كل أربع سنوات يبدو "التاريخ" كأنه توقف قليلاً
كأس العالم 2022: لماذا يقال إن كرة القدم ديانة في عيون جماهيرها؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما الرابط بين افتتاح كأس العالم، ومؤتمرات التعايش بين الأديان، ومسابقات ملكات الجمال؟ في كلّ هذه المناسبات، نسمع الكلام ذاته عن السلام العالمي، والمحبة، والحوار بين الشعوب، ونبذ الاختلافات.
لنضع مسابقات ملكات الجمال جانباً هنا، ونتأمّل بذلك التشابه بين المناسبات الكروية والمناسبات الدينية الكبرى، وهو واضح إلى حدّ ما، ولا يحتاج إلى الكثير من التدقيق.
خلال نهائيات كأس العالم، كل أربع سنوات، يبدو "التاريخ" كأنه توقف قليلاً، ليحظى الملايين بفرصة الاستمتاع بلعبة يعشقونها.
وسط فورة الحماس الرياضية يصير المستحيل ممكناً، كأن يتصافح رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي أمام الكاميرات.
ألا يشبه هذا المشهد اللقاءات التي توصف بأنها تاريخية، بين قادة الأديان، حين يلتقون لمحو تاريخ دموي من الحروب والتفرقة؟ لقاءات تزخر بدعوات السلام والتعايش، رغم انجراف العالم المعاصر نحو خطابات الكراهية.
بماذا يؤمن "أتباع" كنيسة مارادونا؟هل أصبحت كرة القدم "دينا عالميا"؟الإطار مختلف، فالهدف الأساسي من كرة القدم هو الترفيه، في حين أنّ قادة الأديان ينشغلون بمسائل تتجاوز الحياة إلى الآخرة، وتبحث عن خلاص النفوس البشرية، ويبدو اهتمامهم منصباً هذه الأيام على إنقاذ الكوكب من التغير المناخي.
وبالرغم من أن كرة القدم بأنديتها وأبطالها قد تبلغ مرحلة "التقديس" عند الجماهير، فإن من يحظون بفرصة تنظيم المناسبات الكروية، لا يسعون بالضرورة إلى "تحقيق السلام العالمي".
على العكس، تتركّز أولوياتهم على تشييد الملاعب واستقبال الجماهير وتوزيع حقوق البثّ وصناعة الإعلانات، وكلّ المكاسب المالية والسياسية والمعنوية الممكنة.
في الحالتين، يبدو ذلك التناسق اللغوي، على مستوى الزعماء والقادة، نابعاً من مصدر واحد وهو ارتباط الشعوب الوثيق بشعائرها الدينية والرياضية وتعلّقها برموزها واعتمادها كدليل على حقيقتها وهويتها.
في هذا الإطار، يلاحظ علماء الاجتماع نقاط التشابه التالية:
التجمعات الجماهيرية الكبرى: تحلّق جماهير كرة القدم في المدرجات أو الشوارع يشبه إلى حد بعيد المهرجانات الدينية أو مواسم الحج. الرموز والشعارات: يبرز أتباع الأديان خلال ممارسة طقوسهم رموزاً محددة مثل الهلال أو الصليب، ويرتدون ملابس متشابهة، وكذلك الأمر مع جماهير كرة القدم الذي يحتفون بألوان منتخباتهم ورموز نواديهم ويبرزونها كطريقة للتميّز عن مجموعات أخرى. الأبطال والأولياء والقديسون: يقارن علماء الاجتماع بين تقديس الشخصيات الدينية، وطريقة تعاطي الجماهير مع نجوم الكرة، بحيث يحظون بتقدير يبلغ حدوداً توازي التقديس أحياناً. المؤسسات والهيكلية: مع تعاظم قوة الاتحادات الكروية والأندية، وسيطرة هيكليتها على مسار اللعبة، يمكن القول إن هيكليتها تشبه بطريقة ما المؤسسات الدينية مثل الأبرشيات والكنائس ودور الإفتاء، فالأمر لا يقتصر على جماهير كروية تحب أن تلعب بالكرة في الشوارع والأزقة.هذه المقارنة بين الطقوس الدينية وطقوس كرة القدم لطالما كانت محطّ نقاش منذ تعاظم الحالة الجماهيرية الكروية المواكبة لتنظيم أحداث رياضية كبرى ينتظرها الملايين مثل كأس العالم وبطولات الأندية.
بالطبع الأمر يختلف من حيث الجوهر، فالممارسات الدينية تركّز على خلاص الإنسان، وعلى علاقته بالخالق وبالحياة والموت، وتثير حماسة الناس من المؤمنين على مستوى روحاني سامٍ.
ولكن من حيث الشكل، تبدو ممارسات جماهير الرياضة في أحيان كثيرة قريبة من الصلاة والاحتفالات بالعيد، من جهة، وتأكيداً على هوية جماعية من جهة أخرى.
كم مرة تلتقط الكاميرا صوراً لمشجعين يبكون أو يصلون أو يرفعون أياديهم نحو السماء بالدعاء؟ وكم مرة نشاهد أبطال الكرة يركعون وسط الملعب احتفالاً، أو يسجدون شكراً بمناسبة تسديد هدف؟ وكم مرة يُرفع النجوم على أكتاف زملائهم ابتهالاً وفرحاً، وكأنهم من الأولياء؟
هذه المقارنة تعززت مع صعود نجوم وأساطير كروية، من أمثال دييغو مارادونا (1960-2020) الذي لُقّب بـ"يد الله"، وذاعت عن لسانه مقولة شهيرة هي أن "كرة القدم ليست لعبة، ولا رياضة، بل هي ديانة"، والذي أسس أتباعه كنيسة باسمه.
وأيضاً، خلال العقد الماضي، ومع بروز أشكال جديدة من التعصّب الجماهيري للأندية، على وقع التغطية الإعلامية الضخمة لمباريات الكلاسيكو الإسباني، أو الدوري الإنكليزي، بات من السهل رصد أشكال جديدة من التقديس والتعصّب للفرق.
في حالة أتباع الأديان، فإن التعصّب والتشدّد ظاهرتان مرفوضتان وتثيران مخاوف على مستويات سياسية، وقد تؤديان إلى حروب ودماء مسفوكة. ولكن في حالة جماهير الكرة، فإن التعصب لهوية الفريق أو النادي الرياضي هي جزء من لعبة الترفيه، وعنصر أساسي في إعلان الولاء.
التعصّب في كرة القدم، وفوران الجماهير غير المضبوط، يؤديان في أحيان كثيرة إلى مشاهد دموية وكوارث تدافع وأحداث عنف.
انطلاق النسخة الأكثر إثارة للجدل من كأس العالم في قطر كأس العالم 2022 - المباريات والنتائجوقد تتحوّل جماهير الكرة إلى عامل قلق لقوات حفظ النظام والأمن ومكافحة الشغب، خصوصاً حين تتحوّل تلك الجماهير إلى قوى سياسية دافعة ومشاركة في الحركات السياسية. فعلى إيقاع طبول وأهازيج مشجعي كرة القدم، قد تقوم ثورات أو احتجاجات سياسية.
ولكن كلّ ذلك العنف في التعبير عن الحبّ، يبقى في إطار "المتسامح معه"، لأنه تعصّب بريء، إن جاز التعبير، لنجوم الكرة والأندية، وانجراف نحو هدف مشترك يزيل الحدود والفوارق بين الأعراق والأديان والجنسيات.
وكما في حالة أتباع الديانات في طقوسهم وأعيادهم، نلحظ في عادات جماهير الكرة حرصاً على الإشهار، والمفاخرة بالهوية المرتبطة بالنادي أو المنتخب، من خلال الشعارات والأعلام والهتافات والألوان.
ولا يقتصر الأمر على الإشهار العلني فحسب، بل أيضاً على الممارسات اليومية للأشخاص المهتمين بهذه الرياضة، إذ تدخل الشعارات والملصقات والصور إلى مساحاتهم الخاصة.
على المستوى الخاص، يمكن أن نلحظ تشابهاً طريفاً بين الدين وكرة القدم، فكما أن معظمنا يرث عن أهله ديانتهم، كذلك فإن الولاء لفريق معين أمر متوارث في العائلات. ومن يريد "التمرّد" وسط عائلته أو مجتمعه قد يحاول أن "يعتنق" التشجيع لفريق آخر.
البحث في كرة القدم كظاهرة "شبه دينية" شغل علماء الاجتماع، بالاعتماد إلى كتابات عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم، الذي درس ديانات السكان الأصليين في أستراليا، لوضع نظرية حول الأديان كقوى اجتماعية، تنشأ في محيط تضامني وتكاتفي بين البشر.
وبحسب تعريف دوركهايم الشهير فإن "الدين هو نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، وهي أشياء يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم. وتلك المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقية واحدة".
بحسب دوركهايم إذاً، فإن هناك ثلاثة عناصر أساسية يجب أن تتوفر لتصنيف قوى جماعية تحت خانة الدين:
الأشياء المقدسة مثل الرموز والشعارات.مجموعة من المعتقدات والشعائر. وجود جماعة ذات سطوة أخلاقية.إن أسقطنا تعريف دوركهايم على ممارسات جماهير كرة القدم وعشاقها، نلاحظ توافر عناصر لجعل اللعبة أشبه بديانة من حيث ديناميكيتها، وإن لم تكن تنشغل بمسائل روحانية عميقة، وبالبحث عن أسرار الكون والخالق.
وقد يبلغ تعاطي الجماهير مع الأشياء المقدسة لنواديهم، حالة قصوى من الإعجاب والتبجيل، كما نلاحظ مثلاً في حالة التهافت على اقتناء قمصان نجوم الكرة وبيعها بالمزادات بمبالغ خيالية، إلى جانب الرغبة الملحة للتمثل بهم بارتداء ملابس تشبه ملابسهم وحفر أسمائهم أو أرقامهم على شكل وشوم على الجلد.
وأحياناً تكتسب منتخبات كرة القدم طابعاً خلاصياً، إذ يعلّق الناس عليها كل آمالهم وطموحاتهم وينتظرون منها محو خيباتهم وهزائمهم، ما يمنحها قوة معنوية عابرة للاختلافات السياسية.
فحتى من يعارضون السلطات السياسية في بلدانهم لا يترددون في رفع أعلام فرقهم الوطنية، كأنها الدليل الأنقى على ارتباطهم بأوطانهم والذي لا يمكن أن يكون موضع خصومة أو جدل.