عفاف نسوان المحلة. وإلى اليوم يقسم مراد أنه لو أصابت طابوقة رأس احدهم لأردته قتيلا في الحال، ولكن الله سلّم. ولا ينسى أخي مراد الرسام الذي يعيش اليوم في باريس، كيف انه كان سائرا قرب باب الشيخ، فأحاط به صبيّان أكبر سنا منه يريدون ضربه "ولك ايهودي، وين تولي، وين تروح؟"، فأقبل عليهما شاب في العشرين وقال لهما، "ولكم مو عيب، أنتو اثنين على واحد؟"، أجاب الصبيّان، "عمي مو هذا ايهودي"، وبومضة عين انقلب الملاك الحارس إلى شيطان رجيم، وصوب لكمة إلى صدر مراد ابن الست سنوات، سقط على أثرها على الأرض باكيا منتحبا من الألم. وهو يقسم لي، أن صدره آلمه وأرّقه مدة أسبوعين عانى فيهما من عذاب عسر التنفس من تلك الضربة الظالمة، ما لا يوصف.
في بداية السنة الدراسية 1940-1941 التحق بمدرسة السعدون بالإضافة إلي المسيحيين، مصباح وخيري والأخير هو ابن ضابط كبير في الشرطة العراقية، وكلاهما على ما أظن، من الكلدان المعروفين بدماثة الأخلاق، راؤول الطالب ألأرمني الجديد. وقد سكن الأرمن في بغداد في كمب الأرمن، واشتهروا بذكائهم ونشاطهم ومهاراتهم في التجارة والفنون، منهم المصور "أرشاك". كان راؤول مثل الكثير من الأرمن مفلطح الرأس، يميل شعره إلى الشقرة، وتميز عن الآخرين بأنه كان أقنى الأنف ضخمه، وكانت عيناه الزرقاوتان تلمعان ببريق يشي بسوء النية. ومن أول يوم دأب على إضافة اتهام آخر نحوي كيهودي، وهو تهمة "صلب المسيح"، ولم يأبه بدفاع الطلبة المسلمين عن اليهود باستشهادهم بالآية القرآنية الكريمة "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم". لكن راؤول احتج بالإنجيل، وقال "لقد غسل الحاكم بيلاطس يديه أمامكم من إثم صلبه"، وفرك يديه بحدة كأنه القيصر يغسل يديه في تلك اللحظة، وأضاف، "لقد قال أحباركم اليهود، "دمه علينا وعلى أبنائنا!" فكيف تنكرون ذلك. (وكان صديقي إيدي بصري البصراوي يقول، إن يهود بابل لم يحضروا المحاكمة في أورشليم، ولم يشاركوا فيها، لذلك فأن هذا العهد الذي قطعه يهود أورشليم على أنفسهم لا يحيق بيهود بابل! وهكذا اقنع إحدى الفتيات الحاجّات إلى الديار المقدسة الأمريكيات الجميلات بالزواج منه).
كنا في حديقة بيت إياد ابن الدكتور على غالب، وكنا نلعب بالمسدس الهوائي الذي أخذه إياد من درج والده خلسة ليفاخر به أمامنا. وعاد راؤول إلى تهمة الصلب، وفي حماس نقاشه الديني، اختطف المسدس من يد إياد علي غالب، وكنا قد عمرنا المسدس بعود ثقاب بدل كريات الرصاص الصغيرة (الصجم)، ووجهه نحو ساقي وأطلق المسدس. شعرت بألم شديد وغضب من هذا الذي بدأ ينغص علي حياتي، واشتبكت معه في عراك وهو يصيح "أنتم صلبتم المسيح، أنتم صلبتم المسيح". ثم فكّ إياد التلاحم بيننا وصرف راؤول من حديقة بيته وهو يهدد اليهود بالانتقام.
وفي أواخر شهر أيار 1941 يوم اندحار الجيش العراق في معركتي الحبانية وسن الذبان، حيث شارك فيها ضباط وأطباء يهود للدفاع عن وطنهم العراق ضد المحتل الغاصب، تراجعت القوات العراقية إلى بغداد بعد أن استولى الإنكليز على بدالة التلفون العراقي في "خان نقطة"، وقام أحد جواسيسهم بخدعة مضللة، وذلك بإخبار القيادة العراقية في بغداد، مهولا الأمر بعد انضمام الجنرال كلوب باشا "أبو حنك" إلى الزحف على بغداد، مدعيا إن قوة هجومية كبيرة تتكون من ما لا يقل عن خمسين دبابة انكليزية، تزحف على بغداد. أصاب زعماء حركة رشيد عالي الكيلاني والمفتي حاج أمين الحسيني وحاشيته الهلع والخوف ولاذوا جميعهم بالفرار إلى إيران وتركيا، سوى يونس السبعاوي الذي عين نفسه حاكما عسكريا على بغداد وبقي فيها يومين ثم فرّ هاربا، فألقي القبض عليه وشنق مع اثنين من ضباط المربع الذهبي وهما العقيدين فهمي سعيد ومحمود سلمان.
وصلت الأخبار إلى طلاب مدرسة السعدون، وفتش الطلاب، بقيادة راؤول عن كبش فداء. شعرت بهم يتهامسون وعيونهم تقدح شررا من الحقد والرغبة العاتية في الانتقام من الإنكليز ومن اليهود الذين اتهموا بأنهم رتل الإنكليز الخامس. أخبرت عبد الرحمن الجابي بهواجسي، قال بثقة، "لا تخاف آني وياك!" وبعد الانصراف من المدرسة أحاط بي الطلاب بصورة عدائية وأنا أسير إلى جانب عبد الرحمن. وصلنا قرب قصر جلال بابان القريب من المدرسة، والطوق حولي يضيق وهم يهمسون "هل اليهودي وين راح يروح اليوم؟" صحت استنجد بعبد الرحمن، أدار ظهره بغدر كغدر بروطوس ليوليوس قيصر، وتظاهر بأنه لم يسمعني. لم اصدق ما يجري، أصدقائي خلال سنوات عديدة يتصرفون كقطيع ذئاب مفترس. وفي تلك اللحظة الغريبة خيل لي أن أصدقائي قد مسخوا إلى قطيع من الذئاب المسعورة، قطيع متحفز للانقضاض على ظبي وحيد أصبح حماه ساحة خيانة وعداء بعد أن ظن أنه آمِنٌ في مِكـْنـَسه الذي يلوذ به. أصبحوا فجأة ذئابا مكشرة عن أنيابها التي يسيل منها اللعاب المسعور، وعيونها الحمراء تقدح شررا وهي تلهث بظمأ لتلغ من دماء هذا الظبي المغدور المظلوم. تساءل الظبي في سره حائرا، هل يقف موقف الإمام الشهيد الحسين، حينما صمد وحيدا مخذولا في وقعة كربلاء المروعة الغادرة؟ وتغلبت غريزة البقاء والتمسك بالنجاة في الحياة على عظمة سَوْرَة الصمود البطولي والاستشهاد الحسيني الذي هزّ أركان السموات والأرض. استشعر الظبي بغريزته بالخطر المحدق به واندفع بين ذئبين ودفعهما ليكسر الطوق نحو ماء الفرات، وأطلق ساقيه للريح. وانطلق قطيع الذئاب وراءه وهو يواصل عدوه وعدد الذئاب يتناقص كلما طالت المسافة لعجزها عن اللحاق بالظبي السريع المراوغ في الطرقات التي يعرفها جيدا. وعندما بلغ الشارع الموازي لحماه، حيث يقع قصر داوود خلاصجي وقصر سامي بخاش، توقف لينظر حوله وهو يلهث، وفجأة ظهر أمامه راؤول كساحر نزع عنه طاقية الإخفاء وهو يلهث مكشرا عن أنيابه كالذئب الأحمر. انتصب كالشمر اللعين يسد عليّ طريق النجاة نحو الفرات، صعد الدم إلى رأسي، إن لي مع هذا اللعين "ثارات"! صرخ راؤول بغضب وحقد، "يا يهودي، يا من صلب المسيح، وين تروح، موتك على إيدي!"، كنا وحيدين، وإنا في حمى شارعنا، اقتربتُ منه وقد أخذني الغضب كل مأخذ، كيف يجرؤ على الاعتداء علي ّ في عقر داري، ويسد عليّ الطريق إلى داري، إلى الفرات؟ وبغضب جبار أرسلت إلى فكه لكمة شمالية فاعوج فكه، فعدلتها بلكمة يمينية فاعتدل، وسقط على الأرض. عدوت إلى دارنا وطرقت الباب بشدة وعنف "افتحوا الباب بالعجل، افتحوا الباب!"، فتحت والدتي الباب ورأتني في اضطراب، "أشكو، أش ساغ؟"، أجهشتُ بالبكاء وضربت الأرض بقدمي، وقلت:
-"صدقاني من المدرسة قيغيدون يقتلوني!" (أصدقائي من المدرسة يبغون قتلي!)
-" ليش، اسويتلم؟" (لماذا؟ ما فعلت؟)
-النصغاني يقول انتم اقتلتمو المسيح، والمسلمين يقولون يهودي ايدو مغلولة والله أسه يقلبم اليهود شوادي (قردة)، والنصاغا خنازيغ. وماكو يوم مقيضغبوني!
-غيغ هذا الحكي مال المِتـْدِيْنين مالم، كل ويحد إيفسغ على كيفو، وهيكذ ايعلموهم لولادم.
أخذتني الوالدة في أحضانها وأنا ارتعد من الغضب واليأس، "ما أغيد أغوح الهايي المدرسة بعد، طلعيني منا، ميتوني، ما قدقدغ بعد!" (لا أريد الذهاب إلى هذه المدرسة مرة أخرى، أخرجيني منها، اضطهدوني، لا أستطيع الاحتمال أكثر من هذا!). قبلتني أمي من خدي وهي تربّت على ظهري، وهمست في أذني سرا مصونا بين اليهود لا بد أنها سمعته من أمها وتناقلته الأجيال من قبلها خلال ألفين وخمسمائة عام أو أكثر، وظنّتْ انه سيعيد إليّ هدوئي النفسي ورباطة جأشي.
-ميخالف ابني، كلما أتضيق تفرج، هسه يجي المشيياح (المسيح المنتظر عند اليهود) وهسه كل عدوان (أعداء) اليهود ينقلبون زمايل (حمير).
-لا! ما أغيد احد ينقلب لا زمال ولا خنزيغ ولا شادي، ليش الله خلقم الأوادم خطغ ايسويهم أتالي خنزيغ وشوادي وزمايل؟ (لا أريد أن يُمْسَخَ أحد حمارا ولا خنزيرا ولا قرداً. هل خلق الله البشر لكي يمسخهم خنازير وقردة وحمير؟)
لم تدر أمي بما تجيب أمام منطق الأطفال السليم، فكرتْ وقالتْ:
-لا، هايي مثل ما الشيعة لما يستنظغونوا (ينتظرون) المهدي مالم ايخلصم من الظلم، نحنا نستنظغوا المشيياح مالنا يخلصنا من ظلم "الكوييم" (الأغيار).
- قلـْليلي، خطش الله يخلقم الأوادم؟ خطغ أتالي يقلبم حواوين (حيوانات)؟ فهميني بقا؟ (قولي لي لماذا يخلق الله البشر؟ هل لأجل أن يمسخهم حيوانات؟ أريد أن أفهم!)
حملتني والدتي إلى الفراش دامعة العينين يائسة، وهي تقول:
- ميسغ احد يشتغل أبشغل الله! (لا يجوز لأحد التدخل في أعمال الله!)
وبعد أسبوعين من هذه الحادثة، في 1 من حزيران، 1941 في عيد الزيارة (شبوعوت)، ارتدى يهود العراق ثياب العيد احتفالا به وبعودة الوصي الأمير عبد الإله وحاشيته، ولم يعلموا بعدُ بعودة فلول الجيش العراقي الغاضبة إلى بغداد. عند ذاك، اندلعت نيران أحداث الفرهود المروعة الرهيبة.


كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف،

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
iraqi
sam -

i would like to hear that history and if you want to contact me let me know i lived in north america, and i feel sorry for what they did for you when you was kid but at the same time i feel sorry also for what your government for the palestine kids,let the old fight between them but do not kill the childhood where ever there religious, iam folllowing your writing

مواطنين عراقيين
مراقب0 200 -

كان لليهود دور كبير في تنشيط الاقتصاد العراقي وهم في الاخر مواطنيين عراقين لم يفجروا ولم يهجروا الناس من مدنهم على اساس طائفي او عنصري كما فعل بنا اخواننا في الدين والدم على الاقل لم يكن هناك انتحاري واحد يهودي واالعراق خسر كثيرا بهجرتهم

Love from Kurdistan
Bashir Sabri Botani -

Thank you Mr Shmuel Moreh. We love you. Regards

الظلم
صفاء مرمرجي - اميركا -

الانسان....ذئب ....لاخيه.....الانسان

iraqy jawsh
shashou -

can you contect me please i have some think not agree with thank you very much

مظلمون
عراقي -

اني عراقي وعايش بالعراق وما مسافر الى خارج العراق واحب كل الناس وبالأخص اليهود العراقيين الطيبين الذي خسرهم العراق وظلمتهم حكوماته

Do you have info
hneiman -

I am asking the writer mr . Shamoueil if he has any information or anything to say about the hanging in Baghadad in 1969 . Since I left Iraq after that incident

حضارة دمرها البدو .
الحكيم البابلي -

في طفولتي ، كنتُ أيضاً من طلاب مدرسة السعدون النموذجية ، ولا زلتُ أذكر أسماء أثنتين من المعلمات ، الأولى ست آمنة ، والثانية ست شمَّة . كذلك أذكر بارك السعدون ، ملتقى العوائل البغدادية العريقة يومذاك . يوم لم تكن هجرة البدو ( ابناء العشائر ) قد استفحلت بعد . تلك العشائر في كل شيئ ، والمحيطة ببغداد منذ الأزل ، والتي تعتبر تأريخياً ، وبالاً على بلاد مابين النهرين . والتي دمرت بغداد والعراق ، في النصف الثاني من القرن العشرين ، وخاصةً بعد إنتساب الألاف من أبنائها الى صفوف الجيش العراقي ، ومن ثم قيامهم بكل الأنقلابات العسكرية المدمرة التي كانت المفتاح لباب جهنم،وبدخولهم الى مدننا ، أدخلوا معهم سمومهم المتمثلة في العنجهية والغزو وقيم العصبية والدخالة والتسيار والثأر وغسل العار والولاء الغبي الأعمى للعشيرة والقسوة والعنف والتباهي بأذلال المرأة والطفل .. واليوم فأن أغلب العوائل العريقة ، من مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة قد هجرت بغداد الى غير رجعة . ولا أعرف لماذا لا يكتب أحدٌ من مؤرخينا الأحياء عن هذه الحقيقة المؤسفة ، حيث لا زالت العشائر البدوية تحكم العراق من شماله الى جنوبه ، وكلهم متساوون في جهلهم ، عرباً وأكراداً . فهؤلاء بدو الصحراء ، والأخرين بدو الجبال ، وكلهم من معدن البداوة المتخلفة عن ركب الزمن ، ولطالما أبتلت بهم مدن العراق وحواضرها ، الى أن أستطاعت غوغائيتهم وعشوائيتهم وجهلهم تحويل دولة سمكها الحضاري سبعة آلاف سنة الى خرائب للعقل ينعب البوم على أطلالها الحزينة . أعرف بأن للعلامة علي الوردي إجتهادات كثيرة في هذا المضمار ، ولكني أقترح على مؤرخينا وباحثينا دراسة الموضوع منذ سقوط العهد الملكي ولحد الأن . علماً بأن دودة العشائرية لا زالت تنخر في جذور هذا الوطن المسكين . تحياتي . الحكيم البابلي .

أيام ألزمن ألجميل
عامر ألجبوري -

أستاذ شموئيل برحيلكم خسر ألعراق لون جميلاً من ألوان فسيفسائه ألجميل و يتعرض ألآن أشقاؤنا ألمسيحيون لحملة تخويف و ترهيب على أيدي عصابات و حثالات ألمجتمع ألعراقي من زمر ألتعصب ألأعمى و ألتخلف ألأسلامي - ألشيعي و ألسني - لأجبارهم على ترك و طنهم و ألهجره منه خاب ظنهم و حمى ألله أشقائنا ألمسيحيين و ثبتهم في وطنهم ليبقوا لوناً جميلاً من ألوانه و زهره فواحه في رياضه.

عراقيوون انتم؟؟؟
محمدسامي -

العراقي لا يترك بلده ويهاجر لدولة مغتصبةواني اعرف يهودا يعيشون حاليا وباقيين في العراقفما الفرق بينك ايها الكاتب وبينهم؟؟

أعتذار للتاريخ
د. رمزي السويد -

تحيه وسلام الى اهل العراق من كل مله وطائفه وبحق ماسمعته من والدي الله يرحمه عن تهجير اليهود من العراق مؤثرومؤلم تم معاملتهم معامله قصريه تناست العالم في وقتها انهم بشر وأناس عاديون وشطارتهم في التجاره ليس ذنب عليهم كي يساء معاملتهم وقد سميت عمليه تهجيرهم بالفرهود باللغه العراقيه .. المهم بعد ماعانى العراق من ويلات وحروب يجب ان تتغير المفاهيم يجب ان يحترم الانسان ويحترم دينه ومعتقده .. وعسى ان يغفر لخطايانا في الماضي وان يرحمنا الله في الاخره .. كما واسجل اعتذاري عن مااصاب اليهود العراقيين اهلنا من جهل اهلهم من العراقيين في الاربعينات من القرن الماضي رغم اني لم اكن مولود لاكن ماسمعته عن الاحداث يجعلني اسجل هذا الاعتذار للتاريخ وارجو ان يعرف العالم طبيعه ابن العراق مسامح وطيب وجسور لايهاب الموت ولديه حب لكل العالم ..

ذكريات
يوسف -

هذه ذكريات لأيام مضت ولن تعود . فيها الحلو والمر الجميل والقبيح اذ هكذا كان واقع الحياة فى العراق كما يوصفها الكاتب بأمانة واخلاص . شكرا لأستاذنا العزيز على هذا المجهود الجبار فى سرد الحوادث قبل نسيانها واندثارها . حبذا لو تجمع هذه الفصول كلها فى كتاب ليستفيد منه الأجيال القادمه . ودمت بأكمل الصحه والعافيه . المخلص يوسف

مؤرخ عراق الحب
هدى -

بالرغم من عبارات الاسى الممزوج بالالم والعتاب لما حصل ليهود العراق. فالكاتب لا يخف حبا واشتيقاءا لارض الاباء والاجداد.. .ومذّكرا ان العراق لن يقدّر له ان يكون عظيما.. مبدعا..يسابق الزمن في اعمار بناه الا بتظافر جهود العراقيين بلا استثناء..فالدين لله والوطن للجميع..ولعل سامي يدرك انه ابن لطائفة عريقة ..انجبت علماء واطباء ومثقفين رفدوا الحياة العلمية والثقافية بعطاء فكري مميز..ولسنا نؤخذ بجريرة السفهاء..والجهلة..كما لا حق لنا في محاسبته على ما يفعله الصهاينة بالفلسطينيين ..وطوبى للعراق ارضا كالتبر وشعبا نبيلا صابرا..وكاتبا مبدعا يستحق لقب مؤرخ عراق الحب ..

؟
-

كعادتة سرد الكاتب الكثير من الاحداث التي عايشها شخصيا بالعراق ويبدو انه وبعد الفترة الطويلة لاغترابه بدا يحن لطفولته التي يذكرها ويدس بها بعض الاسقاطات السلبية للمجتمع الذي كان يعيش بكنفه و طائفته لالاف السنين .لو كان للمجتمع العراقي تلك العدائية السلبية لما مكثتم طوال تلك السنين ومحاولتك ابراز تلك السلبيات هي مجانبة للحقيقة اغلبية العراقيين وكيفية معاملتهم للاقليات التي تعيش معها والذي يلتقي باليهود العراقيين انهم لحد الان يتمنون العودة للعيش هناك ويبكون دم لفراق العراق وهذا جلي بين الاسطر بمقالك .

كوارث
mohmmed ali -

حلت الكثير من الكوارث في العراق بعد اخراج اليهود منه ولانعرف ماهي الكوارث الاخرى التي تنتظر العراق بعد اخراج المسيحين منه

ارجع يا زمان الوصل
عراقية وافتخر -

موطني كان جميلا يزهو بأهله النجباء الاصلاء..كنت في مدرسة خاصة ولي من الاصدقاء باقة ورد انا مسلمة وهناك الكثير من اصحاب الاديان السماوية الاخرى..كنا نذهب الى البيعة للصلاة واقرأايات من القرآن الكريم..واوقد شمعة للعذراء مريم....ناكل سوية نلعب معا ..نتخاصم نحتفل مع بعضنا البعض في اعياد كل الديانات..عيد الفطر وعيد الاضحى برأس السنة ومولد السيد المسيح..نتحلق حول شجرة عيد الميلاد الكبيرة في مدرستنا ونردد الاهزوجة الجميلة..الف هله بسنتا كلوز مية هله بسنتا كلوز..اما الاعتراف الاول لاصدقائنا المسيحين فقد كان حدثا جميلا ..نتذوق الكليجة المصنوعة في بيوتنا للعيد ..وكانت اطيبها كليجة ام ليزلي وام فيفيان..كليجتنا متواضعة..امي امرأة تعمل ولا تبالي كثيرا بالمطبخ والطعام.. الا ليت ايام مدرسة القديس يوسف الاهلية في اواخر الستينات هي من احلى ايام العمر ..سامي كاتبنا الكبير حفزت الذاكرة وارجعتنا للزمن الجميل..اسلم للعراق واهله

قلائد من زمن جميل
احمد جبار علي -

يهود العراق الذي اخرجوامن بلادهم قسرا وتحت طائلة التهديد والاطهاد والوعيد والقوانين الجائرة انهم كتلة من الاماني ويعيشون في وجد قائم وحب دائم للوطن الذي انشأهم او انتسبو اليه يعودون الى مرابع طفولتهم او يتخيلون انهم عائدون يتيهون في ضبابة التذكار فيستلهمون ايام الطفولة والفتوة لتمدهم بالمشوق الانيس من ماضيهم البعيد ثم يفصحون عن امانيهم تجاه وطنهم الام فلا يشاؤونه الا حرا سيدا ولم يهجروه الاليعودوا اليه فيشتركون في بنائه واعلأ شأنه تحية لسامي موريه شعاع النور المتألق وبحيرة الذكريات التي لا ينضب معينها الصافي وصدق الشاعر حين قال موطني ما رشفت وردك الا--عاد منه فمي بحرقة صاد في قلوب المغربين جراح --حملوها على الجباه الجعاد وزعتهم كف الرياح فهلا --جمعتهم يد النسيم الهادي

تحية للكاتب
جواد عبد الكاظم محسن -

تحية للبروفيسور سامي (شموئيل) موريه على هذه الذكريات الجميلة ، وهي دليل حبه لوطنه الأم العراق .