كتَّاب إيلاف

قراءة في بعض جوانب تجربته السياسية والإدارية والأدبية

غازي القصيبي بين الشيطنة والتقديس

غازي القصيبي
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لم تحظَ تجربة غازي القصيبي بقراءة جادة، لأن الجدل حول شخصيته سبق أي محاولة لفهم مسيرته. فقد وُضع مبكرًا في خانة &"الخصم&" لدى التيار الصحوي، وتعرّض لشيطنة تجاوزت نقد المواقف إلى الطعن في النيات، رغم أن خطابه لم ينطلق من مشروع علماني أو ليبرالي بالمعنى الشائع. لم يدعُ إلى قطيعة مع الدين، ولم يتنكّر لقضية فلسطين، بل تحرّك ضمن نزعة عروبية واضحة تستند إلى مرجعية دينية عامة غير مؤدلجة. لكن هذا الموقع الوسيط، في مناخ لا يحتمل الاختلاف، جعله هدفًا سهلًا؛ فكل خروج عن خطاب الجماعة فُسّر عداءً. ومع تراكم الصدامات، اختُزلت تجربته في ثنائية متطرفة: إمّا دفاع أعمى أو هجوم حاد. وهكذا غابت القراءة الواقعية لمسيرته، ما يفتح المجال لتتبّع بعض جوانبها خارج منطق التقديس والشيطنة.

في المجال السياسي، ظهر التباين بين خطاب غازي القصيبي وموقعه الرسمي بوضوح. فعلى الرغم من إدراكه لحساسية المرحلة الدولية بعد أحداث سبتمبر، وكونه سفيرًا للمملكة في لندن يمثّل دولة وثقافة تخضع لتدقيق عالمي غير مسبوق، اختار أن يرثي الفلسطينية آيات الأخرس (2002)، التي نفّذت عملية انتحارية في متجر بالقدس الغربية استهدفت مدنيين، بلغة عاطفية أغفلت الفارق الجوهري بين التعاطف مع المأساة الإنسانية وتبرير العنف ضد الأبرياء. الإشكال هنا لا يتعلّق بعدالة القضية الفلسطينية ولا بشرعية معاناة شعبها، بل بطبيعة الخطاب المستخدم وبموقع صدوره؛ ففي مناخ دولي متوتّر، تُقرأ كلمات المسؤولين باعتبارها مواقف سياسية كاملة لا مجرّد تعابير شخصية، مما يجعل أي خطاب يتضمّن تعاطفًا مع فعل عنيف ضد مدنيين عرضة لتأويلات قاسية ومساءلة حادة، قد تُستغل سياسيًا ضد القضية نفسها.

هذا الموقف كشف خللًا في ازدواجية المعايير؛ فعندما كان الاتهام موجّهًا إلى الداخل بعد أحداث سبتمبر، كان خطاب القصيبي حازمًا في رفض تعميم أفعال المتطرّفين على المجتمع، مؤكّدًا أن الجريمة مسؤولية فردية لا تمثّل ثقافة أو شعبًا. لكن حين تعلّق الأمر بعملية نفّذتها فلسطينية تُقدَّم بوصفها &"ضحية&"، تراجع هذا الحزم، وتسامحت اللغة مع الفعل بحجّة المأساة الإنسانية، رغم أن الضحايا كانوا مدنيين في الحالتين. ولم يكن ذلك مجرّد انفعال عابر، بل قصورًا في تقدير أثر الكلمة حين تصدر من موقع رسمي، وهذا التباين أضعف مصداقية خطابه السياسي وأتاح مساحة لتأويلات قاسية استُغلّت ضد القضية نفسها.

وخلال حرب الخليج، كتب القصيبي في صحيفة &"الشرق الأوسط&" مقالات ذات طابع تعبوي واضح، عكست مرحلة ارتباك سياسي وإعلامي لدولة وجدت نفسها فجأة في موقع &"البلد المنكوب&" أمام رأي عام عربي منقسم. وفي ظل ندرة الكتّاب المتخصّصين في السياسة آنذاك، كان حضوره مهمًا لتبنّي الدفاع عن الموقف المناصر لتحرير الكويت. غير أن أهمية الدور في سياقه الزمني لا تلغي محدودية الأسلوب؛ إذ مال خطابه إلى الوعظ والانفعال والسجال المباشر، ما أفقده أحيانًا الحصافة. ولا يمكن اعتبار تلك المقالات كتابة سياسية رصينة، بل استجابة طارئة لفراغ إعلامي، أدّت وظيفة عاجلة لا أكثر.

في تجربته الإدارية، جسّد القصيبي نموذج القائد الذي يعمل بلا انقطاع ويؤمن بأن العمل لا يقتل مهما كان شاقًا. هذا التصوّر قد يرفع وتيرة الأداء على المدى القصير، لكنه يفرض إيقاعًا مرهقًا على فرق العمل؛ إذ تُدار المؤسسة وفق طاقة القائد أكثر من اعتمادها على متوسّط طاقة العاملين، ما يخلق فجوة قد تؤدّي إلى الاحتراق الوظيفي عند اتّساعها. وقد ارتبط تميّز القطاعات التي أدارها بحضوره الشخصي أكثر من ارتباطه بأنظمة مؤسسية قادرة على إنتاج النتائج نفسها في غيابه، فعملت الإدارة بمحرك فردي قوي لا بمنظومة مكتملة، وظهر الفراغ سريعًا بعد رحيله.

على مستوى التفويض، تشير الممارسات الإدارية في تجربة القصيبي إلى أن الصرامة العالية في المحاسبة قلّصت هامش الخطأ، ما جعل كثيرين في المستويات الوسطى يميلون إلى تجنّب المبادرة والعودة إلى المدير في أدقّ التفاصيل. ومع محدودية مساحة التجريب والخطأ، بدأ التفويض أقرب إلى ممارسة حذرة منه إلى أداة تمكين فعّالة. كما أن الضغط لتحقيق نتائج سريعة حمّل العبء على الفئات الأكثر اجتهادًا وراكم عليها المسؤوليات، مقابل تراجع الاهتمام ببناء صف ثانٍ من القيادات وتطوير بنية مؤسسية قادرة على الاستمرار والنمو على المدى الطويل.

ويمكن النظر إلى تجربة القصيبي في وزارة الصحة، التي لم تتجاوز عامين، بوصفها حالة تجمع بين الرمزية والإصلاح المؤسسي. فقد تبنّى مبادرات أحدثت أثرًا إعلاميًا ونفسيًا سريعًا، مثل الجولات التفتيشية التنكّرية، وصور المواليد، واجتماع السابعة صباحًا لإلزام القيادات بالحضور المبكّر، إضافة إلى توفير المصاحف بجوار سرير كل مريض. هذه الممارسات توحي باعتماد أكبر على الكاريزما في تحريك الجهاز الإداري، وهو ما يجعل التجربة أقرب إلى استجابة ظرفية ذات أثر رمزي أكثر من كونها مشروعًا إصلاحيًا مؤسسيًا. وبصفته أديبًا قبل أن يكون إداريًا، ساعده حضوره الشخصي في تحويل الإدارة إلى حكايات تُروى، ما جعل الذاكرة العامة مشبعة بصور رومانسية تركّز على شخصية القائد وحضوره الميداني أكثر من تركيزها على الرؤية الاستراتيجية والعمل المؤسسي المستدام.

في المجال الأدبي، لا أتوقّف عند مؤلّفاته بقدر ما أشير إلى موقفه من تقديم رواية &"بنات الرياض&"، وهو موقف يمكن قراءته في إطار ثقافي أكثر منه نقديًا. فقد جاء هذا التقديم في مرحلة اتّسمت بالاستقطاب، وبدا أقرب إلى تدخّل في سجال عام محتدم منه إلى تقويم أدبي خالص. وبصرف النظر عن الجدل الذي أثارته الرواية أو حضورها الاجتماعي، يصعب النظر إليها بوصفها تحوّلًا نوعيًا في السرد أو اللغة. اللافت أن منطق الاحتفاء غلب على منطق النقد، مع ميل واضح إلى تقدير الجرأة في الطرح على حساب المعايير الفنية. وهو منطق لا يبتعد كثيرًا عن الطريقة التي تعاملت بها بعض المؤسسات الثقافية الغربية مع الرواية، إذ جرى الاحتفاء بها لأنها تنسجم مع صورة نمطية عن مجتمع مغلق يثير الفضول أكثر مما تقدّم منجزًا أدبيًا متجاوزًا.

يمكن القول إن الجدل حول غازي القصيبي لم يكن منصبًا على فكرة واحدة أو مجال بعينه، بل على شخصية متعددة الأبعاد أثارت نقاشًا ممتدًا في السياسة والإدارة والثقافة. هذا الجدل، الذي اتّخذ شكل ثنائية حادّة بين التقديس والشيطنة، حال دون قراءة موضوعية لتجربته في سياقها الواقعي. وهكذا تضيع القراءة الجادّة التي ترى التجربة بحدودها لا بهالتها، وتعيد وضعها في سياقها بعيدًا عن الاستقطاب الذي هيمن على النقاش لعقود.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف