كتَّاب إيلاف

لبنان بعد مغادرة البابا: بين بارقة أمل وتحدٍّ جسيم

رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزيف عون مستقبلاً قداسة البابا لاوون الرابع عشر في بعبدا
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

غادر البابا لاوون الرابع عشر لبنان بعد زيارة رسمية امتدت من 30 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى 2 كانون الأول (ديسمبر) 2025، حملت بين طيّاتها إرادة للدعوة إلى السلام والوحدة والمصالحة في بلد تشظّى بفعل أزمات متلاحقة. لكن في الوقت نفسه، يظل السؤال العريض: ماذا ينتظر لبنان بعد مغادرته؟ هل تبقى زيارته مجرد لحظة رمزية، أم أنها بداية فصل جديد من العمل على إنقاذ الوطن؟ خلال زيارته، لم يأتِ البابا كضيف عابر، بل كرسول سلام في لحظة حسّاسة عاشها لبنان. في كلمته أمام قادة الطوائف والمكوّنات اللبنانية قال إن لبنان لا يزال بإمكانه أن يكون منبر أُخوّة وتعايش بالرغم من ما مرّ به من حروب وأزمات. كما التقى البابا شباناً من مختلف الطوائف، وحثّهم على أن يكونوا بناة سلام لا هجرة في وجه الأزمات، مؤكّدًا على ضرورة فتح قلوب اللبنانيين لبعضهم البعض والعمل معًا من أجل وطن مستقر وآمن. وأحد أكثر المشاهد تأثيراً كان زيارته إلى موقع انفجار مرفأ بيروت، حيث صلّى وناشد من أجل العدالة ليس كحدث إعلامي عابر، بل كمحطة تذكير بما تبقّى من آلام ودمار لم تَلْقَ بعد حساباً. لبنان ليس بحاجة إلى مظاهر إعلامية، بل إلى محاسبة حقيقية تفتح الطريق نحو بناء المؤسسات وثقة المواطنين بالدولة، وتجعل العدالة ركيزة أساسية لأي مستقبل ممكن. زيارة البابا في هذا التوقيت أرسلت إشارة إلى العالم بأن لبنان بالرغم من ضعفه لا يزال يحمل رمزاً للتعدد الديني والتعايش في الشرق الأوسط. في بلد فقد كثيراً من شبابه نتيجة الهجرة، كانت الزيارة بمثابة دعوة لاعتبار لبنان ليس فقط أرض أزمات، بل رسالة أمل لمن بقي ومن يفكّر بالعودة، ولتأكيد أن الحوار والتعاون بين الطوائف هو السبيل للحفاظ على هذا الوطن من الانهيار.

بعد مغادرة البابا، يمكن تصور عدة سيناريوهات لما ينتظر لبنان. السيناريو الأول هو أن تتحوّل الزيارة إلى دفعة مجتمعية نحو الإصلاح والتغيير، فتشهد الساحات اللبنانية حركة مجتمعية تشمل حراكاً شبابيًّا ومبادرات مدنية وثقافية، دعوات للحوار الوطني، وربما ضغطاً شعبياً على الطبقة السياسية لتطبيق إصلاحات حقيقية. في هذه الحالة، قد تتحول رسالة البابا إلى منصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتعزيز مفهوم المواطنة وتجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، مما يسمح للبنان باستعادة مكانته كنموذج للتعايش والتعدد في الشرق الأوسط. أمّا السيناريو الثاني، فهو أن تبقى الزيارة على مستوى الرمزية، مع تسليط ضوء إعلامي ومشاعر طيبة مؤقتة، ثم سرعان ما يغرق الناس في انشغالاتهم اليومية من فقر وبطالة وانهيار الخدمات وفساد متواصل. إذا لم تُترجم الروح التي حملها البابا إلى خطوات عملية ملموسة، يبقى الخطر أن يتحول الزخم إلى خيبة أمل، وربما مزيد من الهجرة ونقص المشاركة المجتمعية، ما يزيد من صعوبة معالجة الأزمات القائمة ويزيد من تراجع مؤشرات الاستقرار السياسي والاجتماعي. السيناريو الثالث المحتمل يتعلق بتفاقم الأزمات مع تصاعد التوترات الإقليمية، إذ يعيش لبنان في محيط معقّد يضم ملفات نزاع وصراعات إقليمية وديناميات أمنية، وبينها علاقة حزب الله مع إسرائيل. البابا دعا إلى السلام، لكن مغادرته قد تعيد خلط الأوراق، وغيابه كرمز للتهدئة قد يفتح الباب أمام تصعيد محتمل، في حال لم تتمكن الدولة من ضمان الأمن الداخلي، ويبقى احتمال نشوب توترات عسكرية على الحدود أو تصاعد النزاعات بين الفصائل اللبنانية قائماً، ما يجعل المرحلة المقبلة دقيقة للغاية وتحتاج إلى يقظة سياسية واجتماعية، وتضامناً داخلياً قائماً على وطن لا طائفة ولا حزب.

ما على اللبنانيين فعله الآن هو اعتبار زيارة البابا نقطة انطلاق لا محطة وصول، فلا يجب التعامل مع مغادرته كخطوة نهائية، بل كبادرة تفتح الطريق أمام مرحلة عمل جهدي ومؤسساتي تبدأ من الفرد والمجتمع المدني وتمتد إلى الدولة. ويجب التركيز على المواطنة بدل الطائفية، لأن لبنان بحاجة إلى إعادة بناء ثقافة وطنية حيث تكون المواطنة الأساس لا الانتماء الطائفي أو الحزبي، والحوار بين الطوائف أصبح ضرورة لبقاء البلد وصيانة وحدته الوطنية. كما يجب المطالبة بالعدالة والمساءلة، فتفجير مرفأ بيروت لم يعد قضية ضحايا فقط، بل قضية مجتمع كامل، ودعوة البابا للعدالة هي دعوة لكل لبناني يرفض أن تمر الفاجعة مرور الكرام. الإصلاح يبدأ بالعدالة، ويجب أن تكون مؤسسات الدولة قادرة على محاسبة المسؤولين عن أي تقصير أو فساد، لضمان أن المستقبل لن يكون نسخة عن الماضي. دعم الشباب والمبادرات المدنية أيضاً أمر أساسي، فالشباب هم الأمل الذين يمكن أن يحوّلوا مشاعر الأمل إلى مبادرات فعلية ثقافية وتعليمية واجتماعية، ومن المهم أن يجدوا دعم المجتمع لا تهميشه، لضمان أن تثمر الطاقات الوطنية في مشاريع بنّاءة تساهم في إعادة بناء الدولة والمجتمع.

زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان كانت لحظة استثنائية، لحظة من الضوء في وسط ظلمات طويلة، لكنها يمكن أن تبقى مجرد ذكرى، أو تتحول إلى دفعة حقيقية نحو التغيير. إذا استوعب اللبنانيون الرسالة بعمق واعتبروها دعوة صادقة للبناء، فربما تبدأ صفحة جديدة تعيد للبنان كرامته وتعزز وحدته وتمنحه فرصة أن يكون منارة للتعايش في الشرق. وإن غفلوا، فستبقى الزيارة في ذاكرة أجمل الأيام، بينما الحقيقة لن تتغير. في هذا الوطن الممزق، يبقى الأمل، لكن الأمل وحده لا يكفي، فالعمل والإرادة والمسؤولية هي من تصنع المستقبل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف