قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&تحديات التعليم في وطننا العربي كبيرة ومتشعبة، وأهمها فلسفتنا التعليمية التي تعتمد على جمع المعلومة وتلقينها، وتجنب المسائلة، وتوجيه التفكير التقليدي، وتربية العمل على التواكل لا الإتقان، وسيطرة تعليم العلوم الطبيعية على العلوم الروحية. وليسمح لي عزيزي القارئ لأقدم شخصية لنتعرف من خلالها على قوة التعليم في خلق أجيال الحياة لا أجيال الموت. ولدت الكاتبة هيلين كيلر عام 1880، وقد أصيبت في الشهر التاسع عشر من عمرها بحمى شديدة أدت لفقدانها البصر والسمع والتكلم. وتعرفت في السنة السادسة من عمرها على ان سوليفان التي علمتها أبجدية اللمس. وقد تحدت& كيلر عاهتها وأكملت دراستها الجامعية بتفوق. وقد نشرت قصة حياتها عام 1902. فما هي الظروف التي تحول الأعمى والأصم، لبصير ومفكر كالآنسة كلير؟ وما هي فلسفة التربية المجتمعية والتعليم المدرسي التي تحول كامل السمع والبصر، ليفجر نفسه ليقتل أبناء شعبه ويحطم اقتصاد بلده؟التقت الآنسة كيلر بالفيلسوف الياباني شونسوكي تسورومي في نهاية الثلاثينيات، حينما كان طالبا بجامعة هارفارد فنصحته بقولها: "لقد تعلمت الكثير في الجامعة، ولكن بعدما تخرجت، كان علي أن أتناسى ما تعلمته وأبدأ من جديد." حاول تسورومي أن يتفهم معنى كلمة التناسي، فشرح يقول: "تصورت بأنني تعلمت حياكة جاكتة الصوف في الجامعة، وحينما تخرجت فتقت هذه الحياكة من جديد لخيوط صوفية، ثم قمت بحياكتها من جديد على قياس جسمي." ووضح في حواره بأن الآنسة كيلر تناست المعلومات الجامعية الملقنة وتفهمتها بطريقة جديدة، لتستفيد منها في دراسة تحديات مجتمعها، وإيجاد الطرق المناسبة للتعامل معها. ولو تعمقنا في حوار الفيلسوف لفهمنا بأنه لا يؤمن بتلقين المعلومة، بل بالتدريب للبحث عنها والاستفادة منها في التعامل مع التحديات الحياتية، كما لا يعتقد بأن هناك مشاكل مرتبطة بحقيقة معينة ثابتة، بل هناك تحديات تتغير مع الزمن والظرف المرافق. كما ليس هناك حلول ثابتة، بل هناك طرق لمحاولة التعامل مع التحديات حسب الظروف وزمانها.وأحد تحديات تعليمنا هو تفكيرنا الأفلاطوني باعتقادنا بأن هناك حقيقة واحدة نحاول الوصول إليها، وإذا اكتشفنا هذه الحقيقة تبقى كل الأفكار الأخرى خاطئة وبعيدة عن الحقيقة، وبأن مشاكلنا لها حلول متحجرة، وقد نحتاج للرجوع للتاريخ لإيجاد بعض هذه الحلول وبدون المسائلة. وهنا تختلف الفلسفة اليابانية المأخوذة من الفلسفة الصينية عن فلسفتنا العربية الأفلاطونية، فهي لا تؤمن بأن هناك حقيقة ثابتة بل أن المعلومات في تطور دائم، كما أن التاريخ يحتاج لدراسة متسائلة للاستفادة منه وتجنب أخطاءه. وهذه الفلسفة مهمة جدا في التناغم المجتمعي، فحينما يؤمن الجميع بأن لا أحد منا يملك الحقيقة، ولكل حرية الرأي بدون أن يفرضه على الآخرين، بل ويحترم اختلاف الآخرين ويستفيد منه، ينتشر الاحترام والوئام والتناغم المجتمعي، وتتطور فلسفة العمل الفريق الواحد، وتزداد إنتاجية المجتمع ويتطور اقتصاده. ويرجع البعض تخلف تفكيرنا لتشبثنا الأبدي بما نعتقد بأنه الحقيقة، وكل من يخالفنا فهو حاقد أو منافق أو رجعي. وبذلك نوقف الحوار المنتج، مما يؤدي للتخوف المجتمعي في التعبير عن الأفكار، وتنعدم الحوارات الفكرية الديمقراطية المنتجة، وتتخلف ثقافة التطور الفكري، وتتحجر العقول، ويزداد الخلاف، لتنتهي بصراعات فكرية مفلسة وانعدام الإبداع، وانتشار الغيبة والنفاق. فالإبداع يحتاج لبيئة صالحة، ينعدم فيها الاعتقاد بأن الفكرة المعينة وأحيانا التاريخية هي الحقيقة المطلقة، بل بأن جميع الأفكار يمكن أن تساءل وتناقش وتطور وبحرية. فالتحاور الفكري ينير العقول ويطور الأفكار، ويبرز الأفكار المبدعة والمتناغمة، ويؤدي للاكتشافات والاختراعات جديدة.&والتحدي الآخر في فلسفة تعليمنا هو تعليم إيجاد حل متحجر للمشكلة، وليس دراسة التعامل مع تحدياتها. فحينما نعتقد بأن هناك مشكلة محددة وهناك طريقة وحيده لحلها، ستتحجر عقولنا نحو طريقة واحدة جامدة لحل ثابت ومطلق. ومن الممكن أن لا يكون هذا الحل واقعي ولا يمكن تحقيقه، فنستمر في الخلاف حوله وتضيع السنين وتتعقد المشكلة وتنعدم الحلول. وهنا يمكن أن نشبه ذلك بسائق سيارة يواجه صخرة كبيرة في وسط الشارع ويعتقد بأن هناك حل وحيد، وهو بأن يتواكل على الله ويسوق بسرعة فائقة، ويصطدم بالصخرة الكبيرة فقد يستطيع أن يحركها، لاعتقاده بأن الخالق، جل شأنه، سيغير جميع القوانين الفيزيائية لتتماشى مع تواكله. وطبعا لن تتحرك الصخرة، ولكن ستتحطم سيارته ويصاب بجروح بالغة، وقد يستمر في تكرار المحاولة. ومع الأسف الكبير بأن تاريخنا العربي مليء بمثل هذه الأمثلة التاريخية، التي أدخلتنا في مجابهات وحروب أدت لما نحن فيه اليوم. فقد نحتاج لتطوير فن دراسة الاحتمالات، وتعلم اكتشاف طرق مبدعة للتعامل معها. ويلزم ذلك تطوير فلسفة تعليمية تنير العقول بالتساؤل المستمر، وتدريبها على التعامل مع التحديات، وذلك بعرض المعضلة، وتشجيع الطلبة على الحوار لمعرفة تشابكاتها وتحدياتها، وتمرينهم على طرق البحث عن المعلومة المساعدة في أيجاد الطرق للتعامل معها.&ولنعرض بعض الأمثلة التاريخية في التعامل مع التحديات، فلنتذكر بأن الحرب الباردة استمرت لعقود طويلة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بسبب تحجر العقول في خلاف رأسمالي شيوعي. وحينما زار الرئيس السوفيتي غورباتشوف لفرنسا، وأستعد لتأمل الديمقراطية اللبرالية بعقل متفتح، والتعرف على نتائجها، ولاحظ ما يتمتع به الشعب الفرنسي من حرية وتطور اجتماعي وغنى اقتصادي، أكتشف بأن دكتاتورية البوليتاريا عقيمة. وحينما أستلم الرئيس دن زيو بنج القيادة في الصين، وأكتشف تحديات بلاده الاجتماعية والاقتصادية وتخلفها التكنولوجي، وبداء يقارن تخلف الصين بغنى الغرب، فقال مقولته: "ليس المهم أن يكون القط أسود أو أبيض، بل المهم أن يصطاد الفئران." ويعني بذلك أنه ليس من المهم أن يكون النظام رأسمالي أو اشتراكي، بل المهم أن يطور الاقتصاد ويزيل الفقر والتخلف، وبذلك توجهت الصين لاقتصاديات الألفية الثالثة.&
ولنطرح عزيزي القارئ معضلة أخرى في تعليمنا وهو التواكل. فيؤكد الحديث الشريف بأن علينا أن نعقل ونتوكل، ومع الأسف الشديد تحولت ثقافتنا العملية للتواكل لا التوكل. فلم نعد نهتم بالعمل الجاد المتقن، ولا نستفيد من الوقت الذي ان لم نقطعه قطعنا. فهل خلق الخالق جل شأنه هذا الكون بقوانين فيزيائية دقيقة ومتقنة، أم ترك هذه القوانين فوضوية تتغير في كل لحظة حسب تواكلنا وصلواتنا؟ وهل الغاية من صلواتنا تطهير النفوس وتدريبها على القيم والأخلاقيات، أم لتحقيق جشعنا المادي وبناء قصور في الجنة؟ ألم يكرر الحديث الشريف مرارا أهمية العمل وقدسية إتقانه وأعتبره خير العبادات؟ ألم يؤكد الدين بأن نعمل لدنيانا كأننا سنعيش أبدا، ونعمل لأخرتنا كأننا سنموت غدا؟
ومن تحدياتنا تعليمنا المستقبلية خلق التوازن بين العلوم لطبيعية والروحية. فتطوير اقتصادنا المستقبلي سيحتاج لتعليم متقدم للعلوم الطبيعية كالفيزياء والرياضيات والكيمياء، ولكن هل سيكفي ذلك؟ أم سنحتاج أيضا لتطوير العلوم الروحية التي تعلم الإنسان السلوك السوي، للعمل كفريق متناغم ومنتج، وليتعامل مع مواطنيه ووطنه وموارده والطبيعية بحكمة واتزان؟ وقد عبر المهندس الياباني، كوزو ايناموري، مؤسس شركة كيوسيرا عن ذلك فقال: "الفلسفة التي أؤمن بها هي أنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب أن نخلق هذا التوازن في الإنسان بين ذكاءه الذهني والعاطفي وسيطرة الإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة الروح والعاطفة والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة... فمع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية لنفس المستوى الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة، لنرفع من قدر أذهاننا ونشرفها." وليسمح لي القارئ العزيز بالتوقف وبالتساؤل، هل حان الوقت لفلسفة تعليمة تهيئ أجيالنا المستقبلية لتحديات الألفية الثالثة؟ ولنا لقاء.&