كتَّاب إيلاف

تكنولوجية التلي بوليتكس والانتخابات اليابانية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

بينما تعاني الإصلاحات الديمقراطية الوليدة في منطقة الشرق الأوسط من إرهاصات سياسية متشابكة، تزداد تحديات حكومات الدول المتقدمة تعقيدا بعد قرنين من عهدها الديمقراطي. فحكومة بريطانيا العمالية تترنح أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة، ويتوقع المراقبون هزيمة حكومة الحزب الياباني المحافظ في الانتخابات القادمة مع ارتفاع نسب البطالة، كما تعاني الحكومة الإيطالية من تهم الإعلام لرئيسها، ويتعرض الرئيس الفرنسي النشط لموجة حادة من انتقادات معارضيه. ولم يسلم حتى الرئيس الأمريكي الشاب من هجمة الانتقادات العنيفة على خططه الإصلاحية، وكأن هناك لعنة حلت على السياسيين في قريتنا الكونية الصغيرة. والسؤال لعزيزي القارئ: ما سبب صاعقة الهجمات المتزايدة على السياسيين في جميع أنحاء المعمورة؟ فهل أصبحت العملية الديمقراطية صعبة الاستدامة أمام تكنولوجية عولمة الألفية الثالثة؟ وهل هناك حلول مستقبلية مبدعة؟
لقد ناقش الكاتب ديفيد هوول، الوزير البريطاني السابق وعضو مجلس اللوردات، بصحيفة اليابان تايمز، في الحادي من أغسطس الماضي، الأوقات الصعبة التي يوجهها السياسيون مع العولمة وتغيراتها التكنولوجية، بقوله: "الأحزاب السياسية التي خدمت كأعمدة للنظام الديمقراطي خلال القرنين الماضيين، بدأت في رحلة انهيار مستمرة، لتذبل أعضائها، وتتحول سياساتها لمهزلة مضحكة ومحتقرة تقريبا في كل مكان. فلم يعد يحترم المواطنون لعب السياسيين الماكرة، وأصبحت أحزابهم وحكوماتهم نكرة مؤسفة. وينعكس ذلك في انخفاض عدد أعضاء حزب العمال البريطاني من المليون لحوالي المائتين ألف، وحزب المحافظين من مليونين ونصف لثلاثمائة ألف، ولا تختلف هذه النسب المثيرة في دول الغرب الأخرى كبولندا والمجر وفرنسا وهولندا. ويبدو بأن المواطنون لم يفقدوا الرغبة في السياسة، ولكنهم استبدلوا قياداتها التقليدية بمشاهير لاحزبية متمردة ونجوم الطرب والفن. وزاد الطين بلة خدع السياسيين المكشوفة للتمسك بالسلطة. وكلما زادت أحزابهم ضعفا، زادت نشاطاتهم المريبة في جمع الأموال لحملاتهم الانتخابية وقل احترام منتخبيهم."
ويعتقد الكاتب بأن سبب هذا الرفض الشعبي للأحزاب وقياداتها يرجع لتوفر تكنولوجية أعلام الانترنت، اليو تيوب والتويتر والفيس بوك، والتي وفرت للجماهير إمكانية تحدي فلسفة هذه الأحزاب وخطط حكوماتها، ومكنتها عولمة الثورة المعلوماتية ومؤسساتها الغير حكومية لإبداء رأيها بحرية. واختفى الاحترام للسياسيين بعد أن نافسوهم نجوم الفن الباحثين عن الشهرة، ولم يعد لهم مكان للاختفاء فيه بعد عولمة الشفافية وتحول حياتهم الشخصية لملكية عامة. والتحدي الأكبر هو أن الحكومات الوطنية لم تعد في استطاعتها السيطرة على شؤون الدولة لتطفل العولمة في كل زاوية. كما حولت تداخلات العولمة في السوق والتجارة والإعلام، الحكومات المنتخبة، "لقارب صغير يتسرب منه الماء في وسط طوفان محيط العولمة الهائل."
وتبدو ملاحظات ديفيد هوول جلية اليوم في المجتمع الياباني المتطور تكنولوجيا. فقد نتجت عن التطورات التكنولوجية إرهاصات سياسية متشابكة، ستؤدي لتغير الساحة السياسية اليابانية بعد انتخابات مجلس النواب في صيف عام 2009. وقد ربط الكاتب الياباني، ريجي يوشيدا، هذه الإرهاصات بتكنولوجية محددة، وهي تكنولوجية استطلاعات الرأي السياسية، والتي ناقشها في صحيفة اليابان تايمز، في السادس عشر من شهر أغسطس الماضي بقوله: "لقد هزت تكنولوجية استطلاعات الرأي الجمود السياسي التقليدي. فالسياسة اليابانية في فوضى محيرة للناخبين منذ سنين قليلة، فقد شهدت البلاد أربعة رؤساء للحكومة اليابانية من الحزب اللبرالي الديمقراطي خلال الثلاث سنوات الماضية، كما سينتهي الرئيس الرابع، تارو آسو، مع فوز الحزب الديمقراطي الياباني المعارض قريبا. وسينهى هذا الانتصار حكم 54 سنة للحزب اللبرالي الديمقراطي." ويعتقد الكاتب بأن هزيمة الحزب الحاكم هي نتيجة للخلخلة التي أصابته، بعد التراجع الاقتصادي التدريجي منذ أزمة عام 1990. كما أدت زيادة الحاجة لمورثات "التلي جينتكس" السحرية، مورثات ذكاء التواصل التلفزيوني، وكثرة استطلاعات الرأي، لخلخلة البنية التقليدية للسلطة.
ويعتقد البروفيسور ماسو ماتسوموتو، أستاذ استطلاعات الرأي بجامعة سيتما اليابانية، بأن من أهم أسباب هذه الخلخلة انفعالات برلماني الحزب الحاكم، حينما يضعف أدائهم في استطلاعات الرأي المتكررة، ويحاولون جذب أصوات الناخبين بطريقتهم "البائسة". فقد تأسس الحزب اللبرالي الديمقراطي الحاكم في عام 1955، وكان متمسكا بالسلطة بقوة حتى منتصف التسعينات، وأستطاع أن يوفر للشعب الياباني استقرار سياسي نسبي، ويحقق للبلاد إنجازات اقتصادية متميزة. ويعتقد ري شيراتوري، رئيس مركز الدراسات السياسية اليابانية، بأن نجاح الحزب اللبرالي الديمقراطي الحاكم خلال الخمسة عقود الماضية، يرجع لتمكنه من الحصول على تأيد جميع المؤسسات اليابانية، وذلك بمحافظته على أبقاء سياسة "الحكومة الكبيرة" مع أنه حزب محافظ. فأستطاع بذلك أن يتجاوز الأحزاب الأخرى بجمعه بين أن يكون حزب رأسمالي محافظ ويحكم "بحكومة كبيرة" مهتمة بمسؤولياتها الاجتماعية في الصحة والتعليم والتقاعد والتعطل، ليحافظ على الدعم الشعبي الواسع من المستهلكين والمنتجين منذ تأسيسه عام 1955. ومع أنه من الناحية النظرية لا يمكن استدامة أي حزب بوراثته الصراعات المعهودة بين الناخبين المنتجين والمستهلكين، وناخبي المدن والمناطق الريفية، ولكن استطاع هذا الحزب أن يصمن دعم الجميع، وذلك بسياسة جمعت بين استمرارية التنمية الاقتصادية مع الاهتمام بالرعاية الاجتماعية، وذلك برفع الضرائب للصرف على الخدمات الشاملة في الصحة والتعليم والتقاعد والتعطل، وعلى المشاريع العمرانية في المدن والقرى لتوفير الوظائف وخفض نسب البطالة. وقد أدت هذه السياسة لإرضاء جميع أفراد الشعب الياباني من مستهلكين ومنتجين، وقد فقدت هذه السياسة بريقها بعد الأزمة الاقتصادية في التسعينات، والتي أدت لخفض ميزانية الحكومة، فقل الصرف على الخدمات والمشاريع، فزادت نسب البطالة وارتفعت نسب الوظائف المؤقتة.
لقد حاول الرئيس كوزومي منذ تولية رئاسة الحكومة مع بدايات الألفية الثالثة، بفرض سياسة مالية محافظة ترتكز على خفض الصرف على الخدمات الاجتماعية والمشاريع العامة، وذلك بدفع البرلمان للموافقة على خفض الميزانية 3% سنويا. وقد أدى ذلك لدمار كبير لاقتصاد المناطق الريفية النائية، والتي كانت داعمة تقليديا للحزب الحاكم. وزاد الطين بلة إصرار الرئيس كويزومي على موافقة البرلمان لقانون يقطع من ميزانية التأمينات الاجتماعية مائتين وعشرين مليار ين سنويا ليغضب مؤيدي حزبه الحاكم. وبعد أن كافح الرئيس كويزومي للتخلص من سياسة الحكومة الكبيرة وبمسئولياتها الاجتماعية، انتقل الناخبون للحزب الديمقراطي الياباني المعارض، الذي أهتم في عرض خطته بحياة المواطنين وشبكة حمايتهم الاجتماعية. وبذلك حطم الرئيس كويزومي قواعد الحزب الحاكم ومؤيديه، وهيئ لفوز الحزب الديمقراطي الياباني، في محاولته الجادة لعولمة الاقتصاد الياباني التقليدي.
وقد غير الرئيس كويزومي السياسة اليابانية، باستخدام مهاراته في التواصل وكلماته النافذة السحرية، في ما يسمى "بالتلي بوليتكس." ويوصفه المحللون السياسيون بأنه أول سياسي ياباني استفاد من قوة الإعلام التلفزيوني الرقمي، ودفع لعصر إعلام التكنولوجية السياسية في اليابان، والذي أفقد النظام السياسي التقليدي توازنه واستقراره. وتعبر كلمة "التلي بوليتكس" عن تأثيرات "العضة" التكنولوجية الصوتية والمرئية للناخبين في الصحافة والإذاعة والتلفزيون ضد رجال السياسة، والتي تؤدي بانفعالاتها الشعبية اللحظية والسطحية لتغيرات في سلوك السياسيين. ومنذ حكومة الرئيس كويزومي بدأت محطات التلفزة وشركات الإعلام بيع الأخبار كنوع من الترفيه. ويعتقد البروفيسور ايو اوساكا، أستاذ "التلي بوليتكس" بجامعة ريكو في طوكيو، بأن وصول تكنولوجية "التلي بوليتكس" ترافقت بثورة تكنولوجية استطلاعات الرأي. ففي عام 2001، حينما بدأ رئيس الوزراء كيزومي حواراته التلفزيونية، بدأت جميع الصحف اليابانية استخدام تكنولوجية "التلفنة الرقمية العشوائية" لإجراء الاستطلاعات. وبتلك الطريقة يقوم التلفون باختيار الأرقام بشكل إحصائي عشوائي، ليستطيع مستطلعي الآراء بالاتصال بالناخبين، ليجمعوا عينة إحصائية كافية لاستطلاعات الرأي. وقد اعتمدت الإستطلاعات سابقا على المقابلات الشخصية المكلفة والمضيعة للوقت، بينما تحتاج تكنولوجية استطلاعات الرأي الحديثة لاختيار ثلاثة آلاف ناخب، ولثلاثة أسابيع لنشر النتائج في الصحافة. فبينما كانت الصحف الكبيرة تقوم في منتصف التسعينات باستطلاعات رأي تقليدية قليلة سنويا، تستطيع هذه الصحف اليوم أن تقوم باستطلاعات رأي شهريا بالتكنولوجية الحديثة، وباستطلاعات إضافية عن تصرفات وأراء وفضائح السياسيين، بل تستطيع القيام بها لحظيا كلما وجدت الحاجة لها، ولذلك غيرت هذه التكنولوجية الديناميكية السياسية.
وقد أدت تكنولوجية "التلي بوليتكس" لمعرفة رؤساء حكومات الحزب اللبرالي الديمقراطي نسب تغير شعبيتهم في استطلاعات الرأي بشكل متكرر وسريع، والذي زاد من تخوفهم من الهزيمة في الانتخابات، وبذلك قرر الرئيس أبيه والرئيس فوكودا ترك مناصبهم وبسرعة. كما يستطيع السياسيون اليوم القيام باستطلاع الرأي بأنفسهم لمعرفة مدى شعبيتهم. وحسب ما نشرته صحيفة، سانكي شمبون، في الثاني والعشرين من يوليو الماضي، قامت مجموعة من قيادة الحزب اللبرالي بمحاولة للتخلص من رئيس الوزراء تارو آسو، حينما بينت استطلاعات رأي سرية للحزب، بأنه لن يستطيع الحزب الفوز بأكثر من 150 مقعدا في الانتخابات القادمة لمجلس النواب، أي بخسارة الحزب أكثر من نصف مقاعده ال 303، والذي سيؤدي بالمعارضة للسيطرة على مجلس النواب. فاختصار شديد، عصر الشفافية الشاملة وحرية المعلومة ستجلب مشاكل كثيرة للحكومات الجيدة، والسياسيين المخلصين، وعلى الديمقراطيين في كل مكان ملاحظة الجانب الايجابي لهذا التحدي، حيث لا يستطيع أحد التحايل على الناخبين، بل ستنخل تكنولوجية "التلي بوليتكس" السياسي الجيد عن السيئ. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيدرك العرب خطورة "التلي بوليتكس"؟ وهل سيستفيد سياسيو المنطقة من الخبرة اليابانية لخلق آليات سياسية جديدة تزيد من ثقة المواطنين بالإصلاحات الديمقراطية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الى إيلاف مع التحية
هدير الحقيقة -

مكرر

الى إيلاف مع التحية
هدير الحقيقة -

مكرر