كيف يتم تسليط الضوء على أعمال رائعة لفنانات من البندقية بعد تعتيم طويل؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من الذي يقرر أي من الفنانين ما يزال ذكره حيا وأيهم أصبح منسيا؟ ومع احتواء المتاحف على جزء صغير فقط من الأعمال الفنية النسائية، تبذل اليوم جهود حثيثة في بينالي البندقية وفي أماكن أخرى من المدينة الإيطالية الشهيرة لإنصاف النساء فنيا وتغيير المشهد القديم.
داخل كنيسة سان مارزيالي الواقعة على جانب إحدى القنوات المائية وسط مدينة البندقية، يقف خبراء متخصصون بالتعامل مع الأعمال الفنية على سقالات عالية منصوبة فوق أحد المذابح الجانبية في الكنيسة، محاولين إخراج لوحتين قماشيتين مثبتتين على جدار الكنيسة منذ عدة مئات من السنين.
ويعتقد أن هاتين اللوحتين اللتين تعودان إلى أواخر عشرينيات القرن الثامن عشر أو أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وقد رسمتهما فنانة تُدعى جوليا لاما، التي ربما تكون أول فنانة في البندقية يطلب منها تنفيذ أعمال فنية رئيسية لصالح كنائس.
والدها جوليا كان فنانا أيضا، ولم يقتصر نشاط الفنانة التي عاشت عازبة لم تتزوج قط، على الرسم، فقد كانت أيضا عالمة رياضيات وشاعرة مكرسة لديها أعمال منشورة.
عانت لاما في ذلك الوقت من إقصاء مارسه ضدها بعض معاصريها من الرجال الفنانين لدرجة دعت رئيس الدير ورجل العلم أنطونيو كونتي إلى أن يكتب عام 1728 "تتعرض الفتاة المسكينة للاضطهاد من قبل الرسامين، لكن مزاياها تنتصر على أعدائها".
وتذكر بعض التقارير عن تلك الفترة، أن الفنانين والنقاد في ذلك الوقت ركزوا عند مقاربتهم أعمالها على صفاتها الجسدية التي اعتبروها غير جذابة أو جالبة للانتباه، وتساءلوا كيف لامرأة بمثل هذا المظهر المبتذل في عاديته أن تنتج لوحات راقية.
ومع ذلك، كانت صداقة حميمة تربط بين جوليا ورسام ناجح يدعى جيوفاني باتيستا بيازيتا، وقد كان لكل منهما تأثير على أعمال الآخر، استمر طوال حياتهما المهنية.
إلا أن الأكثر إثارة للدهشة بما يتعلق بجوليا لاما، وبالنظر إلى ما نعرفه عن تلك الفترة، هو أن أكثر من 200 من رسومات لاما تكشف أنها كانت واحدة من أوائل الفنانات اللواتي عملن بشكل منتظم على دراسة الأجساد عارية لنماذج رسم حية من الذكور والإناث على السواء. على الرغم من أن النساء كن مستبعدات عادة من دراسة شكل الجسد البشري والتشريح الفني، على الرغم من كونه عاملا أساسيا لتحقيق التميز الفني.
ويضم متحف كاريزونيكو في البندقية مجموعة من الرسومات لجوليا لاما في دراسة الأجساد العارية، والتي تظهر أشكالا عضلية رائعة، مرسومة بعناية بقلم الفحم، ومن الواضح أنها مستمدة من نماذج حية، ومعظمها لذكور.
وعلى خلاف فنانات أخريات من القرن الثامن عشر متخصصات في المنمنمات، والطبيعة الصامتة أو البورتريه، وهي أشكال كانت تعتبر أكثر ملاءمة للمرأة، رسمت جوليا لاما لوحات تصويرية ضخمة، واتخذت من جسم الإنسان موضوعا رئيسيا ومركزيا لأعمالها الفنية.
ويصور عملا لاما اللذان تم نزعهما من الحائط في كنيسة سان مارزيالي، قديسين من الإنجيليين، القديس ماثيو (متّى) وبجانبه الملاك الذي يشكل علامته الفارقة، والقديس ماركوس (مرقس)، شفيع البندقية.
كان إخراج هذين العملين من الجدار عملية دقيقة. ويخبرنا المختصون وهم يفحصون العمل الذي تم تحريره للتو أن المسامير التي تثبته مصنوعة يدويا. وبحذر شديد، يسحبون اللوحتين القماشيتين من الحائط ويدلونهما بعناية على السلالم التي تفصلهم عن الأرض.
وقد أخرجوا حتى الآن أربع لوحات من أعمال جوليا لاما بهدف المحافظة عليها. وليتم فحصها في صحن الكنيسة وهي موضوعة على حاملات من قبل خبراء الترميم وممثلي منظمة "إنقاذ البندقية" Save Venice الأمريكية.
ويعمل المشروع الجديد لهذه المنظمة والذي يحمل عنوان "فنانات البندقية" على إظهار أعمال نحو 30 فنانة كن حاضرات في المشهد الفني للمدينة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.
وتقول مديرة المجموعة، ميليسا كون "لم يكن هناك الكثير من الاهتمام بدراسة الفنانات في البندقية. لقد كن عديدات، والآن تسعى منظمة إنقاذ البندقية إلى إحياء اهتمام الجميع بهن".
ورغم أن أعمال جوليا تتميز بكونها قاتمة من حيث الإنارة والألوان، فمهارتها واضحة في تصوير الأشكال البشرية، وكذلك اهتمامها بكيفية انحناءات الجسم، ولعبها بالظلام والضوء لإنشاء أعمال درامية حقا. فما الذي جعل جوليا لاما اسما غير مألوف على الإطلاق؟
تقول المؤرخة والباحثة في الفن، كليو نيسي "يتساءل المرء إلى أي مدى يتعلق الأمر بجنسها، وحقيقة أن الفنانات بشكل عام في البندقية تم تجاهلهن على نطاق واسع. كان هناك العديد من الفنانات المنتجات، أكثر بكثير ممن يتحدث عنهن عادة".
تمتلك البندقية شهرة واسعة النطاق بكونها مدينة الكنوز الفنية، حيث يشعر المرء أن كل كنيسة صغيرة تضم تحفة فنية، وكل متحف لديه أعمال لأعظم الفنانين في التاريخ مثل يتيان وتينتوريتو، كاناليتو وفيرونيز.
جاء اكتشاف منظمة إنقاذ البندقية لأعمال جوليا لاما في كنيسة سان مارزيالي، أثناء العمل على صيانة وترميم أحد الأعمال الأولى للفنان تينتوريتو، وأشار حينها المسؤول عن الترميم إلى لوحات للاما كانت مثبتة أعلى عمل تينتوريتو.
يعتبر التاريخ الفني في البندقية عالما ذكوريا بامتياز. لكن الأمور تتغير.
وللمرة الأولى منذ 127 عاما على إطلاق بينالي البندقية، فإن النساء هن الأغلبية في أقدم وأعرق معرض فني في العالم. وتبلغ نسبة الأعمال التي رسمتها فنانات أكثر من 80 في المئة من مجمل محتويات المعرض المركزي الذي تشرف عليه منسقة البينالي سيسيليا أليماني.
وتشعر أليماني أن هذه الخطوة استغرقت وقتا طويلا، وتقول "لأننا نعيش في مجتمع متحيز للغاية ... أردت أن أعطي المسرح والمنصة للعديد من الفنانات الرائعات والمدهشات".
كما تضم معارض الأجنحة الوطنية للدول المشاركة أعمالا لفنانات أكثر من المعتاد، ومن ضمنهن سونيا بويس في الجناح البريطاني. وهي أول امرأة سوداء تمثل بريطانيا العظمى على الإطلاق.
واصطحبتني بويس في جولة حول عرضها الخاص الذي يحمل عنوان "تلمّس طريقها"، وهو يجمع بين الفيديو والكولاج والموسيقى والنحت. لقد حولت الجناح إلى فضاء صوتي لخمس موسيقيّات سوداوات.
قالت بويس متسائلة "لماذا استغرق الأمر وقتا طويلا؟". وأضافت "هناك الكثير من الفنانات البريطانيات السود الرائعات. كان يجب لهذا الأمر أن يحدث قبل الآن"
وقد حصلت بويس على جائزة الأسد الذهبي، وهي الجائزة الأولى للبينالي. من بين الإشادات التي تلقتها، أنها "تكشف الكثير من القصص الغارقة بالصمت".
والفائزة الأخرى بجائزة الأسد الذهبي هي الفنانة سيمون لي، وهي أول امرأة سوداء تمثل جناح الولايات المتحدة.
وكرمت بسبب منحوتتها التي تحل اسم :منزل من الطوب" وهي عمل من البرونز ارتفاعه 16 قدما يمثل امرأة، وافتتح فيه عرض البينالي الذي أشرفت عليه سيسيليا أليماني في أرسنال.
وبالنسبة لميليسا كون، فإن تركيز البينالي على النساء يأتي في توقيت مناسب جدا لما تفعله منظمتها بجمع قصص الفنانات من البندقية.
وتقول "تتعلم المزيد عن المستقبل من خلال النظر إلى الماضي. من المهم أن تفهم سبب اختفاء تلك النساء من المشهد، لكي لا تختفي نساء اليوم من مشهد المستقبل".
ويهدف مشروع "فنانات البندقية" إلى استعادة تلك النساء من عالم النسيان إلى عالم الضوء. وتقول كون "نكتشف أن هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، نسعى إلى تشجيع الأكاديميين والمختصين، لكي يشعروا بأنه يتوجب عليهم ربما أن يفكروا بالنساء".
كما يعملون أيضا على ترميم وحفظ أعمال للفنانة روزالبا كاريرا، التي جعلتها لوحة البورتريه الشخصية التي رسمتها بألوان الباستيل مشهورة في أوروبا وكذلك تلميذتها ماريانا كارليفاريج.
عندما ماتت كاريرا، كانت تركتها تساوي أكثر مما تساويه تركة الفنان الشهير كاناليتو، لكن اسمها، على الرغم من كونها معروفة أكثر بكثير من لاما، لم يحظ فنيا بالاعتراف الذي حظي به كاناليتو وهو من البندقية أيضا.
وينطوي مشروع "فنانات البندقية" على تحريات وتحقيقات شاقة ومنح دراسية وقدر كبير من الحظ ليتمكن من الكشف عن هؤلاء الفنانات. وتقول كون "تمكنا من التعرف على حوالي 35 فنانة في هذه المرحلة، ولكن سيكون هناك الكثير من الفنانات الأخريات".
وتشير إلى بعض الصعوبات التي تواجه المشروع "الجزء الصعب هو العثور على الأعمال الفنية، فأسماء النساء تظهر في وثائق مختلفة، ولكن تحديد لوحة أو عمل فني رسمته تلك المرأة، أمر أصعب".
وتأمل كون في العثور على المزيد من أعمال لاما، وربما بين المجموعات الخاصة لجامعي الأعمال الفنية. ومن المفارقات أنه بعد وفاتها، نسبت بعض لوحاتها خطأً إلى فنانين ذكور من تلك الفترة.
وتتوقع كليو نيسي أن لاما ستصبح خلال العقد القادم "اسما مألوفا" في كل مكان.
وفي مدينة تحظى أعمال فنانيها الذكور بالدراسة والاهتمام منذ قرون، فربما حان الوقت لتبرز إلى الواجهة قصص وأعمال النساء الفنانات اللواتي عملن إلى جانبهن في نفس الحقبة وأنتجن لوحات رائعة.