في فوز ممداني والنظام السياسي الأميركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا يتأتّى فهم فوز زهران ممداني، كأول مسلم ومهاجر وديمقراطي اشتراكي يتولى منصب عمدة لمدينة نيويورك، إلا باستجلاء سياق التحولات الجارية في بيئة النظام السياسي الأميركي، وفي إطار السياسة الأميركية بوصفها سياسة كونية فاعلة تتأثر وتؤثر في مجريات الأحداث التي تكتنف بيئة السياسة والقوة والأزمات والحروب على مختلف مستوياتها.
ولا يسعنا أيضاً أن نغفل السمات الشخصية لممداني نفسه، كأصغر عمدة بعمر 34 سنة، وهو يمثل التيار الشبابي الذي اضطلع بدور جوهري في دعم ترشيحه وتحقيق فوزه في مجابهة خصومه. ولا يمكن تجاهل التكوين الديموغرافي لمدينة نيويورك، التي تعد حاضنة للمهاجرين ويسكنها شريحة من الفقراء والكادحين، في حين تهيمن عليها طبقة الأثرياء وأرباب المال واللوبي الصهيوني.
ترجع أهمية هذا الفوز إلى مكانة مدينة نيويورك المحورية، وإلى تحوّله إلى قدوة تحتذي بها سائر المدن الأخرى، ففي غمرة فوز ممداني، فاز حوالي 38 مسلماً في مناصب مختلفة على مستوى الولايات والمدن الأميركية. وهذا يشير إلى تحولات تشهدها بيئة النظام السياسي، وخصوصاً مع إدارة الرئيس ترامب وتفاقم ما بات يُعرف بالتيار الترامبي وحركة الشعبوية العنصرية، وتآكل دور الحزب الديمقراطي وطغيان شخصية ترامب الفردية على الهيكل المؤسساتي وإصداره العديد من القرارات وفرض الرسوم التي أثقلت كاهل المواطن الأميركي العادي، وانتقاده اللاذع لكافة سياسات الهجرة وفرض القيود عليها والحد منها، وهجومه على التيارات الاشتراكية واتهامه لممداني بأنه شيوعي، فضلاً عن هجومه على التيارات الإسلامية.
كل هذه السياسات هيأت بيئة مواتية ودافعة نحو فوز ممداني. ولذلك يعتبر البعض فوزه انتصاراً على تيار ترامب، والحد من تناميه وهيمنته. وفي الوقت ذاته، كان لمنظومة القيم التي يتبناها ممداني دور محوري في انتصاره، فلقد نصَّب نفسه مدافعاً عن الفقراء والكادحين متعهداً بمراجعة كافة السياسات التي فاقمت من فقرهم بفرض الضرائب على رجال المال، ولكن دون أن يعاديهم، بل من باب تحسين المستوى المعيشي لسكان المدينة، ووعد بفتح محلات لبيع الأغذية لمساعدة أصحاب الدخل الضعيف وبتحسين مستويات التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات. وهو بذلك كان يخاطب القاعدة الانتخابية بما يلامس رغباتها واحتياجاتها، فلم يقم بالتالي حواجز بينه وبينهم، بل ذهب إليهم وعاشرهم.
ومن سماته أنه لم يعادِ أي شريحة أخرى بل خاطب كل منها بلغتها، فهو مع الفلسطينيين وضد حرب الإبادة والقتل وانتقد إسرائيل في هذه الحرب، لكنه في الوقت ذاته داعم للصوت اليهودي ومناهض للسامية ومعاداة اليهود. وهذا الموقف كفِل له نصيباً لا يقل عن ثلاثين بالمئة من أصوات الجالية اليهودية في المدينة. وعندما أعلن أنه لن يسمح لنتنياهو وإلقاء القبض عليه لو دخل المدينة، كان هناك من يفسر هذا استناداً إلى أحكام الجنائية الدولية، وانتقد حركة حماس لهجومها فيما عُرف بالطوفان. بالرغم من أن مثل هذه المواقف قد تظل ذات دلالات رمزية تفوق واقعيتها، فممداني يدرك حدود ما يصرح به، ويعلم أنه عمدة لمدينة وليس حاكماً لولاية. ويعرف أن سلطات العمدة تقتصر على الخدمات فقط وليس السياسات الخارجية، ويعرف أنه على حداثة سنه لا يمكن أن يصبح يوماً رئيساً للولايات المتحدة لأنه مولود خارج الولايات المتحدة.
ولعل أسباب فوزه تُعزى لعوامل متضافرة عديدة أيضاً منها كما أشرنا سماته الشخصية وعمره وتمثيله لجيل الشباب الذي بدأ يضطلع بدور مهم في السياسة الأميركية في مواجهة الطبقات والنخب التقليدية في السياسة الأميركية وعلى مستوى الحزبين، وأسباب تتعلق بالبرنامج الانتخابي الواقعي الذي لامس متطلبات المواطن في المدينة. فهو استمرار لحملة الديمقراطية التقدمية التي قادتها ألكسندريا أوكاسيو كورتيز والتي انتخبت عام 2018 باعتبارها أصغر عضو في مجلس النواب. وامتداداً لحملة بيرني ساندرز الذي قدم له الدعم في هذه الحملة الانتخابية والدور الذي لعبه الرئيس أوباما. وانتماؤه إلى التيار الاشتراكي الديمقراطي الذي يرفع شعارات العدالة الاقتصادية والاجتماعية والرعاية الصحية الشاملة والتعليم المجاني. ومن مظاهر قوته تحالفاته مع نقابات العمال ومنظمات العمل المدني وحتى بعض رجال الأعمال التقدميين. وأهمية هذا الفوز قد تكون مؤشراً ودافعاً للانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2026، والتي ستقرر مصير النظام السياسي الأميركي وما إذا كان سيؤول إلى تقييد فردانية الرئيس ترامب أم العودة إلى نهج المؤسسات وعودة فوز الديمقراطيين، وهذا تحديداً ما يثير قلق الرئيس ترامب وإدارته وتياره إزاء هذا الانتصار.
لا يقتصر حصره فقط في شخصه بل يندرج ضمن سياق التيار التقدمي الذي بدأت ملامحه تبرز مع ستينات القرن الماضي ورأينا تعبيراً عنه في الاحتجاجات التي شهدتها ولايات كثيرة رافعة شعار "لا للملكية ولا للدكتاتورية". وبات هذا التيار يشكل قوة جماهيرية غيرت من معادلات السياسة الأميركية الداخلية ولنقل في بدايتها. وتُشكل مرحلة سياسية جديدة، وعُبر عن هذا في خطاب النصر وإعلانه عن سقوط السلالة السياسية وقوله "أعدنا السلطة للشعب". وكما أشرت أن هذا الفوز لا يمكن فهمه في الإطار الانتخابي أو الحزبي فقط بل في سياق التحولات البنيوية التي تشهدها السياسة الأميركية، وكما قال مايكل ساندل، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد: "إن هذا الفوز يعكس أزمة ثقة متجذرة في الديمقراطية التمثيلية التقليدية". فلم يعد المواطنون الأميركيون يثقون في الساسة الذين يتحدثون بلغة المؤسسات، بل يبحثون عن وجوه حقيقية تتحدث بلغتهم وتشاركهم غضبهم وأحلامهم. وأضاف أن ممداني لا يمثل فقط تياراً يسارياً جديداً، بل تحولاً ثقافياً في فهم السلطة إذ باتت تُمنح لمن يمتلك الجرأة على تحدي المنظومة، لا لمن يجسد التماهي معها.
والبعض يعتبر هذا الفوز استفتاء على الاتجاه العام لسياسة ترامب، ولكنه بالرغم من ذلك لا يشكل تحولاً في السياسة الأميركية ومواقفها من القضايا العالمية وخاصة قضية السلام في المنطقة والحرب على غزة. ومن السابق لأوانه معرفة نتائجه وتداعياته المستقبلية لأنه يبقى في النهاية انتخابات على مستوى عمدة أكبر مدينة، والمهم فيها أنها أول عمدة مسلم. ويبقى أن هذا الفوز الذي أفرطت في تأويله بعض التفسيرات الإسلامية واعتبرته انتصاراً لها، فلا يجوز الذهاب في التفسير في سياق المبالغة والتضخيم لأن المحددات الرئيسية للسياسة الأميركية بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية والكونغرس والولايات تحكمها عوامل أخرى أهمها تأثير المال والصوت اليهودي والأصولية المسيحية التي يتجاوز عددها الستين مليوناً.
ولعل إسرائيل هي الوحيدة التي شعرت بالقلق إزاء هذا الفوز والذي اعتبرته صحيفة جيروزاليم بوست معاداة للسامية، وعبر عنه الكاتب اليهودي دانييل مورديس أن فوزه يثير قلقاً حقيقياً في أوساط الجالية اليهودية داخل الولايات المتحدة وخارجها. واعتبرته الكاتبة الإسرائيلية يوانا غوفين أن "أعظم تهديد لوجودنا وللحضارة الغربية هو زهران ممداني الذي انتُخب عمدة لنيويورك." وأخيراً، وكما قالت الناشطة الحقوقية ليندا صرصور: "ممداني قد أعاد تعريف وظيفة العمدة، فلم يعد مجرد مدير للمدينة، بل غدا ضميرها السياسي ولسان حال المهمشين فيها." يعد فوزه الخطوة الأولى في مسار طويل يهدف إلى تغيير بيئة ومتغيرات النظام السياسي الأميركي. ويحتاج لرؤية وعمل مستمر لتوظيف القوة التي دعمت هذا الفوز وامتدادها على مستوى كل الولايات. ولا ننسى التحديات التي تواجه ممداني وقوة من هزموه.