كتَّاب إيلاف

عن تراث الرقة ومثقفيها المبدعين

الفنانة التشكيلية أمل عطار تنظر إلى إحدى لوحاتها في معرض فني أقيم بعيد طرد داعش من الرقة، في بدايات العام 2019
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ماذا عن تراث مدينة الرَّقة وتاريخها وثقافة أهلها وما آل إليه، وكل ما يمكن أن يقال عنها بعد الخراب والدمار الذي لحق بها، حيث صارت غنيمة لكل من استطاع أن يسيطر على أهلها البسطاء ونهبهم واستغلالهم، وأوّل من تمكّن من ذلك أبناؤها أنفسهم الذين كانوا لها بالمرصاد!، وبعد كل هذه السجالات الطاحنة، التي شهدتها المدينة من خراب ودمار وارتماء الكثيرين من أبنائها في أحضان ما يسمى بالدولة الإسلامية التي شهدت صراعات أكثر دمويةً، وهذا ما كان ينتظرها، قبل تحرير الرَّقة من عصابات "داعش" بعد أن شهدت شوارع المدينة ساحة صراع مستميتة، وكانت النتيجة تدمير المدينة على بكرة أبيها، وقتل النخبة من أبنائها، وهذا ما كان يعوّل عليه الكثيرون ممن يقرأون الواقع الذي آل إليه، والحال الميؤوس منه الذي عاشه المقيمون فيها خلال السنوات الماضية من عمر الثورة التي لم تجرَّ سوى ذيول الخيبة، ووابل الخراب والدمار، وألهَبت &- بالتالي - مشاعر الناس في كل مكان، وأسهمت في قتلهم وتشريدهم، ما دفع الغالبية منهم إلى اللجوء إلى البلاد الأوروبية وغيرها من أجل العيش بكرامة وحفظ ماء الوجه.

أظن أنَّ حال التراث في مدينة الرَّقة أصبح في طريقه إلى الزوال، إذا لم يكن قد تناساه أهلها بالفعل، وهم في الأصل أوّل من اهتم به، وحافظوا عليه وصانوه من الاندثار طوال السنوات الماضية التي سبقت عمر الثورة بسنوات. وبالرغم من بساطته، حمل الكثير من ألوان الشهية المشبعة بالتراث، وما يعنيه في نفوس أهالي الرقّة من مكانة ورمزية، بحيث لا ينفك ابن المدينة، وغيرها من المدن السورية، في وقتها، أيّام كانت الرقة، "على سروج خيلها"، لها وهجها واحتفالاتها ومكانتها ودورها المتفرّد على الساحة الثقافية السورية، واحتفاؤها باحتضانها للكثير من ألوان الفنون والندوات والمهرجانات والاحتفالات والمعارض التشكيلية، والأمسيات الأدبية والشعرية، والتغنّي بالأغنية الفراتية المبهجة، وإحياء الشعر الشعبي والتمجيد به، ومجمل كل ذلك كان بمثابة إشعاع حضاري تتصف فيه مدينة الأديب الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي الذي تعود شهرة الرقة في الأصل، إلى ما قدمه هذا الأديب النجيب وما تركه لأبنائها. فقد كان نجماً مبرّزاً، ليس على مستوى سورية فحسب، وإنما سطع شمسه في كل البلاد العربية، كرائد للقصة القصيرة، وروائي كبير، وشاعر وكاتب مقالة متجدّد، وكان تُحفة مدينة درّة الفرات التي أنجبته، فكان نبراساً من حق أبنائها اليوم وحدهم الاحتفاء به، والتمجيد بعطاءاته وما قدمه.

واليوم، وبعد أن تحوّلت الرقة في يوم ما إلى ولاية تنضوي تحت حكم الدولة الإسلامية، نجد أنَّ ذاك البريق تحوّل إلى مجرد خواطر عابرة في تاريخها الموغل في القدم.

وإذا ما عدنا إلى ما كانت عليه في سابق عهدها، فإنها تراجعت كليةً عن احتفالياتها، وبما يعود عليها كل ذلك بمكانتها، وسحرها، كمدينة فراتية تعلّل واقعها الحالي بالآمال والتمني، إلى تحوّل جذري لم يعد بالإمكان أن تخطو خطوات جديدة بالاتجاه الذي يرغب فيه أبناؤها الذين تراهم يحاولون تجديد كل ما من شأنه أن ينذر بالتسوية التي يمكن معها أن تقضي على أي تناحر يخفّف إلى حدٍ ما من وطأة المصاب الذي نقش في قلوب أهلها الآلام والضغينة!

وفي هذه العجالة، نقولها:

إنَّ الرَّقة، كمدينة يسكنها مئات الآلاف من الناس، اليوم، وبالرغم من نزوح الآلاف من أهلها الضعفاء، البسطاء الطيبون في تعاملهم مع كل من عرفهم، أو حتى لمجرد أن التقى أحد أبنائها، فيظل أكثر ما يغلب على طبائع أهلها المودة، وكرم الضيافة، بالرغم من فقر ذات اليد، وهذا طبع غلب التطبّع من الصعب أن يتغلبوا عليه أو يتركونه، لأنه تاريخ لا يمكن بحال أن يتناسوه، أو يقفون بوجهه دون أدنى علاج للواقع.

إلى أبناء الرقّة، وأهلها الذين يغسلون الذنوب بالصبر والتأنّي، والتغلّب على كل ما هو مؤسي في حياتهم اليوم، إلى لون من ألوان المحبّة التي يُفاخرون بها، وهم في واقع الحال أهل لهذا.

وإلى أهلنا، هناك، نقولها: بالرغم من قسوة الواقع الذي تعيشونه، فإنكم تظلون أهل حُماة، ونخوة وأصالة، وبكم سنظل نرتقب طور الحياة التي تزداد قسوةً عليكم، وأنتم تتحملون كل ما من شأنه أن يحيا في نهاية المطاف، أصالتكم التي نتغنى بها، وعربون وفاء إلى جدائل أمهاتنا وأخواتنا، وكل من نعرف.. فأنتم تحمّلتم، وعلى مضض، وبكل حذر، الكثير من صنوف التأطير التي أصابت أهلها في الصميم!

فالدولة الإسلامية، استصدرت الكثير من القرارات التي من شأنها أن تمكنت من تحجيم الدور الذي ينتظر ابن الرقة، ما جعله يعيش في طابع مدني جديد، مأسوف عليه، يشوبه الحذر والرعب والخوف، لم يألفه من ذي قبل، وبالرغم من ذلك تحمّل الكثير من تبعات القرارات القاسية المذلّة التي بادرت إلى استصدارها تباعاً، ونفّذت بحق أهلها، وما تركت هذه القرارات من عناوين سخط لدى عامّة الناس، لم ترحم أحداً من نتائجها السلبية، ومن عثراتها القاتلة، فكانت مثال السكين التي تقطع رقاب كل من يحاول أن يُخالف فقرة أو بنداً من هذه القرارات الصادرة، أو يلوذ بعيداً تحسباً لنتائجها.

إنّها درّة الفرات، كما يُحب الجميع أن يطلقوا عليها، وكل مَعلم فيها هو علامة على مرحلة من التاريخ، نبحر منها إلى الأسفار الأولى في تاريخ البشرية، للصوّانيات الحجرية التي ابتكرها الإنسان. أدواته للحياة وللقرية الأولى التي أسسها في "تل المريبط" في العصور الحجرية فسبقت غيرها، وإلى البوابة التي ولج منها أبو هريرة، وتل أسود نحو البداوة والرعي والزراعة، لنصل إلى "توتول" الشاهد على نهضة العصور التاريخية القديمة بعماراتها واقتصادها وقوّتها وشريك ممالك إيبلا وماري وإيمار، وإلى سورا الحصن الحثّي والأشوري، والرّصافة الأولى وطريق الحرير والصفحات الطويلة من الكرّ والفرّ بين ممالك العصور الوسطى التي طبعت حكاياتها على الألواح والرقم المكتشفة، ويصطفي الفرات من قصص الغابرين المآثر في العصور الإسلامية للرقّة، فتفتح وتحتضن صِفّين وشهداءَها، وترتكز عليها جيوش الفتح نحو أرمينيا، وتقترن رصافتها باسم هشام بن عبد الملك الذي يبعث فيها الحياة الزاهرة، ويرتقي بها العباسيون إلى ما هو مميّز، فيهبها المنصور "الرافقة" حاضرة تندر بطابعها المعماري.

الرقّة ملتقى للقوافل العابرة والثقافات الوافدة، وقبائل البدو التي تبحث عن مستقر من الأرض فيه زرع وماء، وكانت مقراً للحاميات المرابطة، وزاداً للجيوش الخارجة للفتح، كما أنها كانت أيضاً منفى لكل أصحاب الأصوات العالية الذين كانوا يجأرون بالرفض في وجه كل أنواع السلطات، ولاة أو عثمانيين أو فرنسيين، ولعلَّ هذا هو ما ملأ تاريخها بكل تلك الحيوية وجعل الكثير من سطوره حافلةً بالتفاصيل.

الخوف والرعب سيطرا تماماً على قلوب الناس، وعاشت أهل المدينة حالة من الحزن والكآبة، والمحال التجارية تستعرض واقع الحياة اليومي المهمّش، مع ارتفاع غير مسبوق لأسعار المواد، وترافق ذلك مع تسابق الناس إلى اللجوء والهروب تارةً، والاختفاء تارةً أخرى من جور "داعش"، الذي حوّل المدينة إلى ألوان سوداوية بغيضة، وأحكم قبضته على العباد باستصدار أحكام شرعية مبالغ فيها.

الرقّة المدينة التي نعرفها ويعرفها معنا كثيرون ممن سبق لهم أن وطئوا أرضها، وعن قرب تعرّف إلى أهلها الأصليين الذين فجّروا فيها بوادر الحب والصدق والأمان والبساطة. هم هكذا. طبعهم طُبع على خدود كل من زارها، واتصافهم بالكثير من الوجدانيات، وصنوف من البساطة التي يتحلون بها.

الرّقة اليوم عنوان فقط. تاريخ بلا اسم، صاغها الأغراب بأسماء شتى، ودنّسها ثلّة من الأشرار، فأعادوها إلى جذورها التي نعتزّ بها. تحوّلت إلى كتلة من الحجارة، ودمرت عن بكرة أبيها، وتناولها القريب قبل الغريب وكأن الثأر زرعه في أفنائها، وترامى الحجر، واعتلته ألوان من القماش وأعلام الغش المزخرفة بالدم المراق على جبينها!

إنها الرَّقة المدينة التي كانت تضجّ بالحياة، وصيغت بحلّة ولا أجمل.. ومن يصدق، بالأحرى، أنَّ هذه الصورة هي من خصوصيات هذه المدينة المنيرة التي وصلت إلى مرحلة بناء متكاملة، زينتها المحال والشوارع العريضة الفسيحة بعطر الفرات، كما زينتها باصات النقل الداخلي التي دخلتها حديثاً، وأضفت إلى جمالها جمالاً.. وحدهم الحاقدون من حوّلوا هذه الصور التي تقفز أمامنا الآن إلى صور كئيبة مشحونة بالأسى!

الرّقة، عروسنا التي تفرض محبتها وعشقها في عيون وقلوب أهلها الذين ظلوا يتهامسون خفية بالألق الذي حلّ بها، والراحة التي يعيشها أبناؤها في ظل نهرها الخالد، ها هي اليوم، جريحة تنزف دماً جرّاء الإعصار الهادر، والدمار المخجل الذي أحالها إلى صور مأساوية لم تعد العين تتقبل ما حدث لها، وهي الأم الرؤوم التي حاكت الإنسان القديم الذي استوطنها وعاش معها أياماً لا تنسى.

إنها الرقّة المدينة الجميلة العريقة الشامخة بتضحيات أبنائها وبزهو شبابها وبساطتهم وطيبتهم.

اليوم، أين الرّقة؟ أين أهلها؟

لقد تناثروا في بقاع مختلفة من العالم، وداستهم ــ وللأسف ـ أحذية مدنَّسة بالجيف، وحرموهم من العودة إليها بذرائع شتى حتى يتسنى لهم تفجيرها من جديد، والتمكّن من سرقة محتويات بيوتهم التي صارت مشرّعة للمحتل المغتصب الذي نادى بتحريرها!

الرقَّة، المدينة المسالمة، المزروعة بنبل أهلها وشهامتهم، وقدرهم الذي عاشوه، وها هم اليوم يأملون شوقاً في العودة إليها، وإلى طهارة ترابها الذي دنّسه الأوغاد. الحاقدون الذين يتغنّون بالتحرير الباطل، والعفونة التي أجهضت حياتهم، وها هم يعودون إلى بعض الأماكن ملتمسين العيش بأمان، بالرغم من ضيق ذات اليد، وبيوتهم المدمّرة المخرَّبة، فضلاً عن مسح الكثير منها عن وجه الأرض! فأيّ ذنب اقترفوه، وأي وزر نأسف على احتوائه؟

إليكم يا أهلنا، ويا أبطالنا الذين تحمّلتم قساوة أيام العيش الذليل في مخيمات اللجوء المبهمة وليالي التهجير المتعبة الحاقدة، وأنتم من كنتم حاملين لكثير من ألوان الوفاء، والمشهود لكم بالطيبة والكرم، فقد نال منكم القدر، وأتعبكم وأذلكم بدون عنوان، فأيّ مبرّر هذا الذي تحملتم ذلّه وإهانته.

فلتطمئن قلوبكم الصافية، سليلة الوفاء والنذر الحسن على أنكم ما تزالون تتصفون بصفات طالما كانت رفعة رأس لنا، نحن أبناؤك الذين انسلخنا عنك مجبرين، وأقدم إخوانك الأذلّاء على نهشك، ولم يكفهم هذا، بل أسهموا في لعناتهم الخبيثة المبيّتة مسبقاً بتهجير أهلها ونسف بيوتهم، وتطبيق القرارات الشرعية الباهتة، التي تركت انطباعاً يَندى له الجبين، وتعليمات والتعليمات المجحفة نالت من كرامتهم، ونثرت في وجوههم التراب، واعتبارهم كفّاراً لا علاقة لهم بالإسلام، وهم العارفون أكثر منهم بصفاته وتسمياته.

وبعد هذا الاستعراض الذي نوهنا من خلاله على واقع مدينة لها مكانتها وتاريخها وثقافتها الخاصة بها، وتعدد المواهب الأدبية والفنية فيها، واحتضانها للكثير من الندوات الدولية والمهرجانات، وأهمها: الندوة الدولية لتاريخ الرقّة التي احتضنتها في عام 1981، وكذلك مهرجان البادية الأول الذي تعثّر في يومه الأول، بسبب أحوال الطقس السيئة، والأمطار والعواصف الغبارية التي رافقته قبل البدء به في أرض مدينة الرّصافة، ولم تسنح للحضور الجماهيري الغفير متابعته، ما دعا الأغلبية منهم إلى الفرار بسياراتهم حفاظاً على أرواحهم من الحال التي خلّفتها الرياح العاتية والأمطار الغزيرة التي صاحبته، ما دفع الحاضرين إلى الإسراع في الهرب إلى منازلهم، وهذا ما أفسد على الجماهير الغفيرة مغادرة ساحة الاحتفال بالمهرجان الذي لم يكتمل مع هبوب العواصف الترابية، ولا ننسى المهرجانات، ومنها مهرجان العجيلي للرواية، الذي ما زال يحتفى به في الرقّة، وكذلك مهرجان الرقّة المسرحي وغير ذلك من المهرجانات والمشاركات...

كثير من الشباب المبدعين أثبتوا مكانتهم على مستوى الوطن الكبير، ومنهم من نال جوائز إبداعية قيمة، وحفروا أسماءهم بأحرف من نور.

كثيرة هي الوجوه التي تمكنت من الفوز بالمسابقات والجوائز الأدبية على مستوى الفنون مجتمعة فنية أدبية وثقافية.

الرقّة تظل المدينة الزاخرة بالوجوه الإبداعية التي في حال توافر لها جزء يسير من الدعم. جزء بسيط مما يتوافر لغيرها من أخواتها المدن السورية لأصبح أبناؤها في طليعة أبناء سوريا تميزاً وتفرداً نتيجة الإمكانات التي يتمتعون بها والحس الذي يتحلون به، والهواية المجبولين عليها، ويمكن أن يصل أبناؤها إلى العالمية لما لا في حال توافر الدعم والمساندة الكافيين، والخلاص من الهمّ الحالي الذي يعيشه أبناؤها الذي لا يعرفون إلى أين يتجهون؟

من القلب الذي يقطر دماً وعشقاً، إلى مدينتي الحبيبة التي تنتظر قيامها من رقاد الأموات، أقول: ليبارك الرحمن مدينة الأحلام. المدينة التي احتضنت الناس البسطاء الذين عاشوا في ظلها، واستهواهم مقامها ومفردات اللهجة التي طُبعت في وجدان زوّارها وما أكثرهم.

إنها الرقّة المدينة التي بقيت في القلب وما تزال.. فليحفظ الله رقتنا، وليعد لابنها ابتسامته وضحكته ونشاطه وإبداعه من جديد، وعودة أهلها إلى حضنها الدافئ، ملتمسين ذلك في عاجل الأيام.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف