كتَّاب إيلاف

الدوحة تصنع المجد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في الدوحة، حيث تتلامس الأحلام مع الحقيقة كما يتلامس الماء مع حوافّ الضوء، تنهض المدينة كلّ صباح وكأنها ترمّم سماءها بالبهجة. تبدو الصورة هنا أكثر إشراقاً مما يتوقّعه قلبٌ لم يختبر بعدُ هذا القدر من الدهشة. فكل شيء في الدوحة يشبه لحظة تتفتح فيها زهرة في غير موسمها، وكل زاوية تحمل وعداً بأن شيئاً جميلاً سيقع الآن، أو بعد قليل.

الأضواء التي تتلألأ فوق ملاعبها المونديالية العملاقة لا تضيء المكان فقط، بل تُنير داخل الإنسان مشاعر كانت نائمة، وتعيد إليه قدرته على الإعجاب. والحشود التي تتدفّق من أصقاع الأرض، من اليابان والبرازيل وأميركا والعراق والمغرب والسعودية، لا تأتي لتشاهد مباريات وحسب، بل لتختبر ـ دون أن تدري ـ معنى الانتماء إلى عالم واحد، حيث يصبح الغريب قريباً، والآخر مرآة لما نحبّ في أنفسنا من شغف وبهجة.

في شوارع الدوحة تتجاور الأزياء كما تتجاور النغمات في مقطوعة موسيقية. الألوان تتمايل فوق الأكتاف، والضحكات تتقاطع في الهواء، والوجوه التي لم يربط بينها شيء بالأمس، تصبح اليوم جزءاً من لوحة واحدة عملاقة. لوحة ترسمها كرة القدم بلمسة طفل، ووعي شاعر، ودقّة فنان يعرف قيمة الظلال الصغيرة التي تتشكل على جدار الذاكرة.

هذه الدولة الصغيرة، التي كانت قبل بضعة عقود تحاول رسم اسمها على خريطة العالم، باتت اليوم مركزاً كونياً يتسابق الجميع إليه. فبعد أن أبهرت العالم باستضافتها مونديال 2022، ها هي تواصل خطّ سردية نجاحها بلا انقطاع. فقد احتضنت مؤخراً كأس العالم للناشئين، حيث ارتقت البرتغال منصة التتويج، في بطولة كشفت أن المستقبل يسير من هنا، وأن الملاعب القطرية قادرة على احتضان أحلام الصغار كما احتضنت مجد الكبار.

ولم تتوقف الدوحة عند ذلك، بل مضت في زخم يكاد يشبه الحلم، لتحتضن في الوقت نفسه بطولة الخليج تحت 23 عاماً، بالتزامن مع بطولة كأس العرب التي عادت لتعيد للعالم العربي شيئاً من روحه المفقودة.

إن اتساع هذا المشهد، وتزامن هذه البطولات، ليس مجرد براعة تنظيمية، بل هو إعلان صامت بأن الدوحة تمتلك قلباً واسعاً يستطيع أن يحمل كل هذا التدفق دون أن يتلعثم إيقاعه.

على ملاعب لوسيل والبيت و974 والمدينة التعليمية، لا تُقام مباريات فقط؛ هناك تُكتب فصول من ذاكرة جديدة للعرب. فوز فلسطين، مفاجأة سوريا أمام تونس، صمود المغرب وتألقه، عودة العراق والسعودية ومصر والجزائر إلى الواجهة ـ كلها شذرات من قصة أكبر، قصة مجتمع عربي يريد أن يُثبت للعالم أنه قادر على المنافسة، وعلى الحلم، وعلى الفرح.

لكن الأجمل يحدث خارج أسوار الملعب. يحدث حين يرفع طفل علماً لا يعرف حدوده السياسية، حين يضحك مشجعان لا يتكلمان اللغة نفسها، حين تُصنع ذاكرة في لحظة عابرة دون أن يخطط لها أحد. هناك، في تلك اللحظات الهشة والقوية معاً، تتجلى الرياضة بصفتها فناً للعيش، ولغة للسلام، ومساحة نادرة يتذكر فيها البشر أنهم يجلسون جميعاً حول مائدة واحدة اسمها الأرض.

إن الملاعب العملاقة التي بنتها قطر ليست مجرد هياكل من حديد وزجاج، بل هي قصائد من الكونكريت، تشهد على إرادة شعب أراد أن يكتب اسمه بين الأمم بأحرف الضوء. ولذلك يشعر الزائر، وهو يتجول بين هذه التحف المعمارية، بأنه في قلب احتفال لا ينتهي، احتفال بالإنسان وقدرته على بناء ما يشبه المعجزات.

في الدوحة اليوم، لا تُقام بطولات فقط؛ بل تُصنع ذاكرة، ويولد أمل جديد، وتنقش المدن معنى جديداً للحضارة. هنا، تتجمع القلوب قبل الكؤوس، وتتسع المسافات للألفة، ويقف البشر ـ ولو لوهلة ـ أمام جمال يكفي ليجعل هذا العالم أقل قسوة.

وهكذا تظل الدوحة، بالرغم من صغر مساحتها، فضاء واسعاً يليق بأحلام كبيرة. مدينة صنعت من الضوء وطناً للدهشة، ومن الرياضة لغة للعناق، ومن التنظيم فناً يليق بمستقبل أرادت أن تُعيد للعالم تعريفه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف