كتَّاب إيلاف

العرب وإستراتيجية زمن اللامعقول

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

حولت التكنولوجية الحديثة العالم الى قرية كونية صغيرة، وأدت الى تشابك معضلاته وصعوبة التعامل معها. فلم تعد ديمقراطية الغرب التقليدية ولا شمولية الشرق العصرية وسائل مقنعة لتحقيق طموحات شعوبها. وتبخرت أحلام العولمة الجميلة، بعد أن انهارت مؤسساتها المالية، وبهتت بهرجة سوقها الحرة، وخفتت ألحان طبول خصخصتها. وأنهت تكنولوجية الميكروشبس أسطورة القوى العظمى بترهل آليات جيوشها أمام مقاومة الفئات المتطرفة والمتناثرة، كما فليست شركات التصنيع التقليدية لتبرز شركات تكنولوجية البحث عن المعلومة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل تعكس هذه الظواهر عصر عالم جديد؟ وهل تختلف تحدياته عن تحديات عصر الحداثة التقليدية؟ وهل سيحتاج التعامل مع هذه التحديات تفكير وتعليم جديد؟
من أجمل ما قرأت للإجابة على هذه الأسئلة هو كتاب جديد بعنوان، عصر اللامعقول، للباحث الأمريكي جوشو كوبر راموا. يقول الباحث في مقدمة كتابه: مع بزوغ فجر القرن الواحد والعشرين، وصلنا لمرحلة خطرة لم نكن نتصورها، فكل ما حولنا من أفكار ومؤسسات التي كنا بالأمس نعتمد عليها في سلامتنا وأمننا أصبحت فاشلة، كما أن خيرة أفكار قياداتنا السياسية تزيد من تعقيد وتشابك مشاكلنا بدل أن تحلها. فقد أنتجت عولمة الحرب على الإرهاب في النهاية إرهابيين أكثر خطرا، وسرعت محاربة الأزمة المالية من حدوثها، وقللت خطة السلام المدروسة من فرص السلام الحقيقية. ولم يكن الوضع كذلك من قبل، فقد اعتمد تعاملنا مع العالم في العقود الماضية على إيماننا بأن هناك علاقة منطقية بين قوة الدولة وفيزيائيات التغير، وقد استبدلت هذه التقاليد الفيزيائية للقوة بتغيرات جذرية جديدة. وما نواجهه اليوم ليس تغير أحادي كنهاية الحرب العالمية الثانية أو انهيار الإتحاد السوفيتي، بل هي تغيرات فجائية متشابكة ومتواصلة لم يمكننا تصورها أو التفكير فيها من قبل. ومن حسن الحظ هناك أمل، فلن تنتج هذه التغيرات التاريخية المهولة فقط الخاسرين، بل أيضا ستخلق بطولات وفرصا جديدة، وأفكارا ستستمر لقرون قادمة.
وناقش الكاتب نموذجا جديدا للتفكير ومعايشة هذا العالم الغير متوقع، وفي زمن سماه بالعصر اللامعقول. وعرض مثلا عن الأزمة المالية واعترافات الين جرينسبان للكونجرس، حينما سؤل إن كان يعتقد بأن الأزمة المالية أكدت له بأن نظرته للعالم وأيديولوجياته غير مناسبة وغير فاعلة لهذا العصر. فأجاب: " نعم مطلقا وبدقة، وكانت تلك سبب صدمتي، فقد عشت لأربعين عاما معتقدا بأنها فاعلة وبجدارة." ليوضح هذا المثل مدى التشوش الفكري لقيادات اليوم أمام التحديات الجديدة المعقدة والمتشابكة والغير متوقعة والغير معقولة. وطرح الكاتب الحلول الممكنة والحاجة لقدرات جهاز عولمة مناعية، يكون دائما جاهز وقادر على التعامل مع التحديات النووية والمناخية والاقتصادية والإرهابية الغير المتوقعة، بديناميكية مشابهة لديناميكية العالم الذي نعيش فيه. فقد تعاملنا في القرون الماضية مع التحديات الحياتية كصناع للأمم والجسور والمصانع وناطحات السحاب. ولم تعد أساليبنا وأجهزتنا القديمة صالحة في عصر ثورة التغيرات اللامعقولة لازدهارنا المستقبلي. بل سنحتاج أن نعيش ونفكر كالبستاني، كما قالها الاقتصادي النمساوي فريدريك اوغسطت فون هايك في حفل استلامه لجائزة نوبل عام 1974: "فلكي لا يسبب الإنسان ضررا حينما يحاول إصلاحاته الاجتماعية، عليه التعلم بأنه لن يستطيع أن يعرف كل شيء لكي يسيطر على التغيرات الحياتية المعقدة. وعلى السياسيين والمفكرين تجنب لوي التاريخ كما يلوي الحرفي عمله اليدوي. بل عليهم حرث التنمية، بتوفير بيئة مشابهة لطريقة البستاني في تهيئة الأرض لنبتته." فبرؤية العالم كمركب معقد متشابك ومتواصل، وكنظام تأقلم، سنحتاج لثورة تغير دورنا من بنائيين لنظام نستطيع السيطرة عليه ونديره، لبستاني يعيش في نظام بيئي ايكولوجي عليه التعامل معه بحكمة روحانية. فقد عشنا عقودا طويلة نتصور بأننا صناعيون نبني كل شيء من الأمم وحتى الجسور، ونستهلك كل ما نملكه من موارد لتحقيق أحلامنا في التقدم والازدهار، ولم تعد هذه الطريقة مناسبة لاستمرار وجودنا. فقد أصبح العالم معقدا وموارده محدودة وديناميكيته الداخلية غير مستقرة لكي يتكيف مع هذا "المس من الجنون" والذي سيؤدي لنتائج عكسية في التعامل مع تحدياته المعقدة. ففي عصر ثورة اللامعقول، وبتغيراته السريعة من حولنا، أصبحت أدوات بنائنا القديمة قاتلة، وحان الوقت للتخلص منها، والتمثل للنصيحة بأن نعيش ونفكر كالبستاني.
وشبه الكاتب تحديات عصر اللامعقول المعقدة والمتشابكة والمتواصلة والمتغيرة بسرعة وبتعدد لاعبيها، بتوازن حبيبات كومة من الرمل على كف اليد، تحتاج لدقة التعامل معها لتجنب انهيار توازن حبيباتها. وتساءل الكاتب عن سبب عدم شعور الأمريكيين بالأمان، مع أن بلادهم أكبر قوة اقتصادية وعسكرية مهيمنة على العالم. ويفسر ذلك بسبب أن خيرة العقول الأمريكية تعتمد على نموذج غير واقعي للعالم في تحليل تحدياته المعقدة والمتشابكة، بل ويشبه معظم مفكري السياسات الخارجية الأمريكية بطلبة جدد، وصلوا لأخذ امتحان لغة لا يتكلمونها. فعليهم كأول خطوة أن يتفهموا العالم ككومة من الرمل في راحة اليد والمعرضة توازن تحديات حبيباتها للسقوط والانهيار في أية لحظة. فالتغيرات بزيادة حبة رمل صغيرة جديدة أو تحرك حبة واحدة من مكانها قد تؤدي الى انهيار توازن جميع حبيبات كومة الرمل، فكأية تغيرات أو محاولة إصلاحات صغيرة في هذا العصر قد تؤدي الى تغيرات متواصلة كبيرة وخطرة.
وقد أكدت الوقائع التاريخية نظرية كومة الرمل هذه، فمثلا عكس انهيار الاتحاد السوفيتي وفشل حرب العراق، مفهوم الديمقراطية توفر الاستقرار، بل أدت لتغيرات عكسية لاعقلانية غير متوقعة. فالدرس الذي سيستفيد منه مخططي دبلوماسية العصر اللامعقول، هو أن التغير ينتج الغير متنبئ والمفاجئات الغير متوقعة. لذلك علينا التذكر بأنه كلما نحاول الدفع لتغيرات وإصلاحات جديدة علينا الاستعداد لحقيقة هي أن معظم النتائج ستكون غير متوقعة ومفاجئة.، فسنحتاج لتغير طريقة وضع سياساتنا الداخلية والخارجية وكيفية تخطيط حياتنا المستقبلية، وعلينا التذكر بأن العمل على تغيرات جذرية غير متزنة قد تترافق بتغيرات مفاجئة وغير متوقعة بعدم الاستقرار وقلة الأمن والأمان.
وأنتقد الكاتب إستراتيجية الغرب التقليدية للاستقرار "الفاشلة" والتي أخذت تصوراتها "الجامدة" من رؤية العالم الديمقراطي الذي توقعته، وحركت خلايا مجتمعاتها لتحقيقه، باعتمادها على قوى وسياسات حربية واقتصادية وسياسية وبيئية تقليدية. بينما نحتاج اليوم في كومة رمل تحديات عالمنا الجديد، المتغير سريعا والمتشابك، لإستراتيجية "أمن عميقة وشاملة" تستطيع التعامل مع التغيرات السريعة بنتائجها المفاجئة والغير متوقعة والغير مسبوقة. وتعتمد هذه الإستراتيجية على كفاءة التعامل مع تحديات القوى الموجودة في عمق كومة رمل العولمة الجديدة، بطريقة ورؤية وتفكير يتقبل العقد المتنامية والتغيرات الجديدة المتواصلة، ويتعامل معها بالتعاون بكفاءة مع الآخرين. كما سنحتاج لتغير تفكيرنا الحالم لعالم اليوم، لرؤية واقعية بعقده المتشابكة ومتغيراته السريعة، لنحول تفكيرنا من "تفكير عصاة جامدة تحركه تيارات النهر" كما تصفه الحكم الصينية، الى تفكير كائن متغير يتعامل مع تحديات تيارات النهر بفاعلية، لكي تؤثر أفعالنا وسياساتنا وأحلامنا على كل ما يجري من حولنا. كجهاز مناعة يتعرف على الأخطار بسرعة البرق ويتكيف في التعامل معها بدقة ويتحرك للسيطرة واحتواء أخطارها. فمعظم تحدياتنا اليوم تشبه الأوبئة، تبدأ صغيرة وتنشر بسرعة، وتبدو حميدة حتى تجتمع مع بعضها، كأزمة القروض ومعضلة الإرهاب. فنحتاج لنظرة فاحصة وتفكير واضح للتعامل مع هذا الوباء، لكي نتساءل كيف ومن أين بدأ هذا الوباء، وما هي مضاعفاته، وما سبب انتشاره، وكيف يمكن الوقاية منه، وكل ذلك يحتاج لوسائل عمل متناغمة وتعمل ضمن خطوط عديدة متوازية.
وحاول الكاتب المقارنة بين طريقة التفكير الشرق أسيوية والغربية من خلال الأبحاث العلمية التي درست أسلوب تفكير الطلبة الصينيين والأمريكيين. فحينما طلب الباحثون من هؤلاء الطلبة للنظر لصور متتابعة، لاحظوا بأن الطلبة الأمريكيين يركزون مباشرة على مركز الصورة، بينما يبدأ الطلبة الصينيون بالتركيز على محيطها، ليعكس ذلك عن اهتمام التفكير الصيني لبيئة ما حول المعضلة قبل التركيز على التعامل مع المعضلة ذاتها. بينما تركز طريقة التفكير الأمريكية على مركز المعضلة وبدقة عالية، وتتناسى أهمية العوامل المحيطة في معالجتها. ويعلق الكاتب على ذلك بقوله: "تعيش شعوب آسيا الشرقية في شبكة اجتماعية معقدة تبرز أهمية التواصل والترابط بين الأشياء ومحيطها، وهذه الطريقة من الانتباه للظروف المحيطة والبيئة المرافقة للمعضلة مهمة في التعامل معها، بعكس شعوب الغرب الذين يعيشون في مجتمعات تؤكد الاستقلالية وتقلل من الاهتمام بالبيئة المحيطة لما حولهم. فالمناورة مع البيئة المحيطة عادة، أهم من التركيز على المعضلة نفسها. وتؤكد المقولة الصينية ذلك: "يجري تيار النهر شرقا وأحيانا أخرى يجري غربا. فأعرف توجهه تيار النهر، وناور بإستراتيجية حرب تفرض على غريمك انشغاله بمحاربة التيار، بدل أن يتفرغ لمحاربتك." ويؤكد ذلك استراتيجي الحرب الصيني، صن زي، بضرورة تجنب المجابهة المباشرة في الحرب، وإشغال الغريم في مواجهة الظروف المحيطة. لذلك لم يواجه معظم عظماء الحروب الصينيين أعداءهم في حرب مباشرة، بل شغلوهم بإستراتيجية حرب لمواجهة التحديات الطبيعية. ولم يحدد حكماء الصين إستراتيجيتهم فقط في الحروب بل أيضا في حوارات السلام حيث أكدوا: "بأن إبراز الحقيقة لا تحتاج لنقاش مباشر، بل يلزمها دراسة وتأمل واستبطان لكي تشع الفطنة والبصيرة." والسؤال: هل سيهتم العرب بتعليم يهيئ الأجيال القادمة للتعامل مع تحديات عصر اللامعقول؟ وهل ستحتاج حكوماتهم لإستراتيجية تتفهم تحديات العالم ككومة رمل متشابكة ومعقدة ومتغيرة بسرعة؟ وهل ستستفيد دبلوماسيتهم المستقبلية من حكمة تيار النهر الصينية؟

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف