كتَّاب إيلاف

الكلام جاب بعضه

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"جمهورية العباقرة" هو الوصف الذي أطلقه "شوبنهور" علي الحكماء السابقين علي سقراط، أما "نيتشه" فقد وصفهم ب"النماذج الصافية للفكر" في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي". وكلاهما أستبعد "أفلاطون"، لأنه حسب تعبير "نيتشه" يتسم بكونه: "أول هجين كبير" في تاريخ الفلسفة، وهذا مدون في شخصيته كما في فلسفته. ونظريته في "المثل" أبلغ دليل علي ذلك، فهي تجمع عناصر سقراطية وفيثاغورية وهيراقليطية، لذلك لا يمثل "نموذجا صافيا للفكر". أضف إلي ذلك أن أفلاطون هو الذي دفع بالتقسيم الخاطئ بين عالم المثل وعالم الواقع، السماء والأرض، الروح والجسد... إلي آخر هذه الثنائيات التي ترزح (كلعنة) علي الفلسفة حتي اليوم، وهي "لعنة" تشبه "لعنة الفراعنة"، التي تحتاج إلي مقال مستقل.
زيارة أفلاطون إلي مصر واقامته فيها وتأثره بثقافتها، ثابت من الناحية التاريخية والفلسفية، فقد وجدت مقاطع كاملة (مسودات) من مخطوط كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، أثناء ترميم أحد الأديرة المندثرة في الصعيد، التي أقيمت علي أنقاض أحد المعابد الفرعونية، وتوجد إلي اليوم قرية مصرية بإسم (أفلاطون) بمركز قلين، التابع لمحافظة كفر الشيخ وسط الدلتا تقريبا، وهي القرية التي ولد فيها الشاعر فاروق جويدة.
دريدا هو الذي أمسك بتلابيب "تناقضات" أفلاطون، من خلال استراتيجيته في التفكيك - Deconstruction، فقد لاحظ أن الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون منحت الكلام أفضلية على الكتابة. فالكلمة المنطوقة تجسد حضور (المتكلم) وقت صدور القول، وتلزم (متلقيًا)، فليس ثمة فاصل (زماني أو مكاني) بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يقول فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته.
وسمة المباشرة في حقل الكلام تعطي قوة خاصة، لأن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على تصحيح أخطاء الكلام أو التأكيد عليه، وعلي معرفة ما إذا كان الفهم قد تحقق فعلاً أم لم يتحقق.
وتفضيل الكلام على الكتابة، هو ما اصطلح على تسميته بـ "التمركز حول الصوت" - Phonocentrism، الذي هو أساس التمركز حول العقل - Logocentrism، في المركزية الغربية (الأورو- أمريكية).
وإذا كان الصوت في الكلام يمثل "الحضو"، حضور المتكلم، فإن الكتابة تمثل "الغياب"، غياب المتكلم. ويرجع دريدا ذلك إلى أفلاطون أيضا، الذي أكد في محاورة "فايدروس" أن الكلام يحمل طابع "الحيوية" الذي تتصف به النفس، و"الحقيقة" التي هي حوار الروح الصامت مع نفسها، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة صماء، وهي محاكاة "ميتة" للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة.
لكن أفلاطون عاد أدراجه في كتابه "القوانين" (الجزء السابع) ليؤكد علي ضرورة تعليم "الكتابة" والقراءة في مدينته المثالية لجميع الأطفال دون تمييز بين الذكور والإناث. وذهب إلي حد القول بأن "الكتابة" هي أثمن هدية من "الإله تحوت" حسب الأسطورة المصرية القديمة.
لقد كان دريدا واعيا بالدور الخطير الذي لعبه أفلاطون في تاريخ الفلسفة، لذا خصص له دراسة مستقلة هي "صيدلية أفلاطون"، فضلاً عن استشهاداته العديدة بأعماله. فقد أظهر التفكيك أن زعم أفلاطون - في محاورة "فايدروس" - "بأنه لا يقوم إلا بمحاولة لإعادة تسجيل كلام أستاذه وأبيه الفلسفي سقراط، هو مجرد حيلة بارعة، للقضاء علي أستاذه قضاء مبرما.
فقد كان أفلاطون يقوم بإحياء سقراط (في الظاهر) حين يعيد كتابة أقواله، ولكنه كان أيضًا يقتل سقراط (في العمق) حين يخرق قانون الأخير في تحريم الكتابة. وهكذا فإن "صيدلية أفلاطون" تأسست على مبدأ "الكتابة" بوصفها الفارماكون Pharmakon (السم والترياق معًا)، الذي يقتل ويعالج في آن واحد.
وأفلاطون الذي يحذرنا من خطورة فكرة "الشبه" و"الشبيه"، في محاورة "السوفسطائي"، حيث يقول علي لسان "الغريب": "لما كان الذئب يشبه الكلب، وأكثر الحيوانات وحشية يشبه أكثرها أهلية، وجب علينا، إن أردنا ألا نخطئ، أن نحذر الشبه قبل كل شىء، فالشبه مذلة".
هو نفسه الذي دشن فكرة " الشبيه " في الفلسفة، الذي يلغي " الآخر " و" المختلف " وجوديا ومعرفيا، فقد لاحظ "جيل دولوز" في كتابه "ما الفلسفة": ان (سقراط) الشخصية الرئيسة في محاورة "الجمهورية" لأفلاطون، لم يتوقف البتة عن جعل الحوار مستحيلاً. لقد طرح أسئلة على أصدقائه، لكنه كان يعرف الجواب مسبقاً، أي انه حول الصديق، إلى صديق لمفهوم واحد.

ملحوظة مهمة: هذا المقال لا علاقة له من قريب أو من بعيد (بتناقضات) الوزير الفنان فاروق حسني لا قبل ترشحه لليونسكو ولا أثناء هذا الترشيح أو بعد فوز الدبلوماسية البلغارية الرائعة (ايرينا بوكوفا) برئاسة المنظمة الدولية. كما أنه لا يلمس من قريب أو من بعيد علي (تناقضات) الموقف المصري من مسألة التطبيع مع اسرائيل، والتحقيق مع الدكتورة هالة مصطفي بسبب مقابلة السفير الإسرائيلي بالقاهرة "شالوم كوهين" داخل مؤسسة الأهرام.... فقط (الكلام جاب بعضه).


dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
جريمة الشفاهية
محمد البدري -

مادام الكلام بيجيب بعضه، خلينا بقي نجيب كمان وكمان. هل الثقافة الشفاهية (الكلام) هي علتنا؟ فحسب ما جاء في المقال ان الكتابة اعادت حق القارئ (المتلقي) في الا يغترب عن ذاته يكون الشبيه. وهذا يجرنا الي عظمة حضارتنا الفرعونية التي دونت وكتبت ولم ترتكب جريمة الكلام ابدا. لكن ولان الكلام بيجيب بعضه فلماذا اصبحت احوالنا منيلة بستين نيلة والكل شبية شخص واحد ليل نهار يتكلم ويقول خمس مرات يوميا.