شاشية تونس صناعة عريقة مهددة بالاندثار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
فيما ظلّت الشاشية طيلة عدة قرون لباسا ذكوريا أساسيا في تونس، باتت صناعتها تواجه اوقات عصيبة.
تونس: تواجه صناعة الشاشيّة التونسية (طاقية رأس تقليدية مستديرة تصنع من الصوف) أوقاتا عصيبة. ويخشى المهتمّون بالصناعات التقليدية في تونس من اندثارها جرّاء التقلّص الكبير لعدد حرفييها وعزوف التونسيين عن ارتدائها بعد أن كانت طيلة قرون لا تفارق رؤوسهم.
وتعدّ الشاشيّة من المكوّنات الرئيسية للباس التقليدي التونسي الخاص بالرجال، الذي يتألّف أيضا من الجبّة (جلباب) و"البرنوس" (معطف من صوف الغنم) و"البلغة " (خفّان مصنوعان من الجلد).
وتعتبر الجهات الرسمية في تونس الشاشيّة إرثا ثقافيا وتصنّفها ضمن الرموز الدالة على الهوية الوطنيّة التي يجب المحافظة عليها باعتبارها "خصوصية تونسية صرفة".
الشاشية دخلت تونس مع الفتح الإسلامي ثمّ طوّرها الأندلسيون
قال الباحث الجامعي التونسي حسام الدين شاشيّة (ولقبه بالصدفة شاشية) إن كلمة شاشية مشتقّة من "شاش" (اسم مدينة في خراسان) وأن الجنود الخراسانيين الذين شاركوا مع القائد الإسلامي عقبة بن نافع في فتح مدينة القيروان التونسية سنة 670 ميلادية أدخلوا صناعة الشاشية إلى القيروان فصارت تعرف باسم "الشاشية القيروانية".
وأضاف الباحث أن ما عرفته تونس في وقت لاحق من حروب و مجاعات دفع حرفي و معلمي هذه الصنعة إلى مغادرة البلاد باتجاه المغرب و الأندلُس ناقلين معهم صناعة الشاشية التي ازدهرت بمدن فاس (المغرب) وغرناطة وقرطبة وطليطلة (إسبانيا).
وأوضّح أن "الموريسكيين" الأندلسيين (وهم مسلمو إسبانيا الذين طردهم الملك الاسبان فيليب الثالث سنة 1609) لجئوا بالآلاف إلى المغرب والجزائر وتونس واستوطنوها وأحيوا صناعة الشاشية في تونس التي لجأوا إليها بداية القرن السابع عشر.
وأفاد أن الأندلسيين سيطروا "سيطرة مطلقة على سوق الشواشين في تونس في منتصف القرن 18" وأن دراسات لغويّة أظهرت أن نحو 46 كلمة من المصطلحات التي يتم تداولها اليوم في صناعة الشاشية بتونس هي من أصل إسباني.
سوق وأمين مهنة ولجنة حكماء ونيشان خاص
تعدّ سوق "الشوّاشين" (صنّاع الشاشية) الواقعة بمدينة تونس العتيقة، قرب جامع الزيتونة المعمور، المقر الرئيسي والوحيد لحرفيي الشاشية في تونس. والسوق عبارة عن زقاق طويل ومسقّف تنتصب على جانبيه دكاكين لصناعة وعرض الشاشية.
وينتج "الشوّاشون" نوعين من الشّاشية: الأولى حمراء قرمزيّة خاصة بالتونسيين،والثانية سوداء معدّة للتصدير نحو ليبيا ودول إفريقية (جنوب الصحراء) يلبس سكانها وقادتها هذا النوع من القبّعات ويجهلون أن مصدرها تونس.
وينتخب الشواشون كل 5 سنوات، على غرار أصحاب الصنائع التقليدية الأخرى، "أمينا" يسهر على rlm;آداب المهنة وأخلاقياتها ويعمل على تسوية النزاعات فيما بين المهنيين من ناحية وبين الحرفيين rlm;والزبائن من ناحية أخرى.
وانتخب حرفيو الشاشية مطلع العام الجاري عبد الرزاق كاهية (67 عاما) أمينا جديدا لسوقهم.وقال كاهية إنه ليس متاحا لأي شخص تعاطي حرفة الشاشية فإمّا أن يكون ورثها أبا عن جد أو تعلمها من عند "معلّم" ماهر، لافتا إلى أنه على كل من يريد دخول هذا الميدان المثول أمام "مجلس العشرة" لإجراء اختبار صارم لمعرفة ما إذا كان يصلح لأن يكون "شوّاشا" أم لا.
وأوضح أن مجلس الـ 10 عبارة عن لجنة حكماء مؤلفة من أمين الشواشين و9 من أمهر معلّمي الشاشية يشرفون على إجراء الاختبارات المذكورة.
ويسند المجلس أيضا إلى كل "شوّاش" أثبت أهليّته وكفاءته في المهنة "نيشان" الصنعة وهو رمز تجاري خاص يتمّ تطريزه داخل الشاشية ليكون المعرّف الأساسي بصانع الشاشية.
ويرافق النيشان الشوّاش طوال حياته وينتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ومنه إلى الحفيد.
ورغم أن النيشان يسند عادة للذكور فقد حصلت سيدة تدعى عائدة العباسي بصفة استثنائية سنة 2000 على نيشان والدها بعد وفاته لأنه لم ينجب سوى البنات، وواصلت بذلك ترويج علامة "العباسي" المعروفة في قطاع الشاشية.
مهنة مهددة بالاندثار
ولفت عبد الرزاق كاهية إلى أن تونس "هي اليوم البلد الوحيد في العالم الذي تصنع فيه الشاشية التقليدية الأصيلة وأنه لا وجود لهذه الصناعة في أي دولة أخرى" مشيرا إلى أن أغلب الشواشين ورثوا هذه الحرفة عن آبائهم الذين ورثوها بدورهم عن أجدادهم.وتصنع الشاشية من خيوط صوف الغنم الناعم التي يتّم استيرادها من فرنسا.
ويتطلب صناعة الشاشية الواحدة ما بين 100 و150 غراما من الصوف حسب حجم الشاشية (صغيرة، متوسطة أو كبيرة).
ولا يتم استعمال صوف الأغنام التونسية لأنه ليس بالنّعومة المطلوبة في هذه الحرفة نتيجة حرارة الطقس والعوامل المناخية التي تجعل صوف الأغنام مجعّدا وغير صالح لصناعة الشاشية.
ولا يخفي كاهية الذي يمارس المهنة منذ أكثر من 50 عاما قلقه الكبير بشأن الوضع المتردّي الذي آلت إليه صناعة الشاشية في تونس وخشيته من أن يأتي يوم تندثر فيه هذه الصناعة بشكل نهائي.
وقال في هذا السياق:"سوق الشواشين لا تعدّ اليوم سوى 25 معلّما لصناعة الشاشية مقابل 480 سنة 1947" ملاحظا أنه "لولا تصدير الشاشية السوداء إلى الدول الإفريقية لما بقي في السوق معلّم واحد".
الشاشية في ذروة الازدهار
ظلّت الشاشية طيلة عدة قرون لباسا ذكوريا أساسيا في تونس يتساوى في ارتدائه الأطفال والشبان والكهول والشيوخ أغنياء وفقراء. وتحمي الشاشية الرأس من أشعة الشمس صيفا ومن البرد ومياه الأمطار شتاء.
وكان التونسي لا ينزع شاشيته إلا عند الخلود إلى النوم بل كان من العيب الكبير أن يشاهد خارج المنزل "عاري الرأس" دون الشاشية.
واعتبرت الشاشية من المقاييس الاجتماعية للرجولة إذ ما إن يبلغ الطفل سن السابعة يسارع أهله بإلباسه الشاشية تفاؤلاً بدخوله سن "الرجولة". rlm;
وفي حفلات الختان (الطهور) يرتدي كل طفل اللباس التقليدي التونسي ويزيّن رأسه بشاشية حمراء مطرّزة ويمتطي حصانا يطوف به في الحي الذي يقطنه أو الأحياء المجاورة احتفالا بهذه المناسبة.
ولا يزال كثير من التونسيين يحافظون على هذا التقليد إلى اليوم.
وعندما تتقدّم الشاشية في العمر يقصها تلاميذ المدارس والكتاتيب ويستعملونها لإزالة الطباشير (الطبشور) من السبّورة أو الألواح التي يكتبون عليها.
وكان كل موظفي القطاع العام في تونس، قبل استقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي، يرتدون الشاشية.
الشاشية في زمن الأزمة
يقول المؤرخ التونسي محمد بن عثمان الحشايشي إن صناعة الشاشية "دامت الأحقاب المتطاولة في عز وشأن عظيم ثم أخذت في التقهقـر شيئا فشيئا بشيوع الشاشية التركية في غالب الأمصار وظهور الشاشية الإفرنجية المصنوعة بالماكينة على شكل الشاشية التونسية التي استعملها غالب الناس لقلة ثمنها، فانحطت أسعار الشاشية التونسية وتأخرت هذه الصناعة وقل طلب الشاشية من تجار الممالك الشرقية.ldquo;
وقد دخلت صناعة الشاشية أزمة حادة بعد استقلال تونس، نتيجة تخلّي التونسيين تدريجيا عن ارتدائها-مع الزيّ التقليدي عامة- لصالح الملابس الغربية المستوردة وبسبب افتتان المواطنين،الذين كان أغلبهم في تلك الفترة من الشباّن، بالموضة والأزياء الغربية المهيمنة.
وخلافا لما كان متعارفا عليه عند الأجيال السابقة، تغيّرت نظرة الشبان إلى الشاشية فأصبحوا يعتبرونها "موضة قديمة" عفا عليها الزمن وعلامة على الفكر المحافظ والتقليدي غير المواكب للعصر ودليلا على التقدّم في السن.
ويفضل شباب تونس اليوم ارتداء قبعات تحمل أسماء ماركات عالمية مقلّدة ورخيصة الثمن يعتبرونها "أكثر شبابية ومواكبة للموضة".
وحتى من حافظ على ارتداء الشاشية في بعض الأرياف فقد تخلّى عن التقليدية لصالح المصنّعة لرخص ثمنها.
و يتراوح سعر الشاشية التقليدية ما بين 5 و15 دولارا. فيما لا يتجاوز سعر الشاشية المصنعة 3 دولارات.
ويعود الفارق في السعر إلى غلاء كلفة المواد المستعملة في إنتاج الشاشية التقليدية وخاصة خيوط الصوف المستوردة بالعملة الصعبة من فرنسا.
ويصل سعر الكيلوجرام الواحد من الصوف المستورد إلى نحو 15 يورو. وقد أثقل استيراد الصوف حرفيي الشاشية بالديون.
كما يعود فارق السعر أيضا إلى ما تمرّ به صناعة الشاشية التقليدية من مراحل يدوية تتطلب وقتا طويلا وجهدا بدنيا كبيرا لا ينسجم مع مردودها المادي الضعيف. وقد أدت قلة العائد المادي قياسا بالوقت والجهد اللازمين لإنجازها إلى تناقص حرفييها سنة بعد أخرى.
وأدت مختلف هذه الصعوبات إلى تسجيل تراجع حاد في صناعة الشاشية وتجارتها وابتعاد الشباب عن امتهانها ما أضعف التشبث بها كخصوصية تونسية فباتت مهددة بالزوال.
وتقلص سنة 2009 عدد معلّمي الشاشية إلى 25 وعدد العمال الذين يشاركون في مختلف مراحل صناعة الشاشية إلى نحو 5 آلاف بعد أن اضطر أغلب أصحاب الدكاكين المتواجدة في"سوق الشواشين" إلى غلق محلاتهم بسبب الإفلاس أو كرائها لتوفير عائد مالي قارّ أو تغيير أنشطتها لصالح مهن أخرى أكثر ربحا مثل الأكلات السريعة وبيع العطور ومواد الزينة والهدايا والتحف للسياح الذين يتوافدون بكثافة على مدينة تونس العتيقة.
وقد غيّر كل شواشية السوق "العالي" و"الحفصي" مهنتهم وتحولوا إلى بيع الجلود والأحذية. ولم يبق في سوق الشواشين اليوم سوى 9 محلات لمعلمي الشاشية.
ويلاحظ أن بعض المحلات التي حافظت على صناعة الشاشية أصبحت تبيع معها القبعات الغربية لتوفير عائد مالي إضافي يساعد على مجابهة ركود تجارة الشاشية التقليدية.
ويقتصر استعمال الشاشية اليوم على المناسبات الدينية والحفلات والأعياد والموالد النبوية والأعراس وحفلات الختان حيث تلبس مع الزيّ التقليدي التونسي.
ويلاحظ أغلب من يلبس الشاشية في تونس اليوم من الشيوخ الطاعنين في السن حتى أن ارتداءها أصبح علامة على التقدم في العمر.
ويجمع المهنيون على أنه لولا تصدير الشاشية السوداء إلى الدول الإفريقية لما بقي في سوق الشواشين معلّم شاشية واحد.
وتشير أرقام الديوان التونسي للصناعات التقليدية (حكومي) إلى أن الإنتاج السنوي لحرفيي الثشاشية لا يتعدى 50 طنا.
وتعادل هذه الكميّة نحو 400 ألف شاشية تباع منها نحو 20 ألفا في تونس والبقية تصدّر أساسا نحو نيجيريا التي تستقبل وحدها 88 بالمائة من صادرات الشاشية التونسية، والبقية نحو ليبيا والنيجر...
ويشتري كثير من الطلاب الأفارقة الذين يتابعون تعليمهم العالي بجامعات تونسية كميات من الشاشية لبيعها في بلدانهم عند عودتهم إليها خلال عطلة الصيف.
محاولات إنقاذ فاشلة
حاول ما تبقى من حرفيي الشاشية ،نهاية التسعينيات، إنقاذ صناعتهم وإعادة الحياة إليها بتصميم أنواع جديدة من الشاشية ذات ألوان وزخارف غير معتادة لاستمالة الشباب من الجنسين.
ولم تعد الشاشية في هذه الفترة تقتصر على اللونين الأحمر و الأسود بل ظهرت ألوان جديدة زاهية (زرقاء وصفراء وخضراء...). كما وقع تصميم شاشية أنثويّة مزركشة ترتديها النساء في الأفراح والمناسبات.
وقد نجحت هذه المحاولات في إعادة شيء من الحيوية لتجارتهم لكن الأمور عادت إلى ما كانت عليه بعد وقت غير طويل جراء تخلّي الشباب عن هذا الشكل الجديد من الشاشية.
وقد توقّف غالبية الحرفيين عن صناعة الشاشية الجديدة وعادت المهنة لتتخبط في أزمتها التي لم تخرج منها إلى اليوم.
طريق الخلاص حسب أصحاب المهنة
أظهر استطلاع آراء لعدد من حرفي الشاشية أن إنقاذ المهنة يستوجب بالدرجة الأولى تدخلا من الحكومة التي لم تباشر بعد تطبيق عدد من التعهدات التي أعلنتها لمساعدة القطاع على مجابهة الأزمة التي تردّى فيها.
وأكد هؤلاء ضرورة الإسراع بتجسيم التوصيات التي أصدرها مؤخرا الرئيس التونسي زين العابدين بن علي لفائدة مهنة الشاشية والمتمثلة بالخصوص في إعادة جدولة ديون الحرفيين (لدى البنوك والصناديق الاجتماعية) وتجديد مصنع دباغة (صباغة) الشاشية التابع لـتشاركيّة حرفيي المهنة.
ودعوا أيضا إلى فتح مزيد من الأسواق الإفريقية لدفع تصدير الشاشية ورفع عائدات التصدير حتى تصمد المهنة وتنظيم حملات ترويجية متواصلة طول العام للشاشية داخل تونس وخارجها.
واقترحوا في هذا السياق جعل الشاشية رمزا أو شعارا للأنشطة السياحية والرياضية التونسية.
وكانت تونس التي استضافت سنة 2001 الدورة 14 لألعاب البحر الأبيض المتوسط جعلت من الشاشية شعارا للدورة. وقد وقع آنذاك تصميم تميمة (تعويذة) الدورة في شكل كرة لها عينان وأنف وساقان، رأسها مغطّى بشاشية تونسية حمراء رسم عليها علم البلاد.
وتم خلال المباراة الودية التي جمعت تونس وفرنسا يوم 14 تشرين أول/أكتوبر 2008 بملعب سان دنيس بالعاصمة باريس (3/1 لفرنسا) توزيع 15 ألف حاملة مفاتيح هي عبارة عن مجسّم للاعب فرنسا حاتم بن عرفة ذي الأصل التونسي وهو يرتدي شاشية تونسية.
ونصح حرفيون آخرون بتطوير صوف الأغنام التونسي وجعله ملائما لصناعة الشاشية، للحد من تصدير الصوف الفرنسي المكلّف وتقليص تكاليف الشاشية وبالتالي التخفيض من أسعارها وجعلها في متناول المستهلك التونسي. كما شدّدوا على ضرورة منع الشاشية الصناعية التي قصمت حسب رأيهم ظهر الشاشية التقليدية.
يذكر أن تونس تحتفل سنويا بـ"اليوم الوطني للباس التقليدي" الذي يوافق يوم 16 آذار/مارس ويهدف إلى التعريف باللباس التونسي الأصيل ومد جذوره إلى الأجيال القادمة.
ويرتدي أعوان الوظيفة العمومية خلال هذا اليوم اللباس التقليدي التونسي الذي من بين مكوناته الشاشية الحمراء.
وكان "الديوان الوطني للصناعات التقليدية" نظم من 15 شباط/فبراير إلى 15 آذار /مارس 2009 حملة ترويجية للشاشية تندرج ضمن إستراتيجية الديوان التسويقية لمنتجات الصناعات التقليدية.