كتَّاب إيلاف

الكاتب المغربي محمد معزوز يكتب لـ"إيلاف"

الرّؤية الملكية للثّقافة وعوائق التّنزيل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يكتسي الحديث عن السياسة الثّقافية في المغرب، أو بالأحرى حصيلته الثقافية خلال حكم الملك محمد السّادس، في سياق التغير الفكري والقيمي والسّلوكي الذّي يعيشه العالم اليوم، أهميّة قصوى نظرا للمطلب المستعجل لبناء سياسة ثقافية نسقية تتجاوز التراتبية التقليدية التّي أنزلت الحقل الثّقافي منزلة التّابع أو الهامش لما بات ينعت في التحليل " الجيوثقافي" بالمركزية الاقتصادية والسيّاسية.


الملك محمد السادس شجع الثقافة التكنولوجية

ما بعد المجتمعية
لقد أصبحت المسألة الثّقافية مسألة "ما بعد المجتمعية " أو " ميتا مجتمعية" بانخراطها الملزم في الثّورة التكنولوجية والذّكاء الاصطناعي.ولم يُغيّر هذا الانخراط مفهوم الثّقافة ومحدّداتها فقط، وإنّما مسّ وجود الفرد داخل المجتمع وتمثّله للآخر وللعالم. لم تعد العائلة هي البنية الأصلية للمجتمع، وإنّما أصبح الفرد لمّا تماهى مع تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي مفصليا في تكوين المجتمع الحديث والتّأثيرفيه. تمكّن هذا المعطى الجديد من أن يستحكم العملية الاقتصادية والاجتماعية ويُوجّه الفعل السياسي، إمّا بطريقة واعية ومباشرة، وإمّا على نحو مُسْتتر يقرب من الممارسة اللاّواعية. فكلّما كان الاستحكام والتّأثير ينطلق من إرادة الفعل الواعي، أي من إرادة سياسية لها خرائطها وأجنداتها،جاز الحديث عن سياسة ثقافية متّصلة بمشروع وطني بدلالات مجتمعية، وكلّما كان التأثير لا يأخذ إلاّ معنى العرضي والكرنفالي ، أي من دون مشروع مُتبصِّر صادر عن إرادة سياسية واعية، جاز الحديث في المقابل عن قصور في بناء المشروع الوطني وإصابته بالعجز في تكوين عنصر بشري له القدرة على تجاوز العوز المادي وخوض تحدّيات التّنمية. لكنّ الحديث عن الإرادة السّياسية مفصولا عن الوعي بالزّمن وبمكر بغتة تحوّلات العالم وبأهميّة الأداة بما تقتضيه من معرفة ويقظة متجدّدتين، قد يجعل من هذه الإرادة مجرد تصوّر مُعطّل لا صدى له في الواقع.

ترتبط مناسبة هذا الكلام بالرغبة في التقصّي الشّامل لمسار السياسة الثّقافية في المغرب و درجات الوعي بمؤثّراتها في الحفاظ على الوحدة الهيكلية للمجتمع وقدرتها على خلق الثّروة مند تولّي الملك محمد السّادس الحكم. لا بدّ أن نشير هنا، إلى أن برامج الأحزاب السّياسية والحكومات ظلّت غفلا عن أدوار المحدّد الثّقافي في خلق الثّروة، نظرا لقصورها المعرفي والتّقني في فهم مُستجدّ الدّيناميات الاقتصادية والمجتمعية وأدوارها المركزية في التّنمية الشّاملة. لم يكن مقترح هذه الأحزاب والحكومات، وعلى نحو مُجتر، يتجاوز بعض الإشارات الفضاضة عن النّهوض بالثّقافة والكلام عن البنيات التّحتية في أحسن الأحوال. أمّا الحديث عن الصّناعة الثّقافية فقد ظلّ لسنين عبارة عن عناوين عامة مذيّلة باقتراحات سطحية، أغلبها مستنسخ من تجارب أجنبية دون فهم معمّق لها أو ضابط يصنع منها رؤية عالمة ومُؤَطِّرة. لكن المفارقة العجيبة في هذا كلّه، أنّ المبادرة الملكية إلى بلورة رؤية ثقافية بديلة وخرائط طريق جديدة ، لم يتمّ التعامل معها بالجدّية المطلوبة وبالحسّ التنموي والوطنيّ نفسيهما في البرامج الحكومية المتعاقبة، خاصة فيما يتعلّق بتلك النّظرة الألمعية التّي حملها خطاب الملك حول الرّأسمال اللامادي.


الملك محمد السادس وولي عهده الأمير مولاي الحسن والأمير مولاي رشيد

ضبط أهم المحطّات التّي شكّلت منعطفات نوعية
ونقتصر في هذا المقام، الحديث عن منجز الدّولة في علاقته بالسّياسات الحكومية المتعاقبة خلال هذه المدّة من حكم محمد السّادس. هنا لا بدّ أن نسارع إلى ضبط أهم المحطّات التّي شكّلت منعطفات نوعية في التّعاطي الرّسمي مع مكوّن الثقافة في المغرب في أفق وضع رؤية ثقافية لها تلك الحمولة الإيجابية التّي تمّت الإشارة إليها أعلاه. يعتبر خطاب الملك باجدير سنة 2001 أوّل

المنعطفات الحاسمة في إرادة تجسيد الوعي التّاريخي بالدّفاع عن الهوية الصلبة عبر مشروع ثقافي مجتمعي ينطلق من وضع إطار واسع للهويّة الثّقافية الوطنية تُرْصَد فيه مقوّمات التاريخ الاجتماعي للمغرب. لذلك اعتبر الخطاب أن " الأمازيغية مكوّن أساسي للثّقافة الوطنية، وتراث ثقافي زاخر، شاهد على حضورها في كلّ معالم التّاريخ والحضارة المغربية، فإنّنا نولي النّهوض بها عناية خاصة في إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي.". ومع تنصيص الخطاب على أنّ النهوض بالأمازيغية يبقى شأنا جماعيا ومسؤولية وطنية مشتركة، يكون بذلك بمثابة دعوة إلى كل الفاعلين السياسيين والمدنيين والمثقفين والأسر إلى تغيير تمثلهم المزدوج للّغة. للّغة التي يُعتقد أنها هامشية (الأمازيغية) وللّغة التّي يُعتقد أنّها رسمية في جانبها العربي الدّارج والفصيح وفي جانبها الأجنبي.

خطاب أجدير وإقرار دستور 2011
لكنّ تأمّلنا للمسافة الزّمنية ما بين خطاب آجدير وإقرار الدّستور الجديد سنة 2011 الذّي نصّ في الفصل الخامس على أن الأمازيغية " أيضا لغة رسمية للدّولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء" ، أي مسافة عشر سنوات، يجعلنا لا نلحظ فيها وجود حياة وظيفية لا للّغة الأمازيغية ولا للثّقافة بمعناها الوظيفي والتنموي. فبالرّغم من إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإطلاق مبادرة تعليمها لأوّل مرّة في المدارس المغربية في السّنة الدراسية 2003-2004، والذّي لم يتحقق هدف تعميمها في أفق 2010-2011. لعلّ السّبب في غياب هذه الوظيفة، وهو غياب يشمل الفعل الثّقافي الوطني بعامة، يعود إلى سببين كبيرين:

أولها، عدم توفّر شّرط الوعي المجتمعي الذي يحدث به الفهم المعمق والتفاعل مع قضايا وتحديث المجتمع. فبالرّغم من وجود إرادة ملكية أرادت للثّقافة وللغة الأمازيغية أن تكون شأنا وطنيا ومجتمعيا، نلحظ عدم احتضان هذه الإرادة مجتمعيا. ونتجت عنها تأويلات خاطئة وسلوكيات متناقضة. فكانت إمّا تأويلات لإثارة كثير من الحساسيات العرقية والقبلية، مما جعل معنى الهوية المشتركة والوطنية الجامعة شعارات باطلة، وإمّا سلوكات يطبعها التّناقض بنفور دعاة الأمازيغية أنفسهم من الأمازيغية وتوجيه أبنائهم إلى المدارس الخاصة وتعلّم اللّغات الأجنبية دون غيرها، ومن جهة أخرى اعتبار المكوّن الثّقافي، عامة، تكميليا وترفيهيا لا يمكن أن ينتج الثّورة ويحقّق التّنمية. هذا يعني أنّ هناك عائقا في جهة ما يُفَرْمِل حيوية الإرادة الملكية ويعرقل تنزيل الدّستور، نتيجة جهل بيّن.

ثانيها، سيادة الجهل المركّب لدى القائمين على تدبير السيّاسات العمومية. وقد استمرّت هذه السيّادة اللاّمنصفة بعدم الإدراك الواعي لخلفيات الإرادة الملكية في جعل الثّقافة الوطنية بكلّ مرجعياتها التّاريخية أفقا للمغرب الحداثي الدّيمقراطي الذّي نصّ عليه الدّستور. ولا بدّ أن نشير هاهنا إلى غموض مُحيّر ومُقلق؛ إ ذ بالرّغم من سموّ الإرادة الملكية في إعلاء مكانة الثقافة و منحها أهمّية بالغة في الدستور، نلحظ أن القطاع الذّي يمثّلها حكوميا ظلّ ملحقا بقطاعات أخرى وأن تعيين المسؤولين على تدبيره لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالثّقافة، إذ أنّ أغلبهم لم يكتب في حياته حرفا واحدا. وكأنّه أريد لهذا القطاع أن يكون صفريا، جيء به لتأثيث المشهد الحكومي لا غير.

تنزيل الدستور وبناء سياسة ثقافية
علينا أن نتساءل ونحن نتأمل المسار الثّقافي في عهد محمد السّادس، لماذا لم يتم تنزيل الدستور لبناء سياسة ثقافية كما ينصّ عليه، لجعل الحقل الثّقافي سوقا حرّة تتنافس فيها الرّساميل الرّمزية وللاّ ماديّة؟ لماذا تمّ القفز عن الخطاب النوعي للملك سنة 2014 وهو يؤكد على احتساب الرأسمال غير المادي كمكوّن أساسي للتنمية؟ خاصة أنّ الأمر يتعلّق هنا حسب منطوق الخطاب: " بالرّصيد الثّقافي التّاريخي لأيّ بلد، إضافة إلى ما يتميّز به من رأسمال بشري واجتماعي ، والثّقة والاستقرار، وجودة المؤسّسات، والابتكار والبحث العلمي، والإبداع الثّقافي والفنّي، وجودة الحياة."

لم يتم التفاعل المسؤول من طرف الحكومات المتعاقبة مع هذا الخطاب، بسبب سيادة جهلها المركّب والعشوائية في تعيين وزرائها القائمين على قطاع الثّقافة. ولحدّ الآن ما زالت الآفة نفسها تستبد بمضامين السياسة العمومية وتوجيهاتها، فلم يتم بعد إدراك دلالة تقييم مؤشّرات التّنمية من غير الارتكاز على مواردها الطبيعية والمعطيات المتعلّقة بالنّاتج الدّاخلي فقط، وإنّما باعتماد الرّأسمال غير المادي وبلورته في إطار رؤية ناجعة وقابلة للتّنفيذ. وهذا يندرج فيما أطلقنا عليه أعلاه " المسألة الثّقافية في بعدها " الميتا مجتمعي".

عدم التقاط الإشارات الملكية الكبرى؟
ونتيجة لفهم خاطئ لمعنى البراغماتية والإيمان الأعمى بدور الاقتصاد في جلب الحلول، لم تُلتقط الإشارات الملكية الكبرى التّي أرادت أن تجعل من الثقافة فعلا استراتيجيا ذي رؤية مستقبلية تقويّ لحمة المجتمع المغربي وتخلق الثّروة والرّفاه. لم يُفهم بعد ان الثّورات الرقمية والتّكنولوجية هي الآن بصدد خلق علاقات جديدة بين الفرد والمجتمع والدّولة ، وأن منزلة هذه العلاقات دون قيم تحافظ على البعد المعنوي لآدمية الإنسان، سيُفضي بالإنسانية إلى كارثة معنوية وأخلاقية، بما يجعل الليبيرالية المتوحّشة أكثر تغوّلا واستلابا للفرد. من هنا جاءت أهميّة الخطابات الملكية حول التراث المادي والرّأسمال الرّمزي كخلفيات تحذيرية وتوجيهية لما ينبغي أن يحتاط منه المغرب وهو يسعى إلى الحفاظ على ثوابته وتقوية لحمته الدّاخلية وبلوغ أهداف التّنمية.

إذا حاولنا أن نفهم رؤية الملك محمد السّادس للوظيفة الثّقافية، ابتداء من خطاب أجدير وإقرار دستور 2011 وخطاب 2014 حول التراث المادي، نلحظ أن هناك وعيا بخطورة الانتقال من "المجتمع" إلى "الميتا مجتمع" تحت تأثير التكنولوجية وتقنيات التواصل الاجتماعي والتحوّلات السياسية والاقتصادية الكبرى في العالم. ويقوم هذا الوعي على اعتبار الوظيفة الثّقافية قارب نجاة من أي انحراف تاريخي يمسّ بوحدة المغرب وكيانه الداخلي، ومناسبة كبرى لجعل الرأسمال اللامادي الوطني ورشا فسيحا لإنتاج الثّروة والتّنمية.

* محمد معزوز: استاذ جامعي باحث وكاتب وروائي مغربي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف