حول بنية النظام الفلسفي الهيغلي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في بداية القرن التاسع عشر وصلت المانيا الى قمة ازدهارها الفكري في الفلسفة والادب والفن حيث شهدت ظهور ثلاثة من العباقرة العظام على مسرح الفكر, هم هيغل وغوته وبتهوفن, الذين مثلوا عصر المانيا الذهبي. وكان جورج وليم فردوش هيغل اول هؤلاء العظام, الذي مثل في فلسفته قمة الفكر والفلسفة المثالية في المانيا.
ولد هيغل في شتوتغارت(1770 - 1831) ودرس الفلسفة واللاهوت وفقه اللغة في جامعة توبنغن وتاثر بحماس شديد بالفلسفة اليونانية التي آثرها على المسيحية, التي انكر معجزاتها وألوهيتها.
كان لهيغل روحا ثائرة وطموحة. وقد شارك في الحياة السياسية ورحب بالثورة الفرنسية ووقف الى جانب مبادئها واعلن ولاءه لها وعمره لا يتجاوز التاسعة عشر تماما.
وكان اندلاع الثورة الفرنسية حدثا هاما ادى الى تغيير وجه اوربا والعالم وليس وجه فرنسا فقط. كما كان لها تاثير كبير على حياة هيغل وافكاره الفلسفية. واخذ قلبه ينبض بالفرح مع احداث الثورة والهجوم على سجن الباستيل وتدميره واعتبر ذلك معجزة حقيقية حيث اخذت رياح الحرية تهب على اوربا وتغير مجرى التاريخ. وكان يتطلع الى انعكاس افكارها الثورية التحررية على المانيا.
كتب هيغل عن الثورة الفرنسية باسلوب شاعري: "فقد كانت اشراقة رائعة للشمس، رحبت بها جميع العقول المفكرة، واشاعت على الجميع الاحساس بالبهجة والحبور وهزت حماسة الروح في العالم بقشعريرة عميقة جعلتنا نشعر في تلك اللحظة بالذات باننا توصلنا الى مصالحة حقيقية بين الله والعالم..".
وقد مجد هيغل وهولدرلين وشيلنغ المبادئ الجديدة التي رفعتها الثورة الفرنسية من اجل الحرية والاخاء والمساواة وقاموا في ربيع 1791 بغرس أول شجرة للحرية في ساحة مدينة ينا احتفالا بهذه الثورة "التي غيرت مجرى التاريخ وبرهنت على ان الجنس البشري يرغب في التقدم ولديه استعداد اخلاقي لدفع ثمن الحرية". وقد صرح هيغل، بان مبادئ الثورة الفرنسية التي دعت الى حقوق الانسان تتفق ونظامه الفلسفي، لانها مبادئ انطلقت من الفكر وان هدف هذا الفكر الحر هو تخليص الانسانية من الخطيئة الاساسية وهي خضوع الفكر للقوى اللا شعورية العمياء.
ان اهتمام هيغل وانبهاره بمبادئ الثورة الفرنسية كان احدى نتائج التناقض بين الحق والحرية الذي قدح فكره. فالحرية عنده هي الهدف الاخير لتاريخ العالم ولا يمكن ان تتحقق الا بواسطة المعرفة وباقصى درجات الحرية وبالقدر اللازم من الالتزام. فالحرية عند هيغل ليست نشوة مخدرة، بقدر ما هي فعل اخلاقي، وعلى الانسان المعاصر ان يقيم مجتمعا تكون فيه حرية الفرد شرطا ملازما لحرية تطور الجماعة.
وعندما رأى هيغل نابليون وهو يدخل ينا في اكتوبر عام 1806 صاح قائلا: " شاهدت القيصر، تلك النفس العالية، ممتطيا جواده عبر المدينة للتعرف عليها، انه لفي الواقع احساس رائع ذاك الذي يغمر المرء حين يرى مثل هذا الفرد مركزا في نقطة، جالسا على جواد، واذ به يسم العالم اليه بحكمه."
غير ان هيغل سرعان ما ارتد عن الثورة الفرنسية حين انتصر نابليون على الجيش البروسي عام 1806 ودخلت الجيوش الفرنسية مدينة ينا في جو من الرعب والعنف والفوضى التي ارتكبها الثوار، وبصورة خاصة، في المرحلة الثانية من الثورة عندما هاجم الجيش الفرنسي بيت هيغل مما اضطر استاذ الفلسفة الى الفرار حاملا معه اول كتبه وهو "علم تجسيد الروح". ويعتقد بارتسيس، بان حيوية هيغل الشاب ونشاطه السياسي انما هي نتيجة للتذبذبات التاريخية التي عاناها، ولا سبيل لفهم حكم هيغل على نابليون الا من هذه الزاوية.
بعد سقوط ينا على يد نابليون عانا هيغل مرارة الفقر والعوز مما اجبره على طلب المساعدة من صديقه غوته، شاعر المانيا الكبير، ثم اضطراره للعمل في صحيفة بامبرغ كمحرر أدبي، ثم رئيسا لتحريرها. وفي عام 1808 عين مديرا لثانوية نورنبرغ.
وكان هيغل يتمنى ان يصبح استاذا في جامعة ينا بعد ان قدم رسالته للدكتوراه الموسومة: "نقد المنهج العلمي الطبيعي عن كبلر ونيوتن"، التي سمحت له بالتدريس في الجامعة حيث اخذ يلقي محاضرات في المنطق وفي ما وراء الطبيعة والرياضيات والحق الطبيعي واصدر كتابه الشهير "فينوميتولوجيا الروح " عام 1807.
في عام 1811 تزوج هيغل من ماري فون توخر، ابنة احد اعضاء مجلس ادارة مدينة نورنبرغ. وقد ساعده زواجه منها على الاستقرار فارتفعت قدرته على الانتاج والابداع فانجز كتابه "المنطق"، الذي اثار، بسبب غموضه، جدلا فلسفيا حادا في اروقة الجامعات الالمانية، وهو ما رشحه للفوز بكرسي الاستاذية في الفلسفة في جامعة هايدلبرغ. وفي تلك الفترة اصدر موسوعته في العلوم الفلسفية. وكانت محاضراته في فلسفة الحق قد رفعت من شانه وسمعته العلمية ورشحته للحصول على كرسي الاستاذية في الفلسفة في جامعة برلين التي كانت حينذاك منبرا للفكر الالماني المثالي. ومذاك دخل هيغل عالم الفلسفة الذي لم ينازعه فيه منازع، مثلما دخل غوته عالم الادب وبتهوفن عالم الموسيقى.
بنية النظام الفلسفي الهيغلي
يعتبر هيغل آخر الفلاسفة الكبار ان لم يكن اعظمهم، وعلى اقل تقدير، كونه وضع للفلسفة الحديثة شكلها المكتمل والنهائي.
تعود الاصول الفلسفية لآرائه وافكاره الى الفلسفة الاغريقية وبصورة خاصة الى ارسطو والى افكار ومبادئ عصر التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية وبخاصة الفلسفة الالمانية المثالية- الذاتية التي وقف على رأسها عمانوئيل كانت واستمد من نظامه المحكم قوانين الفكر المتماثلة مع قوانين الحقيقة، مثلما تأثر بشلينغ وفيشته وتعاطف مع الشاعر الالماني هولدرلاين. وقد نضج تفكيره وتبلورت فلسفته من خلال استيعابه لفكرة الروح والروح المطلق.
واذا القينا نظرة سريعة على بنية النظام الفلسفي عند هيغل نجدها تقوم على اعمدة ثلاثة:
أولا- المنطق ( الانطولوجيا اوعلم الوجود)،
وثانيا- فلسفة الروح المطلقة (الله والدين)،
وثالثا- مبدأ الجدل ( الديالكتيك).
ان هذه الاعمدة الثلاثة التي تربط بنية النظام الفلسفي الهيغلي لا يمكن الفصل بينها، فهي تتداخل في علاقة جدلية بعضها مع البعض الآخر. ففي المنطق يجد هيغل نظريات الفكر، من حيث الكم والكيف والصلة التي ترتبط بالتفكر والعلاقة الجدلية بينهما، لان كل فكرة تتالف من مجموعة من العلاقات. فالمرء لا يستطيع التفكير بالشيء الا اذا قارنه بشيء آخر وادرك اوجه التشابه والاختلاف بينهما. وكل فكرة تصبح فارغة حين تجرد من علاقاتها، ولا يمكن ان يكون الشيء موجودا حين لا يكون له معنى. واكثر هذه العلاقات هي التناقض بين الافكار. ومن هنا يربط هيغل الحركة المنطقية بالجدلية، متأثرا بنظرية الاضداد عند ارسطو وفكرة التماثل بين الاضداد عند شيلنغ وفكرة الموضوع ونقيضه عند فيتشه وتوحيدهما معا.
والافكار عند هيغل لا تخضع لوحدها لهذا التطور وانما جميع الاشياء. فكل شيء يحوي في احشاءه تناقضا داخليا ينمو ويتطور الى وحدة منسجمة من التناقضات. ومن هنا فان حركة الافكار عند هيغل ترتبط بالتفكير من اجل اكتشاف الوحدة الكامنة في تناقضاتها.
في كتابه" فينومينولوجيا الروح" الذي صدر في شتوتغارت عام 1807 بحث هيغل موضوع الفلسفة، وهو ادراك الروح المطلق التي تظهر اولا في الفكر المجرد، مثلما تظهر في المعرفة المطلقة التي تتجلى في الكمال الفلسفي الذي يتمثل في " وعي الله في الانسان" ولما كانت طبيعة الله هي روح مطلق، فهي اذن ليست سوى ذلك الوعي الذاتي- فكر الفكر Denken des Denken. وتتجلى الوحدة والانسجام بين المطلق والذاتي في اخلاقية هيغل وفي توحيده للسلوك الصحيح وطهارة الاخلاق التي تظهر في اعلى مراحلها في الدولة. فالدولة في نظر هيغل ما هي الا تجلي الله في المطلق. يصبح المطلق هو الوحدة بين الذاتي والموضوعي.
ويأخذ الفكر الموضوعي عند هيغل ثلاثة اشكال من الروح المطلق: رؤية وتصور ومعرفة مطلقة بوحدة الذات والعنصر.
اذن تتماثل الدولة مع المطلق وتمثل في الاخير الوحدة النهائية بين الذاتي والموضوعي وتهدف الى تحقيق الحركة، حيث تصبح مهمة السياسة هي تحقيق وحدة الافراد في الدولة، بينما تظهر مهمة الدين في بلوغ المطلق الذي يتجلى بالله، الذي تتحلل فيه جميع التناقضات في وحدة من المادة والعقل والذات والموضوع، وان هذا المطلق ينهض في الانسان ويتحول الى وعي ذاتي، الى فكرة مطلقة تدرك ذاتها كجزء من المطلق، وتتجاوز حدود الفرد ليصبح عقلا، والعقل جوهر الكون، لانه تركيب عقلي مطلق.
الجدل الهيغلي
الجدل(Dialektik) في فلسفة هيغل يتعدى كونه منهجا، لانه تعبير عن سيرورة العالم وحركته التي تنفي كل رؤية ثبوتية للعالم والكون. فالعالم في حركة مستمرة وتجري وفق مخطط جدلي، وفي حركة تنمو وتتطور فتنتج التناقض. يصبح التناقض حركة داخلية في الاشياء ذاتها ( in sich gehen)، لان كل شيء يحوي في احشاءه عناصر متناقضة.
استمد هيغل مخططه الجدلي من " فن المناقشه" الذي وضعه سقراط واستخدمه في اقناع المخاطبين للتغلب على التناقضات " السفسطائية"، كما استخدم منطق ارسطو الصوري الذي يقوم على "قانون وحدة الهوية" الذي يقوم بدوره على "ان الشيء هو هو ولا يمكن ان يكون غير ذلك".
الا ان هيغل رفض مبدأ وحدة الهوية وثبوتية الكون والوجود وقال بمبدأ الحركة باعتباره مبدأ وجودي. وتمر حركة الكون بثلاث مراحل: مرحلة الوجود اللا عضوي، ومرحلة الوجود العضوي- وهو عالم النبات والحيوان حيث يتحقق التمييز الفردي - ومرحلة الوجود الروحي- التي تتجسد بشكل ذاتي في الانسان وفي ثلاث قوى: النفس والضمير والعقل. كما يتجسد الوجود الروحي بشكل موضوعي في المجتمع، بشكله المدني والسياسي وكذلك في الدولة التي تتجلى فيها الحياة الروحية في الفن والدين والفلسفة.
ان مبدأ الحركة عند هيغل هو سيرورة ( Prozess) تجري وفق مخطط جدلي. فكل قضية (These) لها ما يناقضها (Antithese) وهذا التناقض بين القضيتين يولد قضية جديدة يدعوها هيغل بـ التركيب(Synthese). وان التناقض الموجود في القضية يهدم الظاهرة الأولية ويولد ظاهرة جديدة هي تركيب من الظاهرتين. وليست الظاهرة الجديدة هي جمعا للنقيضين، وانما هي رفض لهما باعتبارها تنكر تضادها. والحركة التي ولدت التناقض هي حركة في ذاتها وتولد بدورها ظاهرة جديدة تتناقض مع اخرى فتولد تركيبا جديدا وهكذا دواليك.
لقد ادخل هيغل مبدأ الحركة المنطقية ذات الطبيعة المثالية الخالصة في كل ما كتبه من اراء وافكار فلسفية، منطلقا من اعتقاده، بان الحقيقة هي وحدة عضوية من اجزاء متناقضة، وان تشكيل الاراء بالنسبة للقضايا الكبرى هو تذبذب بين قطبين، وان حركة التطور هي حركة دائمة من النمو والتطور بين الاضداد والتوفيق بينهما ودمجهما معا. تصبح كل الاشياء خاضعة لهذه الحركة التطورية، حتى النظم الاجتماعية تحوي داخلها تعارضا وتآكلا في ذاتها.
المصادر:
Hegel, G. F. Phinomenologie des Geistes, Stuttgart, 1947 -
Dialektik ,In philosophisches Woerterbuch,,Stuttgart,1965-
Hegelianismus,In PhilosophischesWoerterbuch, Stuttgart,1965 -Horkheimer Und Adorno, Dialektik der Aufklaerung,FrankfurtLM,1982 -
- باول بارتسيس، ذكرى مرور 200 عام على ميلاد الفيلسوف الالماني الكبير جيورج فيلهلم فريدريش، فكر وفن، مونيخ 1984
- ول دورانت, قصة الفلسفة، بيروت 1982
- احمد الخشاب, التفكير الاجتماعي. القاهرة 1981
التعليقات
نبع الفكر الالماني
مصطفى العراقي -شكرا للأستاذ إبراهيم الحيدري على هذا البحث الجميل والمفيد الذي يعرض فيه جانبا من المدرسة الالمانية للفكر والفلسفةن والتي تفتقر غليها الذاكرة العربية بسبب التركيز على مدارس فكرية اخرى كالفرنسية والإنكليزية. ولا يخفى على القاريء الكريم دور الأستاذ الحيدري في إثراء المكتبة العراقية والعربية في مجالات علم الإجتماع الذي نحتاجه كعراقيين لتشخيص مآسينا الإجتماعية والحضارية لنعمل على إيجاد الحلول الناجعة لها غن تمكننا من ذلك .
ولكن هيجل قال
سامر البابلي -لكن هيغل قال انه يتعذر ترجمة اعماله للغات الاخرى واختصار فلسفته بمقالات . وشكرا
ولكن هيجل قال
سامر البابلي -لكن هيغل قال انه يتعذر ترجمة اعماله للغات الاخرى واختصار فلسفته بمقالات . وشكرا