العبدلان و"المكتوبجي" بينهما!

يحكم الأردن الآن عبدلان: الملك، ورئيس الحكومة.
والملك هو كما قال رئيس الحكومة - ثم سحب كلامه بعد شد الأذن- هو صاحب السلطة التنفيذية المفوَضة للحكومة.
فهو الأصل، والحكومة هي الصورة ( ممسحة الزفر).
ولذا، لم يكن غريباً، ولا جديداً، ولا مستهجناً، أن لا ينقض رئيس الحكومة - أي رئيس حكومة - قرار ديوان سيده، أو يرفض تنفيذه. بل العكس من ذلك، فهو يضعه على رأسه احتراماً، وتحت مخدته تقديساً، وحِجَاباً في صدره صوناً وحفظاً.

قالت أخبار عمان
قالت أخبار عمان في الأمس أن رئيس الحكومة - وهي حكومة لا تختلف عن الحكومة السابقة، حيث فيها أكثر من 15 وزيراً سابقاً، كما لا تختلف عن أية حكومة سابقة منذ سنوات طويلة، ولا ندري سبب إقالتها، وتشكيل حكومة جديدة، غير فتح باب الاسترزاق لوجوه عشائرية أخرى، لكسب رضاها، وتأييدها. - قال إن محتوى "قانون المطبوعات والنشر" الحالي "ملزم بكامله، ولا خيار لدينا كحكومة ان نختار او نترك ما نشاء منه"، مشدداً على أنه يبقى لمنفذ القانون هامش من "حسن النية" في التطبيق.

دار الامبراطور محمد علي الطرابلسي للإيجار!
وهذا يذكرنا - ليس على سبيل النكتة ولكنها حقيقة تاريخية واقعة- بما كان يقوم به المكتوبجي (مراقب المطبوعات) العثماني. ففي العهد العثماني - كما هو الحال اليوم- فإن كلمتا "مَلك" و "مُلك" كانتا ممنوعتين.
وما زالت أخبار عزل الملوك، أو خلعهم، أو الثورة على الملكية، أو ذكر نقائصها، أو نشر فضائحها، أو بيان فسادها، في أي جهة من العالم ممنوعة إلى الآن، في صحافة بعض الدول العربية. كما أن أفراد المؤسسة الدينية، يتجنبون دائماً ذكر الآيات القرآنية، التي تشير إلى فساد الملوك للبلدان التي يحكمونها، ومنها:
﴿ إن الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ (النمل:34).
فيقال أن جريدة "المصباح" نشرت إعلاناً يقول:
"إن قطعة الأرض المشتملة على بيت مؤلف من أربع [أُوض] ومطبخ ودار مُلك محمد على الطرابلسي مُعدة للإيجار، وعلى الراغبين مخابرة صاحبها."
فاحتـج "المكتـوبجي"، وهو الجاهــل باللغــة العربيــة على كلمــة "مُلـك"، وأمـر
بتغييرها بكلمة "امبراطور" فقُرِئت:
"إن دار الامبراطور محمد علي الطرابلسي مُعدة للإيجار."

إجراءات فسح المطبوعات
ومن المعلوم أنه كان من غير المسموح - في العهد العثماني - نشر عدد الجريدة، إلا بعد موافقة "المكتوبجي" عليها والذي كان عادة لا يُحسن العربية. وكانت اجراءات فسح العدد والموافقة على طباعته، تجري على النحو التالي، كما هي اليوم بالضبط - في كثير من البلدان العربية - دون تغيير، أو تبديل:

1- تصل مسودة الجريدة إلى سراي الحكومة، فيأخذها العسكري، ويضعها على طاولة الوالي (رئيس الحكومة اليوم) الذي يأمر بعد حين، بتحويلها إلى أحد مساعدي قلم "المكتبوجي" (رقيب المطبوعات) الذي لا يجيد العربية عادة. وتتحول المسودة إلى أحد هؤلاء المساعدين، الذين لا يوجد لديهم قانون يطبقونه على الجريدة. ويقرأ المساعد المسودة، فإذا وجد عبارة، أو كلمة، لا ترضي "المكتوبجي" حذفها بالحبر الأسود. وأما العبارة التي فيها قولان، فيضع تحتها خطاً أحمر. وما أن ينتهي من قراءة مسودة الجريدة، إلا وتكون الصفحات ملأى بالخطوط السوداء، والخطوط الحمراء، وبعد أن ينتهي من المسودة، يكتب في ذيلها كلمة: "تُقدَّم". وتذهب المسودة إلى "المكتوبجي"، الذي يرى كثرة الخطوط السوداء والحمراء، دون أن يعرف سببها، حيث لا علم له بالعربية، فيأمر بحذف كل ما تحته خط أحمر، ثم يُمْهِر المسودة بعبارة: "كور لمشدر"؛ ومعناها "مُجاز". وتعود المسودة مرة ثانية إلى مساعد "المكتوبجي"، الذي يعمل على حذف كل ما يجب حذفه. ويحتفظ بنسخة من المسودة لديه، لكي يقارنها بالنسخة التي ستُطبع بعد ذلك، حتى لا يتم فيها تغيير، أو تبديل. وكثيراً ما تتم رشوة "المكتوبجي" ومساعديه، حتى يسرعوا في قراءة المسودات والاجازة بطبعها. ومن الملاحظ، أن كثيراً من هذه الاجراءات القمعية في اجازة طبع الكتب وتوزيعها، ما زالت سارية المفعول في بعض الدول العربية حتى الآن.( سليم سركيس، "غرائب المكتوبجي"، ص 26، 27).

الشاعر أحمد شوقي على الخط!
وكان الناس يسخرون من هذا كله، ومن "قلَّة عقل" القائمين على الرقابة، وعلى رأس هؤلاء الشعراء، الذين راحوا يهجون الرقباء و"المكتوبجية". وكان مما قاله الشاعر أحمد شوقي في "المكتوبجي" آنذاك:

لو دامَ للصحف ودامت له لم تنجُ منه الصحف المُنزَله
إذا رأى الباطل غالى بـــــه وإن بــــــدا الحــــــقُ لــــــه أبطلــــــه

ومع ازدياد حركـة التأليــف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونشــاط النشر على مستوى الصحافــة، والكتــب، وتقديراً من "الباب العالي"، لخطــورة الكتـاب على امتيازات "الباب العالي"، ومؤسسته الدينية، وولاته السياسية والمالية، وُضعت قوانين الرقابة المُقيدة للتأليف على الكتاب، كما سبق وُوضعت قوانين الرقابة المُقيدة للصحافة.
ففي بداية العام 1857 م ، وُضع "قانون طباعة الكتب"، الذي يجعل من طباعة الكتب، التي لا تلتزم بشروط "الباب العالي" الثقافية أمراً مستحيلاً، وذلك طبقاً للمادتين التاليتين من هذا القانون، وهما:

المادة الثانية: الذين يريدون أن يطبعوا كتباً في بعض محلات الممالك المحروسة الشاهانية، لا يمكنهم أن يطبعوا حرفاً واحداً، ما لم يُعطوا في أول الأمر خبراً إلى والي الإيالة . ثم يحصل الاستئذان عنها بمضبطة (لا زالت كلمة "مضبطة" العثمانية، سارية ومستعملة في الأردن)، تُعرض على مقام الصدارة العظمى العالي.

المادة الثالثة: كل نوع من الكتب أو الرسائل، التي تطبعها هذه المطابع، لا يمكن أن يُطبع أو يُنشر، ما لم يُنهَ عنه في أول الأمر، ويُستأذن عنه كذلك بمضبطة من طرف المجلس المذكور، تُعرض على مقام الصدارة العظمى العالي.

لا فرق بين عهدين!
فهل يرى القراء الأحرار، أي فرق بين ماضي "المكتوبجي" العثماني، وحاضر "المكتوبجي" الهاشمي؟
وهل يرى القراء الأحرار أي فرق بين ماضي الحكومة وحاضرها؟
وأن الحكومة هي العصا أو (المطرق) الذي يطرق به النظام جنبات الشعب تأديباً، وتهذيباً، كما يرى هو التأديب والتهذيب. وأن تغيير الحكومة بحكومة جديدة، لا سبب مبرراً له غير أن (ينتفع) الرئيس وطاقمه، بالنعمة، والبركة، ورواتب التقاعد المجزية إرضاء (للحامولة) وكسباً لسكوتها، ورضاها، وتأييدها!

السلام عليكم، عيد مبارك، وكل عام والقراء الأحرار بخير وسعادة.