كتَّاب إيلاف

الإرهاب الحديث: لماذا عجزت الفلسفة المعاصرة عن تفسير لحظة الانفجار؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

منذ الصدمة الفكرية والسياسية التي فجّرتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انشغلت تيارات واسعة في الفلسفة بإعادة النظر في ظاهرة ما يُسمّى &"الإرهاب الإسلامي&" لا بوصفها حدثًا عابرًا، بل علامةً هزّت التصوّرات السائدة حول الدين والهوية والدولة في العالم المعاصر. ومع كثافة ما كُتب في تفسير هذا التحوّل، بقي سؤال واحد أكثر استعصاءً من غيره: كيف تتحوّل فكرة، مهما كانت هشّة أو مضطربة، إلى قرار يُزهق فيه الإنسان روحه قبل أرواح الآخرين؟

سؤالٌ ظلّ حاضرًا في معظم المحاولات الفلسفية اللاحقة، لكنه بقي بلا جواب حاسم؛ إذ بدت لحظة الانفجار نفسها تقع خارج ما تسمح به المناهج التفسيرية السائدة.

على المستوى التاريخي، تبلور الشكل الجديد للعنف الديني منذ بداية الثمانينيات مع ظهور التفجير الانتحاري المؤسَّس على شرعية أخروية، كما قدَّمه حزب الدعوة الإسلامية في لبنان بدعم إيراني، ثم تبنَّاه وطوّره حزب الله بعد تشكيله بعام تقريبًا من تفجيرات بيروت عام 1981. وقد مثّل هذا النموذج انتقالًا نوعيًا من العنف السياسي التقليدي إلى عنف يقوم، لأول مرة، على تبرير قتل النفس بوصفه فعلًا يفتح باب الخلاص. وفي التسعينيات وبداية الألفية، انتقلت هذه الأداة إلى الجماعات الجهادية السنيّة التي أعادت توظيفها ضمن رؤيتها العقدية الخاصة. وتبدو هذه الخلفية ضرورية لفهم طبيعة الظاهرة التي حاولت القراءات الفلسفية اللاحقة تفسيرها.

يرى هابرماس أن المجال العام ما بعد العلماني يعجز عن استيعاب الخطاب الديني ما لم يُترجَم إلى لغة مدنية مشتركة، وحين يفشل هذا الشرط يتحوّل الدين إلى طاقة احتجاج تتجاوز مؤسسات الدولة. أمّا دريدا فيربط الظاهرة بمنطق المناعة الذاتية الذي تقوم عليه الدولة الحديثة وما يخلّفه من توترات ومشاريع إقصاء يتغذّى بعضها من إرث استعماري غير محسوم. ويذهب بودريار إلى أن هيمنة الصورة في عالم العولمة حوّلت الإرهاب إلى فعل رمزي يستهدف صورة النظام العالمي عبر ضرب المواقع الأكثر تمثيلًا لسلطته. وفي مقاربة مختلفة، يقدّم سلافوي جيجيك قراءة تعتبر الإرهاب الجهادي أحد ارتدادات النظام الرأسمالي العالمية؛ فهذه الحركات تعادي النظام على مستوى الخطاب، لكنها تعتمد الأدوات التي ولّدها هو نفسه: إثارة الصدمة، توجيه الأنظار، توظيف الإعلام، وتوسيع دائرة الخوف. وبذلك لا تقدّم بديلًا حضاريًا، بل تكشف تناقضات النظام الذي تزعم رفضه. وبالرغم من أهمية هذه القراءات، فإنها تظل عاجزة عن مقاربة سؤال القرار الفردي: لماذا يتحوّل شخص بعينه إلى أداة موت بدل أن يبقى في حدود المعارضة السياسية؟

وتكشف تجارب القرن العشرين أن الاستبداد أو الاستعمار، مهما بلغت قسوتهما، لا يكفيان لشرح نشوء العنف الديني الاصطفائي أو التفجير الانتحاري. فالنظم الشمولية في كوريا الشمالية والأنظمة الشيوعية والقومية مارست عنفًا واسعًا، لكنها لم تُنتج خطابًا يربط الفعل العنيف بوعد يتجاوز الواقع السياسي المباشر. أمّا حركات التحرر، سواء تلك التي لجأت إلى العمل المسلّح في بعض تجارب أميركا اللاتينية، أو التي اعتمدت أساسًا على النضال المدني كما في الهند وجنوب أفريقيا مع ظهور مقاومة مسلّحة محدودة، فقد واجهت الاستعمار بوسائل مختلفة، لكنها لم تُحوّل العنف، حين وقع، إلى مشروع يتجاوز أبعاده السياسية. وهذا كله يشير إلى أن تفسير هذا النمط من العنف يتطلب النظر في عناصر تتجاوز العامل السياسي.

كما لم تُقدّم التفسيرات الاقتصادية فهمًا كافيًا للظاهرة. فالفقر أو تدهور الأوضاع المعيشية قد يسهمان في خلق بيئات هشّة، لكنهُما لا يفسّران انخراط أفراد من طبقات ميسورة وبيئات مهنية مستقرة في التنظيمات المتطرّفة؛ فقد ضمّت هذه التنظيمات أطباء ومهندسين ورجال أعمال وضباطًا. وبرهنت تفجيرات سريلانكا عام 2019 على محدودية هذا التفسير، إذ كان بعض منفّذيها من عائلات ميسورة ومستقرة. وهذا يشير إلى أن العامل الاقتصادي، على أهميته، لا يقدّم تفسيرًا كافيًا لانتقال الفكرة العنيفة إلى قرار فعلي، وأن جذور الظاهرة تتطلب النظر في عوامل أخرى تتعدّى هذا المستوى.

ويبدو التفسير النفسي&-الوجودي أقرب المقاربات إلى فهم لحظة الانفجار، إذ يتجاور فيه منطقان مختلفان: خطاب ديني اصطفائي يقدّم تفسيرًا مغلقًا للعالم ومعنى يتجاوز الواقع، وقابلية نفسية تولّدها العزلة والخيبة والبحث عن يقين نهائي. وعندما تلتقي القراءة الأحادية للنص بهذه القابلية، تنتقل الفكرة من حيّز الاعتقاد إلى ممارسة عنيفة. وقد كشفت هجمات باريس عام 2015 هذا التداخل، إذ كان عدد من منفّذيها يعيشون فراغًا وجوديًا وجدوا في الخطاب التكفيري ما يملأه. ويتكرّر هذا النمط في سياقات متعددة.

ومع ذلك، لا ينحصر أثر الأفكار الأحادية في من يمارس العنف مباشرة؛ فهناك من يحتفظ بها في مستوى القناعة النظرية دون الانخراط في القتال، لكنه يتحوّل، بوعي أو دون وعي، إلى وسيط يعيد تدوير الخطاب المتطرّف داخل البيئات المستعدة للتلقّي، مانحًا الفكرة قدرة على التحرك حتى دون أن يحمل السلاح.

وبالتوازي مع ذلك، أسهمت التحوّلات الأيديولوجية الكبرى في توسيع مساحة الفراغ الذي يمكن أن ينشأ فيه العنف. فمنذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أخذت الحواضن القومية واليسارية في التراجع، وهي التي كانت تستوعب الغضب وتمنح الفرد أفقًا سياسيًا أو اجتماعيًا. ومع انحسار هذه البدائل، اتّسع فراغ المعنى والهوية لدى فئات واسعة، فبدت الخيارات أكثر حدّة: الانسحاب إلى العدم واليأس، أو الانجذاب إلى خطاب يمنح الغضب معنى وبطولة وخلودًا. وقد استغلت التنظيمات الدينية المتطرّفة هذا الفراغ عبر وعود أخروية تُقدَّم باعتبارها تعويضًا عن الفشل الفردي ومخرجًا من الإحباط الجماعي، فيغدو العنف، لدى من يفتقد المعنى، احتمالًا واردًا وقابلًا للتفسير داخل هذا السياق. وهكذا صار الخطاب الإسلامي المتطرّف، في غياب الروايات الكبرى الأخرى، الرواية الوحيدة التي يُمنح فيها الموت معنى أهم من الحياة.

ومع ذلك، يظلّ جزء من المشكلة مرتبطًا بتداخل العوامل الداخلية والخارجية؛ إذ أدركت بعض أجهزة الاستخبارات الدولية قابلية هذه الجماعات للتوجيه، فاستثمرت اندفاعها في صراعات النفوذ والحروب غير المباشرة. وليس هذا التدخّل منشئًا للظاهرة، بل عاملًا يعيد توزيع مساراتها ويمنحها أدوات انتشار أوسع. فالعنف لا يولد من إرادة الدول، لكنه يصبح، حين تتوفر له البُنى العقدية والقابلية النفسية، مادة قابلة للاستثمار.

وحتى لا يظلّ العنف قادرًا على إعادة إنتاج نفسه بأشكال جديدة، لا تكفي المواعظ ولا الإجراءات الأمنية وحدها. فالتعامل مع الظاهرة يقتضي تفكيك الخطاب الاصطفائي الذي يمنح العنف معناه، وعزل حضوره عن المنابر الدينية والتعليمية والرقمية، بالتزامن مع معالجة عوامل العزلة والإحباط التي تجعل بعض الأفراد أكثر قابلية لهذا الخطاب. ولا يكفي التعويل على الرموز الدينية التقليدية غير الحركية ما دامت بعض تصوّراتها تحمل بذور الاصطفاء ذاته الذي يُعاد إنتاجه في صيغ أشدّ تطرّفًا، وهو منطق يوفّر الأرضية التي يتسلّل منها الخطاب المتطرّف لاحقًا. ومن دون هذا الفهم المتكامل، تبقى المعالجات الجزئية قاصرة ومحدودة الأثر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف