الجوع المُسيَّس في مخيمات لبنان:
هل يدفع اللاجئون فاتورة الحرب مرتين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بينما تتجه أنظار العالم، ومعها اهتمام الإعلام والسياسة، إلى قطاع غزة وما يشهده من حرب مفتوحة وتداعيات غير مسبوقة، تتكشف في الظل فصول مأساة أخرى لا تقل قسوة، وإن بدت أقل صخباً. في مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان، يخوض اللاجئون معركة يومية من نوع مختلف، معركة البقاء في وجه الجوع والمرض وانسداد الأفق، بعد تأخر متكرر في صرف مساعدات “الشؤون” التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”.
هذه المساعدات، التي تبدو متواضعة في قيمتها المالية، تمثل بالنسبة إلى آلاف العائلات شريان حياة لا بديل عنه. كبار السن، ذوو الإعاقة، المرضى المزمنون، والأرامل، يعتمدون عليها لتأمين الحد الأدنى من الغذاء والدواء في بلد يرزح تحت واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث. في لبنان، لم يعد الفقر توصيفاً اجتماعياً فقط، بل حالة عامة، ومعها يصبح أي تأخير في الدعم الإنساني عبئاً ثقيلاً قد تكون كلفته حياة إنسان.
القلق المتصاعد في المخيمات لا يرتبط بإجراء إداري عابر، بل بسياق سياسي أوسع وأكثر تعقيداً. فالأزمة الإنسانية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشتات لا يمكن فصلها عن مجريات الحرب الإسرائيلية المستمرة، ولا عن مآلات التهدئة المتعثرة والمفاوضات التي تدور في كواليس إقليمية ودولية مشحونة. ما يجري اليوم يؤكد أن الحرب لم تعد محصورة بالجغرافيا الغزية، بل اتخذت شكلاً أشمل، يستهدف مجمل الوجود الفلسطيني، حيثما كان.
في هذا الإطار، تتعرض “أونروا” لضغوط سياسية ومالية غير مسبوقة، في محاولة واضحة لتقليص دورها أو إفراغه من مضمونه. استهداف الوكالة ليس مسألة تقنية أو مالية فحسب، بل يحمل أبعاداً سياسية عميقة، تمس جوهر قضية اللاجئين وحقهم التاريخي، وتعطيل دور “أونروا” أو إضعافها يعني عملياً دفع اللاجئين نحو اليأس، وفتح الباب أمام مشاريع تصفوية تُطرح تحت عناوين “اليوم التالي” للحرب.
وإذا ما جرى التوقف عند المؤشرات المالية الصادرة عن الوكالة، فإن الصورة تصبح أكثر قتامة. فـ“أونروا” تواجه عجزاً مالياً بنيوياً يُقدَّر بمئات ملايين الدولارات في ميزانياتها البرامجية ونداءات الطوارئ، وهو عجز لا يُختزل في فجوة حسابية بقدر ما يعكس سياسة “التقطير” التي ينتهجها المانحون الدوليون، وبات تأمين الرواتب وتوزيع المساعدات النقدية في لبنان يخضع لإجراءات شهرية بالغة الهشاشة، الأمر الذي يجعل الأمن الغذائي لعشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين رهينة لاعتبارات دولية لا تضع الإنسان في صدارة أولوياتها.
تزامن تأخر المساعدات مع تعثر مسار التهدئة ووقف إطلاق النار يثير تساؤلات مشروعة، فالمفاوضات الجارية لا تتعلق فقط بالملفات العسكرية أو تبادل الأسرى، بل تمتد إلى إعادة رسم المشهد السياسي الفلسطيني برمته، وفي هذا السياق، يبدو الضغط الإنساني، خصوصاً على اللاجئين في دول الطوق، أداة إضافية في لعبة الضغط السياسي، حيث يُستخدم الألم اليومي كورقة تفاوض غير معلنة.
وسط هذا المشهد المعقد، يبرز تساؤل موضوعي لا يمكن تجاهله، يتعلق بإدارة الصراع فلسطينياً. قرار المواجهة المفتوحة الذي اتُّخذ في السابع من أكتوبر 2023 شكّل لحظة مفصلية في تاريخ الصراع، وفرض معادلات جديدة على الأرض. غير أن حجم التداعيات الإنسانية، داخل فلسطين وخارجها، يفرض نقاشاً هادئاً ومسؤولاً حول مدى الاستعداد لإدارة هذه التبعات على مستوى الشعب الفلسطيني بأكمله، وليس في غزة وحدها.
مفهوم “وحدة الساحات” لا ينبغي أن يظل مفهوماً عسكرياً محضاً، بل يُفترض أن يشمل وحدة المعاناة ووحدة الإسناد. اللاجئ الفلسطيني في لبنان، الذي يعيش على هامش الاقتصاد والسياسة، وجد نفسه مكشوفاً أمام عاصفة مركبة من الانهيار الاقتصادي المحلي، والضغط الدولي على مؤسسات الإغاثة، وغياب شبكات أمان بديلة. هذا الواقع لا يقلل من قيمة التضحيات، لكنه يطرح ضرورة التفكير في آليات حماية الصمود الشعبي في الشتات، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من المعركة.
في المقابل، يتحمل المجتمع الدولي والجهات المانحة المسؤولية الأخلاقية الأولى عن تفاقم هذه الأزمة، فترك مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يواجهون الجوع والمرض بحجة العجز المالي أو التعقيدات السياسية، هو شكل من أشكال التواطؤ الصامت. المطلوب من “أونروا” اليوم أن تتعامل مع الوضع كحالة طوارئ حقيقية، وأن تبحث عن آليات استثنائية تضمن استمرارية الدعم، بعيداً عن الحسابات البيروقراطية الضيقة.
ما تشهده المخيمات من حالة غليان، ودعوات للاحتجاج والاعتصام، مؤشر خطير على أن الصبر بلغ حدوده، والانفجار الاجتماعي في هذه البيئات الهشة لن يخدم سوى مشاريع الفوضى، وسيُستخدم ذريعة لمزيد من التضييق والتهميش. لذلك، فإن معالجة الأزمة لم تعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة عاجلة لحماية الاستقرار الاجتماعي، وصون كرامة الإنسان الفلسطيني.
ولا يمكن الحديث عن أي إنجاز سياسي أو عسكري بمعزل عن كرامة الإنسان الفلسطيني، سواء كان في غزة تحت القصف، أو في مخيمات لبنان تحت وطأة الجوع، يواجه المعركة ذاتها بأشكال مختلفة، والانتصار الحقيقي لا يُقاس فقط بميزان القوة، بل بقدرة الشعب على الصمود دون أن يُدفع إلى حافة الانكسار، فهذه معركة الوعي والكرامة، والخسارة فيها لا تخص فصيلاً أو مؤسسة، بل تطال مستقبل قضية بأكملها.