كتَّاب إيلاف

إسرائيل… حين يصبح الردع قراراً سيادياً

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لم تعد المواجهة بين إيران وإسرائيل قابلة للقراءة بوصفها صراعاً قابلاً للإدارة عبر قواعد الاشتباك القديمة، بل باتت اختباراً مباشراً للإرادة والسيادة والقدرة على فرض الخطوط الحمراء. فما جرى منذ يونيو لا يعبّر عن جولة تكتيكية عابرة، بل عن انتقال إسرائيلي واعٍ من منطق الاحتواء الصامت إلى منطق الردع العلني، حين تقتضي الضرورة، لمنع تحوّل التهديد الإيراني إلى واقع استراتيجي لا يمكن التراجع عنه.

ومن وجهة نظري كمراقب، فإن جوهر التحول لا يكمن في عدد الضربات أو نوعية الأهداف، بل في الرسالة التي حملتها؛ حيث لا مناطق محرّمة بعد اليوم إذا فُرض على إسرائيل الدفاع عن أمنها الوجودي، فالاختراق الذي طال البنية القيادية الإيرانية لم يكن صدفة عملياتية، بل نتاج تفوق استخباري عميق راكمته إسرائيل سنوات طويلة، ويعكس قدرة حقيقية على الوصول إلى مراكز القرار لا الاكتفاء بضرب الأطراف.

وفي هذا السياق، يصبح إدراج رأس النظام الإيراني ضمن بنك الأهداف المحتملة &- قبل أن يتم تجميد هذا الخيار بقرار أميركي &- مؤشراً بالغ الدلالة، فتل أبيب لم تعد تحصر الردع في المنشآت أو الأذرع، بل باتت تنظر إلى الصراع بوصفه مواجهة مع منظومة قرار كاملة، تتحمّل هي مسؤولية أي انزلاق نحو تهديد وجودي. وهذا تطور نوعي في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، يضع طهران أمام معادلة غير مسبوقة؛ فاستمرار التصعيد قد ينقل المواجهة من استهداف القدرات إلى استهداف القيادة نفسها.

الحقيقة انه على مستوى الأذرع الإقليمية، فإن محدودية دورها في الجولة الأخيرة لم تكن تعبيراً عن ضبط ذاتي إيراني، بل نتيجة نجاح مقصود في تحييد الساحات ومنع تعدد الجبهات، حيث أن إسرائيل، بدعم أميركي واضح، فرضت معادلة تقوم على عزل مصدر التهديد الرئيسي، ومنع خصومها من توسيع دائرة الاشتباك بما يخلق فوضى يصعب التحكم بها، وهذه المقاربة بحد ذاتها رسالة ردعية موجهة لكل من يراهن على العمل بالوكالة.

وفي تقديري، تمتلك إسرائيل اليوم القدرة والاستطاعة على حسم المواجهة مع إيران إذا ما فُرض عليها ذلك، ليس فقط من حيث القوة العسكرية، بل من حيث القدرة على شلّ منظومة القرار والاقتصاد والبنية السيادية في وقت واحد، فالتفوق الجوي، والهيمنة السيبرانية، والدقة الاستخبارية، والتكامل العملياتي مع الولايات المتحدة في مجالات الدفاع الصاروخي والاستطلاع الفضائي، كلها عناصر تجعل خيار الحسم ممكناً من الناحية العملية، غير أن إسرائيل، حتى اللحظة، تختار عدم الذهاب إلى هذا الخيار لأنها تدرك أن الحسم الشامل ليس مجرد ضربة، بل إعادة تشكيل للإقليم بكامله.

بلا شك، فإن الرسالة الإسرائيلية لم تعد قابلة للتأويل. وقد عبّر رئيس الحكومة الإسرائيلية بوضوح عن هذه العقيدة حين شدد على أن إسرائيل لا تبحث عن التصعيد، لكنها ستردّ بقوة أكبر وبكثافة أعلى كلما فُرض عليها ذلك، وبما يضمن منع تكرار التهديد من جذوره؛ هذه ليست لغة انفعال، بل إعلان صريح عن منطق ردع يقوم على مبدأ التفوق الحاسم، لا الرد المتكافئ.

وفي الإطار ذاته، تكتسب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعداً ردعياً مكمّلاً، حين أشار إلى أن إيران فوّتت فرصة تسوية أقل كلفة قبل بدء الضربات، وأن ما تكبدته من خسائر كان نتيجة مباشرة لرفضها تلك الفرصة، فالرسالة الأميركية هنا لا تقل وضوحاً عن الرسالة الإسرائيلية، ويؤكد أن الضغط العسكري ليس بديلاً عن التفاوض، لكنه أداة لفرضه من موقع قوة، ومن يرفضه يتحمّل تبعات التصعيد.

وأرى أن أخطر سيناريو يمكن أن تدفع إليه طهران بعقليتها المريضة؛ يتمثل في الانتقال إلى استخدام الصواريخ الانشطارية على نطاق واسع. عند هذه العتبة، لن يُقرأ السلوك الإيراني بوصفه تصعيداً تكتيكياً، بل قراراً استراتيجياً برفع الحرب إلى مستوى وجودي، وفي مثل هذا السياق، يصبح استهداف رأس النظام خياراً مطروحاً بجدية في إطار الردع الأخير، لا بوصفه عملاً انتقامياً، بل كإجراء دفاعي يهدف إلى كسر إرادة الاستمرار في التصعيد ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة لا يمكن احتواؤها لاحقاً.

ومع ذلك، لا يغيب عن صانع القرار الإسرائيلي أن إيران ستواصل محاولة ترميم قدراتها، وتطوير منظوماتها الصاروخية والدفاعية، غير أن التجربة أثبتت أن الفجوة الحقيقية ليست في عدد الصواريخ، بل في نوعية الاستخبارات والقدرة على تحويلها إلى فعل حاسم، وهي فجوة لا تزال تميل بوضوح لمصلحة إسرائيل وحلفائها.

في المحصلة، نحن أمام مرحلة لم يعد فيها الردع مجرد رسالة، بل قرار سيادي جاهز للتنفيذ عند الضرورة. إيران تواجه اختباراً غير مسبوق لحدود المغامرة، وإسرائيل تمتلك أدوات الحسم وتلوّح بها بوضوح، والولايات المتحدة تضبط الإيقاع العام لمنع الانفجار الشامل دون تعطيل منطق الردع. إنها لحظة حافة حقيقية، إما عودة إلى التهدئة القسرية، أو انتقال إلى مستوى من المواجهة يعيد رسم خرائط القوة في الشرق الأوسط لعقود مقبلة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف