كتَّاب إيلاف

إيثاكا المستحيلة: شهادة شاعر فلسطيني من جيل ما بعد حرب حزيران

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

.. الآنَ، وقد أوشكتِ الرحلةُ على الاقتراب من الشاطىء الآخر، ها أنا أتذكّر تلك السنوات البعيدة، فأستغرب: هل صنعوا معجزة صغيرة، وهم لا يدرون؟ وأقصد بضمير الجماعة الغائب: أعضاء ذلك الجيل الأدبي البازغ في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي. والذي كنت آخر من التحق به، وأصغرهم سناً. أما المعجزة الصغيرة، فهي اجتراح كتابة الأدب، شعراً وقصة قصيرة ورواياتٍ وأغاني ثورية، في فراغ كوني رهيب، وبعد ثماني سنوات من اكتمال الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي لكامل تراب فلسطين الانتدابية.
كانت قبضة الاحتلال، في ذلك الوقت، تلاحقنا على أهون الأمور: كلمة عابرة تلفّظنا بها هنا أو هناك، فنقلها إلى آذانهم متعاونٌ بائس. فما بالك بالكلمة المكتوبة والمنشورة على الملأ؟ (حتى لو مرّ عليها وشوّهها مقصُ رقيبهم العسكري، الذي غالباً ما يكون صحفياً أو أكاديمياً متخصّصاً في الأدب العربي، خان تقاليده الأكاديمية وانحاز للبدلة المرقّطة)
كانت سنوات الجمر كما يقال. عسكرٌ اسرائيليون مزهوّن بانتصارهم القريب الساحق على دول محيطة، وعلى بقية شعبنا الأعزل. عسكرٌ جيءَ بهم من أسرّة الثكنات وجوف الدبابات، ليحكمونا نحن سكان القدس والضفة وغزة. فأرادوا ترويضنا كما تُروّض الحيوانات الأليفة والمفترسة معاً.
في ذلك الزمن البعيد، تفتّحت مدارك وعينا وسنواتُ مراهقتنا وشبابنا الغضّ، على "أرض موات" بتعبير إليوت. بلاد محتلة ولا ثقافة مكتوبة لها أو بها. انقطاع عن العالم العربي والعالم الأوسع. رقابة على مدار الوقت للإثنين معاً: الشخص والنصّ. وتنكيل وقمع وإرهاب دولة، ينصبّ علينا كثلّة، وكأفراد على حدة، لأبسط الأسباب وأتفهها. شيء يشبه من بعيد سنوات فرانكو التي جرّبتم نارها وحفرت عميقاً في تجاعيد ملامحكم وذاكرتكم.
خرجنا فلم نجد أمامنا لا مكتبات عامة ولا خاصة. لا شعراء ولا كتّاباً سابقين. لا كتباً ولا صحفاً، لا مطبعة ولا مقرّ ندوة ـ فحسب قوانينهم: يُمنع تجمّع أكثر من ثلاثة أشخاص حتى داخل البيوت.
وإذا أردنا كتاباً ما، فلا بد أن نسافر للقدس أو حيفا، على أمل ضئيل بالحصول عليه. وإذا كان الحظ مواتياً، وحصلنا على الكتاب، تنفتح قصةٌ أخرى في طريق العودة للبيت: كيف سنعبر حواجزهم العسكرية وتفتيشهم الأمني ومعنا "هذه المادة الممنوعة"؟ كانت حيازة الكتب (وكل الكتب بالنسبة للاحتلال مادّة ممنوعة، حتى كتب إحسان عبد القدوس الرخيصة) تهمة عقابها ستة شهور اعتقال قابلة للتجديد الفوري. ومع هذا، كنا نغامر ونجازف، فنملص أحياناً، ونُسجن في أحيان أخرى.
في أجواء كهذه، ولد جيلنا: جيل "أدباءالأرض المحتلة بعد حرب ال67". وأتذكر الآن ما قاله لي ضابط المخابرات الإسرائيلي، في العام 1977 في جلسة تحقيق: أنتم جيل الهزيمة، وسنتفضّل على "العاقل" منكم بالعيش إلى أن يشيخ ويموت بهدوء. أما " المجنون"، فسجوننا أو رصاصنا ينتظره مهما صغر سنّه.
كان في الواقع يتكلّم كإله مفتون بنفوذه أمام فتىً يكاد يبول على حاله من شدّة الخوف.
ولّعلي أكون، لظروف خاصة، أقلَّ هذا الجيل تعرّضاً للقمع. المهم: بدأنا نكتب بلا أسلاف حاضرين. وبدأنا نبحث عن منابر للنشر، فوجدنا ضالّتنا في صحف القدس الشرقية وصحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الناطقة بالعربية.
سُجنّا كلّنا. وتكرّر السجن لمرّات تطول أو تقصر بسبب كتاباتنا. ومع هذا، بل لهذا السبب ولغيره، كان لحياتنا شرف المعنى. نحن كتّاب وشعراء مقاومة، بحكم الواقع، لا بحكم رغباتنا الخاصة. هكذا ينظر إلينا شعبنا، وهكذا شاءت أقدارنا.
كنا نكتب وننشر وما بينهما نقرأ أي قصاصة مطبوعة تقع عليها عيوننا. ثم بدأنا نبحث عن أدب المقاومة في أربعة أركان الأرض. إنه الأدب الذي نجد أنفسنا بين سطوره. نحصل على قصيدة "بكائية من أجل إغناثيو" لغارسيا لوركا فننسخها بالأيدي مئات النسخ، ونوزّعها كأنّها منشور سياسي على الزملاء والرفاق. نحصل على كتاب لأراغون أو بول إيلوار أو غسان كنفاني فنعيد نسخه وتوزيعه. نخرج في الليالي الموحشة، تحت جنح الظلام، والكتاب تحت الثياب، وندلف للبيوت الفقيرة في مخيمات اللاجئين، فنعطي نسخة منه لهذه الكفّ الممدودة من فوق حائط، أو تلك اليد المرحّبة من فرجة باب.
نتعلّم من هؤلاء ومن غيرهم كيف نصمد. كيف نكتب دون الانجرار لأجندة المحتل. كيف نحافظ على فنية الشعر فلا يتحوّل إلى شعار. كان شارون وبيغن ومن سبقوهم ومن لحقوهم يملأون أفق حياتنا بالدبابات والطائرات والدوريات الرّاجلة، فنهرب من كلّ هذا ونذهب لنتأمّل قميص الفتى الشهيد وزرّه المقطوع. نتأمل شنطته المدرسية بكتبها ودفاترها وعبق الفلافل الثاوي فيها، ثم نكتب. فالشعر في القميص والشنطة وتنهيدة الأم وزفرة الأب آخر الليل. الشعر في الإقحوانة النابتة على قبر الولد، لا في ابتسامة الجنرال العجوز. في دواخلنا لا في دباباتهم وطائراتهم. في هشاشتنا الإنسانية لا في جبروتهم. في انكشافنا على ضعفنا لا في عنجهيتهم. في كل التفاصيل الصغيرة التي ننصت إليها ونحدّق بها عميقاً،لا في أفعالهم التي تصنع الحدث والمانشيت. وهكذا ..
لم يكن أدبنا ردَّ فعلٍ على فعلهم الأصليّ. وكنّا نعرف أنّ ردود الأفعال في الأدب كفيلة بتحويله إلى أي شيء إلاّ أن يكون أدباً. من أين أتى لنا هذا الوعي؟ من تجربتنا المعاشة. من تأملنا الذاتي ومن ثلة الشعراء الكبار المقاومين والمحتجّين على مستوى العالم: لوركا، متشادو، ناظم حكمت، أراغون، إيلوار، ثيسار باييخو، وبقية السلالة المقدسة.
هل نجونا تماماً؟ بالطبع كلا. سقط الكثير منا في فخ المُباشرة، ونجا القليل. لكنّنا في النهاية، كنا ضحايا وأسرى وشهود سياقنا التاريخي وشروطه. فحاولنا، كلٌ بجهده الذاتي وحجم موهبته وثقافته، أن نسمو على هذه الشروط.
كان كل كتاب يصدر لنا بشقّ الأنفس، تعقبه فترة سجن. حتى كرهت أمهاتنا وزوجاتنا كتبنا. وتوجّس أطفالنا رعباً من مجرد أن يروننا نراكم القصيدة على القصيدة في آناء الليل وأطراف النهار، لتصير في المستقبل ديواناً شعرياً أو مجموعة قصصية أو رواية.
جيل كبر وشاخ قبل أوانه، فبدأ يتهاوى ويموت الآن، واحداً في إثر الآخر. وبقيت أنا وسواي لنتذكّرهم ونذرف دمعة الوفاء، ثم بعدها نرفع
القبّعة لتلك الإيثاكا المستحيلة. الإيثاكا التي كلما اقتربت ابتعدت.
يا له من زمن .. ويا لنا من سيزيفيين لا عوليسيين!
واسمحي لي يا جريدة "اليوم"، بهذه المناسبة، إزجاء السلام لمن قضى نحبه منهم: عبد اللطيف عقل وفدوى طوقان في نابلس. إميل حبيبي في حيفا. عبد الحميد طقش في خان يونس. عزت الغزاوي وحسين البرغوثي ومحمد البطراوي في رام الله. زكي العيلة في جباليا. توفيق زيّاد وسالم جبران في الناصرة، وسواهم.
وإزجاء السلام لمن لا يزال يقبض على جمرته ويكابد: سميح القاسم. سحر خليفة. محمود شقير. فوزي البكري. عادل سمارة. سلمان مصالحة. أحمد حسين. علي الخليلي. عبد الناصر صالح. المتوكل طه. جمال بنّورة. عادل الأُسطة. أسعد الأسعد. وليد الهليس. أكرم هنية. زكريا محمد. عمر حمّش. محمد أيوب. غريب عسقلاني. صبحي حمدان. جميل السلحوت.
وللأجيال التي لحقتهم: أحمد رفيق عوض. وسيم الكردي. زياد خدّاش. جمال القواسمي. نجوان درويش. وليد الشيخ. عثمان حسين. خالد جمعة. خالد عبد الله. أنس العيلة. علاء حليحل. جبر ونصر شعت. أسماء عزايزة. عبد الفتاح شحادة. محمود ماضي. وسواهم وسواهم ممن لا يتّسع هذا المقال لأسمائهم جميعاً.
هؤلاء كتبوا ويكتبون في أوحش الأوقات. هؤلاء هم آباء ومؤسّسو وأبناء الثقافة الوطنية التقدمية في الأرض المحتلة. كانوا وما زالوا ضمير شعبهم ولسانه الطليق، وهو يواجه، عارياً إلاّ من الانتماء، أعتى آلة عسكرية ل "إسبرطة العصر الجديدة".

bull;كُتبت هذه الشهادة للملحق الثقافي بجريدة "اليوم" الصادرة في برشلونة. وهنا النسخة العربية المنقحة منها.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف