حين تتكلم السيادة .. يصمت الضجيج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وليُّ العهدِ صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لا يُدير السياسة الخارجية للمملكة بوصفها ردودَ أفعالٍ آنية ، و لا يتحرّك داخل الإقليم كطرفٍ يبحث عن موضع قدم ، بل كدولةٍ تعرف وزنها ، و تفهم أن السيادة لا تُعلَن .. بل تُمارَس.
في أكثر لحظات الإقليم اشتعالًا ، حيث تتقاطع إسرائيل و إيران فوق خرائطٍ ملتهبة ، اختارت السعودية مسارًا لا يتقنه إلا الكبار: توازن السيادة .. لا انحياز أعمى ، و لا حياد هشّ. كان القرار واضحًا: حماية الإقليم من الانفجار ، و منع تحويل المنطقة إلى ساحة تصفية حسابات يدفع ثمنها العرب. لم يكن ذلك تراجعًا ، بل فرضًا لمعادلةٍ تقول إن المملكة لا تُستدرج ، و لا تُستَخدم ، ولا تُدار من خارج غرف قرارها.
و في سوريا ، لم تُغامر السعودية بالعاطفة ، و لا تُقايض على المبدأ. دعمت عودة الدولة السورية إلى محيطها العربي انطلاقًا من قراءة سيادية ترى أن الفراغ أخطر من التسويات ، و أن انهيار الدول هو البيئة المثالية للفوضى و المليشيات و التدخلات الخارجية. كانت الخطوة هادئة ، لكنها حاسمة: إغلاق أبواب الاستنزاف ، و إنهاء زمن العبث المفتوح.
و أمّا السودان ، فقد تعاملت المملكة معه كامتدادٍ مباشرٍ لأمنها القومي العربي ، لا كأزمةٍ بعيدة. لم تُساوِ بين الدولة و الفوضى ، و لم تسمح بتدويل الأزمة على نحوٍ يهدد البحر الأحمر. تحرّكت الرياض بعقل الدولة: دعمٌ للمسار السياسي ، حمايةٌ لوحدة السودان ، و قطعُ الطريق أمام تحويله إلى ثغرةٍ إقليميةٍ تهدد الملاحة و الاستقرار.
و عند البحر الأحمر ، أعادت السعودية تعريف الجغرافيا بوصفها سيادة. هذا الممر ليس ساحةَ مساومات ، بل خطُّ أمنٍ استراتيجيٍّ عالميٍّ تضبطه دولةٌ تعرف كيف تردع دون صخب ، و تحمي دون استعراض ، و تربط الأمن بالاقتصاد ضمن رؤيةٍ شاملة لا تقبل العبث.
و في العراق ، لم تنجرّ المملكة إلى صداماتٍ عقيمة ، بل اختارت الاحتواء الذكي. شراكات اقتصادية ، دعمٌ لمؤسسات الدولة ، و إعادة وصل العراق بعمقه العربي عبر المصالح لا الشعارات. هكذا تُستعاد الدول: لا بالوصاية ، بل بالثقة و الاستثمار و احترام السيادة.
و في لبنان ، كان الموقف صريحًا لا لبس فيه: &"لا إنقاذ بلا دولة&" .. و لا دعم بلا إصلاح. رفضت السعودية أن تكون مظلةً للفساد ، أو غطاءً لسلاحٍ خارج الشرعية ، و وضعت معادلة سيادية واضحة: من أراد الاستقرار فليبدأ من الدولة ، و من أراد الدعم فليصحح المسار.
و أمّا اليمن ، فهو الملف الأصعب ، و الأكثر حساسية. انتقلت المملكة من منطق الحرب المفتوحة إلى منطق إنهاء الصراع ، دون أن تُسلّم بالانقلاب ، و دون أن تُفرّط بأمنها. دعمت الشرعية ، و واجهت المشروع الحوثي ، و في الوقت ذاته فتحت المسارات السياسية لتجفيف أسباب الحرب ، واضعة أمن اليمن و السعودية فوق حسابات الاستنزاف الطويل.
النتيجة لم تكن ضجيجًا سياسيًا ، بل احترامًا دوليًا. شرقٌ يقرأ القرار السعودي بثقة ، و غربٌ يتعامل معه بواقعية. اقتصادٌ يتقدّم ، و رؤيةٌ تُنفّذ ، و إصلاحاتٌ عميقة ، و سياسةٌ خارجية مستقلة أعادت تعريف المملكة كشريكٍ يُحترم .. لا تابعٍ يُملى عليه ، و لا ساحة ضغطٍ تُستغل.
هكذا تُدار الدول الكبرى .. بهدوء السيادة ، و صلابة القرار ، و قدرةٍ نادرة على الصبر حين يجب الصبر ، و الحسم حين يحين وقته .. دون أن تحترق الرقعة ، أو تُكسَر قواعد اللعبة.