كتَّاب إيلاف

بيئة حزب الله… على أبواب جهنم

جنود لبنانيون على الحدود الجنوبية مع إسرائيل
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تُظهر المؤشرات الراهنة أن المنطقة تقف على عتبة تحول حاد، مع اقتراب ساعة الصفر لعملية عسكرية إسرائيلية واسعة ضد حزب الله، حيث تبلور في السنوات الأخيرة، لدى العواصم الدولية المؤثرة وخاصة واشنطن، انطباع راسخ بأن الدولة اللبنانية عاجزة بنيوياً عن ممارسة أي من مقومات السيادة الفعلية، أو تنفيذ التزاماتها الدولية المتعلقة بحصر السلاح، أو ضبط الانتشار العسكري للحزب داخل المساحات التي يتمتع فيها بنفوذ شبه كامل.

ونتيجة لذلك، تزايدت الإشارات إلى أن المجتمع الدولي منح دولة إسرائيل ضوءاً أخضر ضمنياً لاستهداف بنية حزب الله ومراكزه العملياتية ومنشآت الحماية والتخزين التي تشكّل العمود الفقري لشبكته، في ظل قناعة دولية بأن الإبقاء على الوضع الراهن لم يعد خياراً قابلاً للاستمرار.

واعتقد أنه في ضوء هذا التحول في الموقف الدولي، يصبح من الضروري فهم الأداة العملياتية التي يُرجَّح أن تعتمد عليها دولة إسرائيل في أي مواجهة مقبلة مع حزب الله، وهي ما تُعرف بـ"عقيدة الضاحية"، حيث تُعرَّف هذه العقيدة بوصفها منهجاً عملياتياً يقوم على استخدام قوة نيرانية كثيفة لإحداث تدمير واسع ومتعمد في البنى التي تُعدّ امتداداً لبيئة العدو وعمقه اللوجستي، وهي مقاربة تشكلت بوضوح منذ عام 2006 حين اعتُبرت الضاحية الجنوبية في لبنان بنية إسناد مركزية لحزب الله لا يمكن فصلها عن جهازه العسكري والأمني.

بلاشك، فإنه ومع مرور الوقت، تجاوزت هذه العقيدة نطاقها الأصلي وتحولت إلى نظرية ردعية كاملة ترى أن استهداف البيئة الحاضنة للخصم، بما فيها شبكات القوة الاقتصادية والاجتماعية، قادر على تغيير معادلات الحرب بصورة أسرع وأكثر حسماً من الاقتصار على المواقع القتالية المباشرة.

وتشير المؤشرات الميدانية الحالية إلى أن العقيدة مرشحة لتفعيل نسخة أكثر خشونة وشمولية في أي مواجهة مقبلة، إذ تنظر دولة إسرائيل إلى الضاحية الجنوبية بوصفها الجسم المركزي للتمويه والإخفاء والدعم، وأن ضرب هذه الطبقة أولاً هو المدخل الأساس لتعطيل قدرة حزب الله على الصمود أو إعادة تشكيل شبكاته.

وتوضح الدراسات المتخصصة في حروب المناطق الحضرية أن "استراتيجية الضاحية" تستهدف البنى التي يعتمد عليها الخصم في الإسناد والاختباء، بما في ذلك شبكات الإخفاء، ومسارات التمويه، والعقد التي تُستخدم كقواعد للتنسيق والدعم، ما يجعل البيئة الحاضنة في مجموعها جزءاً من الهدف العملياتي وليست محيطاً منفصلاً عنه.

وتُظهر التقييمات الاستراتيجية أن أي تفعيل واسع لـ "عقيدة الضاحية" لن يقتصر على نقطة جغرافية واحدة، بل سيجري تطبيقه على كامل الطوق الذي يشكّل الامتداد الحيوي لشبكات الحزب، فالمشهد المتوقع يشير إلى عمليات نيرانية مركّزة ومدمرة تستهدف طبقات الخداع التي بناها الحزب عبر سنوات، محوّلةً تلك الطبقات إلى ساحات مكشوفة منذ اللحظات الأولى، بحيث تُعامل شبكات الإسناد والاختباء كحزمة واحدة داخل الحساب العملياتي.

ويُقدَّر أن البيئة الحاضنة ستواجه نمطاً من الانهيار السريع تحت وطأة الضغط النيراني المكثف، مع انتقالها القسري إلى حالة اضطراب حاد في الحركة والانتشار، بما يفتح الباب أمام موجات واسعة من النزوح، تمتد بين انتقال داخلي مرتفع الكلفة وخروج خارجي غير منظم تفرضه اعتبارات البقاء.

الحقيقة أنه ، تتحمل قيادة حزب الله المسؤولية البنيوية عن هذا المسار، بعدما راهنت لسنوات على دمج منظومتها العسكرية داخل البيئة الحاضنة، معتقدة أن هذا التداخل يوفر طبقة حصانة. لكن هذا الدمج كشف مستوى غير مسبوق من الارتهان البنيوي الذي يجعل البيئة هدفاً مشروعاً داخل الحساب العسكري الإسرائيلي. فمن منظور المؤسسات البحثية المتابعة للصراع، أدى هذا التداخل المطلق بين البنية القتالية والبيئة الحاضنة إلى جعل الأخيرة جزءاً مباشراً من منظومة التمويه والإسناد التي يعتمد عليها حزب الله، ما رفع من احتمالات استهدافها كحزمة واحدة في أي جولة صدام مقبلة، ويجعل كلفة المواجهة أعلى بكثير مما كان عليه الحال في التجارب السابقة.

ومن خلال المتابعة للأوضاع الحالية، يكشف إصرار حزب الله على رفض أي مسار يُفضي إلى تسليم السلاح أو الاعتراف بالهزيمة عن مفارقة لافتة في ميزان الصراع، فتعنّت الحزب، الذي يقدّمه باعتباره موقف قوة، يتحول عملياً إلى العامل الذي يتيح لدولة إسرائيل تفعيل النسخة الأكثر تطرفاً من "عقيدة الضاحية"، فهذا الإصرار، الذي يقطع الطريق على أي تسوية داخلية او خارجية، يفتح الباب واسعاً أمام سيناريو مشابه لما جرى في غزة، حيث استلهمت إسرائيل استراتيجية التدمير الواسع للقطاع فوق الأرض وتحتها، عبر قصف مكثف، وتدمير الأنفاق، واغتيال القيادات، واستهداف العقد اللوجستية بصورة لم تمنح حركة حماس أي هامش لإعادة تموضع.

وقد شكّل هذا النهج صدمة غير مسبوقة للحركة، بعدما اكتشفت أن الرهان على البيئة العمرانية لم يعد قادراً على تعطيل الآلة العسكرية الإسرائيلية أو خفض وتيرة عملياتها. والنتيجة كانت تدميراً واسعاً للبنية الأساسية، وإعادة تقسيم القطاع، وترك الجريمة التاريخية ليحيى السنوار بوصفها واحدة من أكثر اللحظات كلفة في تاريخ غزة.

واليوم يقف حزب الله على العتبة ذاتها؛ فاستمرار التعنّت ورفض أي مراجعة قد يجعل الحزب صاحب شرف هدم بيئته بيده، فمن الجنوب إلى البقاع مروراً بالضاحية، ستتحول أحزمة التمويه والمراكز اللوجستية إلى كتل من الركام، وستكون كومة الخراب -وفق التوقعات التحليلية - العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة. فبحسب ما أرى، فإنه كلما زاد الحزب تمسكاً بخياراته وأعرض عن قراءة المؤشرات التي تحذّر من فتح أبواب جهنم على بيئته الحاضنة، كلما كان ذلك في مصلحة الأطراف كافة، وخصوصاً لبنان، لأنه سيعيد تشكيل ميزان القوى الداخلي ويُسقط مركز الثقل الذي عطّل الدولة لعقود.

وعليه فإنه في سياق هذا المشهد، تبدو المواجهة المقبلة بمثابة اللحظة التي تُسدَّد فيها الفاتورة التي راكمها حزب الله عبر تحويل بيئته إلى جزء عضوي من منظومته القتالية، فتتجه هذه البيئة إلى دفع أثمان باهظة بفعل ممارسات الحزب، بوصفه الذراع الأكثر التصاقاً بالأجندة الإيرانية والفاعل الذي كرّس نموذجاً من العنف والإكراه ضد شعب لبنان أولاً، وضد إسرائيل والشعوب العربية ثانياً.

أما الرسالة التي تُرسلها دولة إسرائيل واضحة للجميع، سواء بشكل مباشر أو عبر تسريباتها العسكرية، فهي في جوهرها واحدة: من يوجّه إلينا الأذى سيتلقّى أذى أكبر، وبالكثافة التي تفرضها ضرورات الردع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف