كتَّاب إيلاف

الهويات المعمارية "المصبوبة"

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


تستهويني موضوعة "الهوية". تستهويني تمظهراتها في الناتج المعماري تحديدا. اتفحص بشغف تأثيراتها على صياغة العمل التصميمي، وارى باعثاً لتعدد المقاربات، اعزوه لتعدد الهويات. واحيانا ارصد تبعات "ادراك" الهوية الواحدة وما يتمخض عنها من حلول متنوعة، طبقا لتنوع، هذه المرة، ذلك الادراك او الفهم. فالهوية المعمارية مفهوم سجالي، وحتى.. اشكالي. وتتحدد اساليب التعاطي مع هذا المفهوم من النقطة التى تنظر منها اليه. اذ ثمة نقاط عديدة لرؤى متنوعة يتحملها هذا المفهوم؛ ومن هنا سجاليته، ومن هنا ايضا اشكاليته. بمعنى ليست من ثمة هوية معمارية جاهزة او محددة او نهائية ،او .."مصبوبة"، يمكن الركون لها وتوظيفها دائما وابدا في جميع تنويعات المنتج المعماري. والقول بغير ذلك هو "ذو صلة بالاسطورة، لا في العلم"!، بلغة عبد الله العروي. هذا، بالطبع، لا ينفي وجود "الهوية" المعمارية كمفهوم معرفي ومهني، كما لا ينكر حضور معماريين يعملون ضمن المقاربة الهوياتية الخاصة بهم في المشهد. فالهوية ومقاربتها التصميمية اعتبرت دوما مفاهيم متحركة متأثرة باشتراطات الزمان وخصوصية المكان. وبقدر ما يتضمن فهم الهوية المعمارية مسعى وراء منفعة الناس وتسهيل تلبية احتياجاتهم ووسيلة ناجعة لكشف الانتماءات، والمساهمة في تكريس ما يعرف بالتنوع الثقافي الخلاق وبالتالي اثراء الخطاب، بقدر ما يكون ذلك المفهوم محتفظا على قدرٍ كبير من المصداقية والموضوعية. اما اذا تم اقتصار "معنى" الهوية المعمارية على مفردات لمنظومة جاهزة، تكون حاضرة دوما تحت اليد لاسباغ المنجز المعماري بطابع المحلية تمثيلا لخصوصية المكان، فان هذا التصور يظل قاصراً لاستيعاب مفهوم الهوية المعمارية او الالمام في "ميكانيزمها" المعقد. فالاعتناء الفكري ينبغي ان ينصب على جوهر الهوية، لا على معناها، على طبيعتها الكامنة داخلها ،لا على صياغلتها الشكلية. ولعل ماركس كان مصيبا في اشارته من ان "المعنى" يأتي تاليا على طبيعة الاشياء. فليست الهوية، بالاخير، اضافة خارجية، بقدر ما هي ناتج لحراك جوهر العملية التصميمية. انها في هذا المعنى، ليست نافلة على العملية التصميمية، وانما تنبع عضوياً منها. وهي تسعى للانفتاح وليس الى الانغلاق، للفائدة وليس ضدها. ومعلوم ان مفهوم الفائدة المعماري، هو مفهوم واسع يتضمن بالطبع النواحي الجمالية والاعتبارية الرمزية والوظيفية.
لا يمكن فهم الهوية (ونحن هنا، نقصد بالطبع الهوية المعمارية)، فهماً آحادياً. والاهم لا يتعين التعاطي مع الهوية كمعطى يمنح "مرة واحدة والى الابد، وبشكل يعلو على التاريخ" كما يكتب صلاح سالم (الحياة في 16/12/2008)؛ ذلك لان الهوية مثلما هي متعددة، فانها ايضاً، محكومة بحتمية سياق تعاقب الصيرورات المستمر، وهي بهذا المعنى تستمد تعدديتها وتشكيلات صيرورتها، من جهد المعماريين الدائم، هم الذين يرصدون في نتاجهم متغيرات العصور، تلك المتغيرات التى يتمخض عنها اساليب تقنية متقدمة، وذائقة جمالية متحولة. لكن ما يضفي على الهوية المعمارية مصداقيتها والاحساس بالانتماء اليها، هو ما توفره في النتيجة من فائدة ومتعة الى المستخدم او الى المتلقي على حدٍ سواء. وهي بهذا تسهم في تقدم شعوبها والامم الاخرى مؤدية قسطها في اثراء المنجز المعماري العالمي وتكريس تعدديته. ومعيار المنفعة المضاف اليه المتعة، هو ، كما نرى، المعيار الموضوعي الذي يضفي على الهوية، اية هوية، حيويتها ويحدد قيمتها. وبالنسبة الى الهوية المعمارية، فانه يشكل المبرر الرئيس، وقد يكون المسوغ الوحيد لحضورها (اي حضور الهوية) في المشهد. بخلاف ذلك فان مفهوم الهوية، او بالاحرى "معناها" المتجمد و"المصبوب" يضحى اداة للنكوص بدلا من التقدم. مثلما نراه اليوم رائجاً عند فئات اجتماعية عديدة، تسعى وراء توظيف ذلك المعنى من اجل الدفع نحو التخلي عن افكار الاصلاح والتحديث، بل ومحاربتهما، والجهر للدعوة الى تبني افكار ماضوية بحجة الدفاع عن الهوية و الحرص على استدعائها لتكون الطرف المهيمن، إن لم يكن الوحيد الصائغ للتكوينات التصميمية.
واذ اظهرنا جانباً واحداً مرتبطاً بمعنى الهوية المعمارية، فان ذلك لا يعني البتة بان هذا الجانب بمقدوره ان يغطي او يمثل جوهر الهوية اياها، ذلك لان تلك الهوية قابلة لقراءات متنوعة، احداها تلك التى اشرنا اليها تواً ، وهي الشائعة عندنا في الخطاب، هي المتولدة نتيجة قراءة معينة للهوية المعمارية، تجعل من اسلوب تمظهراتها الشكلية ذات المفردات التصميمية المحددة، بمثابة "المعنى" المتكامل والمطلق لها، المعنى الذي يرفض الاضافة او المساءلة، ناهيك عن محاولة التغيير!. وفي كل الاحوال، علينا ان نعترف ان موضوع الهوية المعمارية، هو موضوع شائك وملتبس. مثله مثل مصطلح "الهوية" بمفهومها المعرفي العام، الذي برز اخيرا في الخطاب، مثيرا قدرا كبيرا من الابهام والغموض. ولسنا هنا، في صدد تعقب المفاهيم العديدة لهذا المصطلح؛ لكن الاشارة السريعة الدالة الى مصدره، تنبئ لوحدها الى كم هائل من التعقيد. ليست اقلها هي عدم تطابق المعنى العربي القاموسي، مع المعنى المتداول في اللغات الآخرى (الغربية تحديداً)، والتى منها تمت ترجمة مصطلح الهوية. فلفظة "الهوية" المقابلة لكلمةIdentity ، لا يتطابقان سيميولوجيا. ففي حين تدل الكلمة الاجنبية الاخيرة عن التطابق؛ (يميل صاحب المورد الى ترجمتها بالمعاني التالية : تماثل، تطابق، وحدة)، فان معناها العربي يشير الى اللاتماثل، الى نوع من التفرد، والى التمايز، وبالطبع الى الاختلاف. ويذهب البعض من ان الهوية مشتقة من الضمير "هو" مع زيادة ياء النسبة وتاء المصدرية (عبد الرحيم خميس)؛ في حين يرى آخرون انها مشتقة من "الهوى" الدال على الانتماء (كامل داود). وبهذه الدلالة فان الهوية بمعناها المتداول في خطابنا الآني الشائع لدى اوساط عديدة، هي "ماهية" الشخص او الجماعة، والوعي بحقيقتهما الخاصة، لكن باضافة اليهما قدراً كبيراً من الاعتداد بالتميز والفرادة، وحتى التعالي عن الاخر، وصولا الى تجاهله ومن ثم رفضه واقصائه. لكن المفهوم المعاصر للهوية، كما يرد في ادبيات الفلسفة وعلوم الاجتماع الحديثة، هو نقيض تلك الدلالات، انه مفهوم يسعى وراء الاعتراف بالآخر وفهمه، ويطمح الى ايجاد علاقات ووشائج معه. بل ويذهب بعض الكتاب الى الاقرار بان مسوغات وجود الهوية ذاتها مقترن بالآخروية. وفي هذا الصدد يشير ثامر عباس، من ان" مبدأ الهوية يقوم على اساس الوعى بالآخر. ولولا حصول مثل هذا الوعي- ليس على مستوى الفرد فقط وانما على مستوى الجماعة كشرط اساسي - لانتفت الحاجة/ الضرورة لوجود الهوية اصلا.ولهذا فقد اشار استاذ الاثنولوجيا في جامعة السوربون "دنيس كوش" الى انه ( ليست هناك هوية في ذاتها ولا حتى لذاتها وحسب..الهوية هي دوما علاقة بالآخر ، بتعبير آخر، الهوية والآخروية متصلتان، الواحدة بالآخرى، وتجمعهما علاقة جدلية. ان التماهي يتوازى مع التمايز) (الصباح البغدادية 29 نوفمبر 2009). واذ توحي لفظة Identity بتجردها من تكبيلات الزمن، يشي مدلول الكلمة العربية بالاحساس في الماضي، وغرسها فيه، وتدين لتشكيلاتها الكاملة والجاهزة الى زمن تاريخي سحيق.
ومرة اخرى، نود الاشارة هنا، باننا لا نود الاسترسال كثيراً في تقصي كنه هذا الموضوع المهم والمعقد ومتعدد المعاني، ليس لانه كذلك، او ليس لانه غير مجدي معرفيا او مهنيا؛ وانما المجال المعطى لهدف هذا المقال، لا يسع الى مثل تلك الاسترسالات. وسوف نأخذ بمقولة "ايهاب حسن" حول هذا الموضوع، مقريّن معه، بان انعزال الآنا عن الآخر "ربما كان ضروريا من قبل، لأجل البقاء، لكننا لا نحتاجه الآن كثيرا، نحتاج لجذب اشكال مختلفة في سياقنا التفاعلي، حيث يعتمد كل شئ على الشئ الآخر، وان نقبل عوالم الانترنت، وعصر المحلي/ العالمي هذا التعبير الجديد غير المقبول يمكن ان يستعمل لمرة واحدة في عصر ما بعد الحداثة". ويضيف المفكر الامريكي (ذو الاصول المصرية)، وهو كما معروف، احد منظري ما بعد الحداثة المهميين، "لا اعتقد ان الانقسام بين الآنا والآخر، نحن وهم سيختفي قريباً، خاصة اذا استمرت تناف-قضات كل من الثروة والقوة. وافكر ان نستبدل الحديث عن جانب الانقسام، بامكانية ان نصنع منه ما يتجاوزه في حياتنا، ويتطلب هذا صدقاً وشجاعة، وقوة في الادراك لانفسنا، وليس فقط للآخرين، كما نحتاج لزرع الاحساس بالحوارية، فيما يتعلق بالثقافات المتنوعة وكذلك الطبيعة والكون الكامل نفسه، كما نحتاج التنوع في انماط الاعلاء لاجل البؤس الارضي، اذ يبطل الاندماج في المجموعات الشمولية القائمة على استبعاد المجموعات البشرية الاخرى." (مجلة الكلمة، عدد10 اكتوبر،2007).
في اختصار، اذاً، تتشكل الهوية المعمارية بتأثير عوامل عديدة مختلفة ومتعددة، لكن جميع تلك العوامل تنقسم الى فئتين، عوامل دائمية واخرى مؤقتة، او "ثابتة ومتحولة"، اذا استعرنا المعجم "الادونيسي". ويدخل في الثابتة: طبيعة الظروف المناخية والجغرافية، بالاضافة الى نوعية المواد الانشائية، المتوفرة بسبب وجود تلك الظروف وديمومتها. في حين تشكل العوامل المتحولة نوعية الحالة الاقتصادية وطبيعة المستوى الثقافي، وخصوصية التقدم التقني والمعايير الجمالية السائدة ووجود المعماريين المتمرسين الاكفاء وغير ذلك من العوامل، اي جميع البنى التحتية والفوقية بحسب الاطروحة الماركسية. وبهذا فان مفهوم الهوية المعمارية يظل يتشكل ويتمظهر في صيرورات متنوعة ومستمرة، متأثراً بفعل العوامل المتغيرة، وحتى بفعل متغيرات اعادة قراءة العوامل الثابتة عينها، ضمن معطيات تحولات الزمن.
يكرس مفهوم الهوية المعمارية مصداقيته وحضوره في الخطاب، من خلاصة تكثيف تأثيراته على الحلول المعمارية، منتجا تكوينات محددة، تسم المنجز المعماري بسمات خاصة، ويمكن بها الانطلاق الى مستويات متقدمة، بحيث تثري المنجز نفسه، مثلما تغني منجز الثقافة الانسانية في تمظهراتها المعمارية. بمعنى آخر، ينظر الى الهوية المعمارية بمثابة رافعة، ترتقي بالممارسة المعمارية نحو آفاق معرفية جديدة قادرة لتأسيس مقاربات معمارية متقدمة، تتوق الى التعبير عن الخصوصية الوطنية او القومية، مثلما تنزع الى ائراء المنجز الانساني، بما يسميه " جابر عصفور" lt; التنوع الثقافي الخلاقgt;. وعندما تفقد الهوية المعمارية شرطها المفيد والممتع ، بمعنى الاضافة المسكونة بالتغيير، فان ذلك يعتبرتتنازلاً غير مبرر عن دورها التنويري في الخطاب، إذ تضحى عند ذاك، تسويغاً مفاهيميا للارتداد، يمكن ان يسحب الممارسة التصميمية نحو النكوص باتجاه التخلف. تطمح الهوية المعمارية المحلية الى قبول قيمها وعناصرها لدى الآخرين، كما إن تركيبة مخزون قيمها وعناصرها، تسعى الى التفاعل النشط مع هويات الآخرين، جاعلةً من عملية التأويل والتفسير فرصة متاحة لاثراء الهوية المعمارية المحلية وزيادة فاعليتها وتعميق دورها النفعي / الجمالي.

معمار وأكاديمي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف