قراءة في الفيلم الذي جمع يحيى الفخراني وفاتن حمامة
أشواق الذات في فيلم "أرض الأحلام" لداوود عبد السيد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ليس رابع أفلام داوود عبد السيد فيلما عن "أرض الأحلام" بل هو فيلم عن "أحلام الذات" وإمكان تحقيقها في عالم متغير.
فبدلا من استكشاف أميركا كما في "إسكندرية نيويورك -2004" ليوسف شاهين والبحث عن التحقق من خلال الغير، فإن نرجس علي ريحان/ فاتن حمامة ستغرق في الذات وظلالها، والأمكنة و أسرارها، والليل ومجاهله، والحياة و مفاجآتها، لعلها تكشف عن المخبوء أو المحجوب (جواز السفر الضائع أي الهوية أو الذات الضائعة).
ففيما تبحث عن جواز وتذكرة سفرها إلى أميركا، فهي تجد جواز السفر إلى مجاهل الذات وخفايا الأمكنة وأسرار الليل ومتاهات الأشخاص(تناقضات رؤوف حبشي الساحر/ يحيى الفخراني).
فهي تتمسك بذاتها، في سياق تعميم المحو(اللهاث وراء الهجرة والافتتان بالحلم الأمريكي)؛ كما تتمسك بذاكرتها وارتباطها بالمكان(كلفها الظاهر بالعمارة وعبقرية المكان وعبق الألفة).
سمات وخصائص شخصية نرجس:
1-التكتم والمرونة:
عاشت نرجس/ فاتن حمامة حياة هانئة وهادئة، بلا أحلام كبرى(شخصية أو سياسية) ولا انكسارات كبرى، في ظل أسرة متماسكة ومتلاحمة(سعي الابن الأكبر إلى مساعدة أخيه الطبيب وأخته المذيعة على الهجرة إلى أميركا). وهي تبدي -عادة- مرونة وطواعية كبيرتين (شهادة الجدة الدالة في هذا السياق)، وتبدي رغبة كبرى في إرضاء الآخر ( تحمل ضغوط الأبناء وقبول الهجرة العائلية.). تتميز نرجس بمحبة الائتلاف وتجنب الاختلاف وإبراز خصائص الذات(إشارة صديقاتها إلى تكتمها عن أشواقها الوجدانية في شبابها).
2-الغرابة والتمايز:
تنفرد نرجس ببعض التمايز في السمت والسلوك مثل كل أبطال أفلام داوود عبد السيد مثل: (اللثغة والتهور أثناء سياقة السيارة والتمسك بالباروكة والهندام الغريب والصبر وقوة التحمل رغم هشاشة الجسد والنفس).
3-العناد والإصرار:
تفاجئنا نرجس، في معرض بحثها عن جواز السفر الضائع، بسمات وقدرات غير متوقعة:
-العناد: أبانت عن عناد كبير، وهي تتحدى الصعاب المتوالية (العثور على سيارة الساحر الحمراء/ تحمل مزاج الساحر/ حضور عروضه الفنية بأماكن مختلفة/ تحمل مفاجآت ليلة رأس السنة: مزاج السهارى وتهور سائق التاكسي وصعوبة إيجاد تاكسي في ليلة ممطرة/ التكفل بتنفيذ وصية الساحر المريض بالقلب وإحضار مبلغ مالي وتمكين إدارة المستشفى منه/ البحث عن الساحر الهارب من المستشفى/ ضياع القطعة النقدية/ البرد والمطر الغزير/ تمنع الأشياء وامتناع التواصل. . .).
4-التكيّف والتحمّل: لقد تحملت &-وهي البورجوازية الهانئة &-مشاق السهر والبحث المتعب عن جواز سفر وتذكرة الطائرة الضائعين، وتنذر ومزاج وسخرية الساحر المدمن على الخمر، و الاتهام بالسرقة وصعوبات التنقل في ليلة خاصة واستحالة الاتصال بالآخرين وإفهامهم أغراضها وقصدها.
5-الرغبة في المعرفة والتفاعل: إن عالم نرجس القديم مغلق (الاستعداد للهجرة لإرضاء الأبناء/ موت الزوج/ زيارات منتظمة للأم المقيمة في دار المسنين/ اعتياد حياة رتيبة ومنظمة وخالية من التطلعات والأشواق الوجدانية و الوجودية). أما عالمها الجديد، فمنفتح على الدهشة والغرابة والطرافة والأحزان والآلام والتمزقات والمعاندات والالتباسات والأسرار والمباهج الإنسانية.
ولما كانت مخلصة لذاتها وذاكرتها وعاداتها (التمسك بالباروكة/ الارتباط العاطفي برونق المكان/ الحنين إلى جماليات وذكريات وإبداعات الماضي)، فإنها ترفض تغيير المسار الكلي، والذوبان في الغفلية: غفلية المهاجر المنفصل عن أصوله.
سمات وخصائص شخصية رؤوف الساحر:
ثمة تشابه بين شخصية الجدة عفيفة/ أمينة رزق وبين شخصية رؤوف حبشي الساحر/ يحيى الفخراني. فكلاهما يقارب الحياة ويعالج همومها وأسقامها (مرض الأم بالسكري والساحر بالقلب)من منظور خاص: المرح والاستهانة بالتحذيرات. (أكل الأم الشوكولاتة والاستهانة بالقواعد المنظمة للإقامة في دور المسنين/ استغراق رؤوف حبشي الساحر في الخمر والمرح والهزل والظرف).
إن الساحر الغارق دومًا في السكر والظرف والمزاح هو النقيض الكلي لنرجس/ فاتن حمامة الجادة والمنطوية على نفسها.
إن رؤوف حبشي الساحر مرح رغم أحزانه، صادق رغم كذبه (ادعى حرمانه من ابنه وعثوره على جواز السفر)، بارع في إنجاز الألعاب السحرية رغم إخفاقاته، وفرح بالحياة رغم أوجاعه الجسدية والوجودية: المرض والإحساس بالوحدة. فبينما تحتفي الأم/ الجدة المرحة بالحياة من خلال الشوكولاتة وحب السينما والاستمتاع بصحبة زميلها في دار المسنين ( شفيق/ محمد توفيق)، فإن رؤوف الساحر يحتفي بالحياة من خلال الاستغراق في نشوات الخمر، وفيوض المخيلة، ومفاجأة الآخرين وإدهاشهم(هروبه من المستشفى بعد إنقاذه من الموت/ استهانته بوضعه الصحي/ تكليف نرجس/ فاتن حمامة بتنفيذ وصيته: توزيع أمواله على زملائه في المهنة/ الاستخفاف بالمرض وتحذيرات الأطباء).
تمتاز بعض شخصيات داوود عبد السيد بالفرح والمرح والسخرية من الذات والبهجة والتمرد على المواضعات الاجتماعية. إنها تنحاز &-بإصرار &-إلى تمرّد مرح، يغني الوجود ويغتني بالخبرات الحياتية. إن التمرّد المرح هو القاسم المشترك، في الحقيقة، بين الشيخ حسني/ محمود عبد العزيز في "الكات كات" ورؤوف حبشي الساحر/ يحيى الفخراني والجدة عفيفة/ أمينة رزق" في "أرض الأحلام").
المهام الصعبة:
تبحث نرجس/ فاتن حمامة خلافا ليحيى/ آسر ياسين في "رسائل البحر" عن تحوّلٍ هادئ، يراعي بنيتها النفسانية والذهنية وانتماءها الفئوي والطبقي.
1-فهم التحوّل: تجد نرجس/ فاتن حمامة صعوبة كبرى في فهم عالم يتحول ويتغير باستمرار (رغبة ابنتها آمال/ علا رامي المذيعة الناجحة في الهجرة إلى أميركا/ رغبة ابنها مجدي/ هشام سليم الطبيب الناجح في الهجرة والتضحية بحياة مهنية ناجحة/ إصرار كنتها سعاد/ حنان سليمان على الهجرة).
تتطلع إلى ما يجري في المستشفى والكباريه والفنادق والشوارع. . . إلخ، وتسعى إلى استكشاف المخبوء(تصرف الفرد وهو يواجه القلق والحيرة و المرض والموت و تكالب الصعاب عليه. .) واختبار مفاجآت ليلة انتقالية.
تواجه نرجس/ فاتن حمامة التحول العام والتغيّر المسجل في خريطة المفاهيم والمعايير والتصورات وتسعى إلى فهم دواعيهما.
2-الإخلاص للماضي: لا تريد نرجس محو ذاكرتها الشخصية وقبول الاغتراب الوجودي الكلّي بأميركا، إرضاء لرغبات وطموحات الأبناء. ليس الماضي مجرّد ذكريات(الحديث عن الطموحات الشخصية في شرخ الشباب) أو نغمات وإيقاعات ( أغنية ليلى مراد وأسمهان والأفلام الغنائية الرومانسية القديمة) أو رقصات تستحضر بمحضر الصديقات لشحذ الحنين إلى الماضي ، بل هو جماع أفعال دالة على قوة الإنسان ورهافته الوجدانية وقدرته على تأثيث العالم وشحن المتخيل بالرموز والعلامات (ارتباط نرجس بالشجرة والعمارة وتاريخ وعبقرية المكان).
3-اكتشاف الذات ومجاهل العالم: رغم هدوئها الظاهر واطمئنانها نفسانيا إلى حياتها، فإنها تعاني -داخليا- من قصور وجودي؛ ولعل التوق إلى تجاوز هذا القصور هو ما يدفعها إلى مطاردة رؤوف الساحر المدهش والغريب. فقد عاشت حياة رتيبة بلا نتوءات ولا مفاجآت، فأرادت من خلال مصاحبة ومرافقة ومناكفة الساحر في لحظات الاندهاش( استغراق الساحر في شرب الخمر/ إنقاذ الساحر من الموت/ تكليفها بتنفيذ وصيته) والإدهاش (تقديم العروض السحرية في الفنادق/ الاستخفاف بالإخفاق أثناء تقديم بعض الألعاب السحرية/ الهروب من المستشفى وافتراش الرصيف/ السخرية من الذات)، إغناء خبراتها الوجودية وتوسيع منظورها للوجود والبشر وقدراتهم وحدودهم.
لا تملك نرجس الألق الوجودي، أو القابلية الوجدانية الكبرى لتحقيق النقلة النوعية في مسارها الحياتي مثل: يحيى/ آسر ياسين في" رسائل البحر"؛ كما أنها لا تملك الرهافة والحساسية الجماليتين، لمقاربة المحجوب بعين جمالية راصدة ومدققة مثل نورا/ بسمة. إلا أنها تقاسمهما رغبتهما في تأكيد أصالتهما الشخصية، وتلافي دواعي الاستلاب والمحو الوجودي.
من المحقق أنها لا تملك حساسية وجودية رهيفة؛ كما أنها لا تنشغل بقضايا وجودية كبرى خلافا ليحيى المنقبادي/ خالد أبو النجا في "قدرات غير عادية". إنها مشغولة- في العمق- بفهم دواعي التغير في الأفهام والأذواق والرغبات و التوجهات وبإثبات الذات والإحاطة بأسرارها وحفظ شعلة الذاكرة في وسط مفتون بالتغيير العاصف وإعادة النظر في معايير النظر والتقييم.
مسار اكتشاف جغرافيا الذات:
تضطر نرجس إلى الهجرة إلى أقاليم الذات واستكشاف المخبوء وإيجاد توزان نفساني وذهني يحمي الذات من التيه والانقياد إلى رغبات الآخرين(أنانية الأبناء و الكنة.).
تكتشف نرجس أن حياتها المرتبة البورجوازية، تخلو من الألق الوجودي ومن العبق الحياتي والانفتاح على محجوبات الوجود والواقع.
و الواقع أنها، تخرج من قوقعتها لتختبر الحياة، بعد أن منعتها الحياة البورجوازية المرتبة والهانئة من اكتشاف الظلال والهوامش والنتوءات والاحتمالات الوجودية المتعددة والمتضاربة.
تسافر نرجس في دروب الذات، بمساعدة غير مقصودة من رؤوف حبشي الساحر السادر في اللعب الوجودي. فكما يقلب العلائق بين العناصر في الألعاب السحرية، فإنه يحاول قلب الروابط بين الأفكار والمشاعر والأحاسيس من خلال الجمع بين الصدق وبين الكذب، بين الجد وبين اللعب، بين التأسي وبين التنذر.
تكتشف نرجس أن الحدود بين الصدق وبين الكذب غائمة، وأن للحقيقة دروبًا كثيرة، و أن وضوح الرؤية غير متيّسر دومًا، وأن نيل الصفاء يمرّ عبر الكدورة بالضرورة.
يعيد رؤوف الساحر نرجس إلى مناطق اللامعقول في الذات (حضور اجتماع السحرة والعرافين والمنجمين)، أو إلى الوعي الأولي أو للدقة إلى اللاوعي المؤسس للذات. فلا يمكن اكتشاف حقيقة الذات دون، اكتشاف مناطقها المعتمة والمظلمة والمحجوبة بألف قناع وقناع.
تطارد نرجس رؤوف حبشي الساحر، بحثًا عن جواز سفرها في الظاهر، وإتباعًا للآخر المختلف واستكشافا لمسلك وجودي غير مألوف، في الباطن. إن رؤوف الساحر هو شيخ نرجس في درب التحول الوجودي الهادئ. ولا يملك هذا الساحر الفنان، لاستثارتها سوى عدة محدودة: المرح والاستهانة بالأوجاع والأحزان والظرف والقدرة على الإدهاش والتقلّب بين الصدق وبين الكذب والاعتراف الممزوج بالتصنّع والاختلاق والاستسلام لفيض الخيال. وحين تضيع الحدود بين الحقيقة والوهم تصير المفاضلة بين الاحتمالات الرهان المعرفي-الوجودي الأسلم للمحافظة على التوازن النفساني والذهني.
تطل نرجس على عالم الاحتمالات الوجودية دون أن تبرح -كليا- عالم الواقعات البورجوازي الوثوقي.
استراتيجية نرجس:
تواجه نرجس التحوّل الثقافي-الاجتماعي بالاعتماد على ما يلي:
1-حفظ الذاكرة الشخصية والجماعية: تخشى نرجس الاقتلاع الوجودي الناتج عن الهجرة، فتجدد صلتها الوجدانية بالأمكنة (تأمل العمارة والشجرة وتاريخ مصر الجديدة).
2-الشروع في رحلة وجودية استكشافية: لتدارك ما فات، وتأكيد سلامة الاختيارات الأولى، وتثبيت الذات في وسطها واستبعاد خيار الهجرة بالكلية.
3-السعي إلى فهم ما جرى، وإلى إضاءة المناطق المعتمة في الوجود الاجتماعي والتاريخ الثقافي.
ليست مطامحها الوجودية كبيرة بكل تأكيد؛ كما أنها تفتقر إلى الرقة الوجودية أو الحساسية الجمالية أو الكثافة العاطفية، الجاذبة عادة للمشاهد. إلا أنها تتمتع بأصالة التفكير، وحسن الروية، والثبات في مواقف الحيرة(تماسكها النفساني والذهني أمام تجليات اللامعقول مثلا).
لا تتمرد نرجس خلافا ليحيى/ آسر ياسين في "رسائل البحر" على عالمها المعياري -المرجعي؛ فهي تبحث -في الحقيقة- عن تعميق و استكمال تشخصنها، أكثر مما تطمح إلى تحقيق تغيير جذري في كينونتها.
فهي تندهش لما ترى(اجتماع السحرة والعرافين والمنجمين)، إلا أنها لا تنبهر بالأشخاص والظواهر مهما كانت غريبة أو مدهشة أو باعثة على الحيرة. إن مسارها مسار استكشاف و استكمال وإتمام لخبرات سابقة لا مسار انقطاع وانعطاف وجودي حدي كما حدث لأبطال أفلام: "البحث عن سيد مرزوق " و "أرض الخوف" و "رسائل البحر".
حصاد السفر في أقاليم الذات:
تكتشف نرجس/ فاتن حمامة، أثناء رحلتها الاستكشافية لمجاهل الذات و لمتاهات الآخر المترعة بالتعدد والاختلاف والتناقض، ضرورة:
- تثبيت الهوية وإغنائها ومجابهة الغفلية والتشظي الوجودي باعتبارهما مآل المهاجر المستلب.
-تعديل رؤيتها للواقع من خلال الانفتاح على الهوامش والظلال والأوهام والفوارق دون التخلي عن الإطار المرجعي المعياري المتحكم في نظرتها إلى العالم؛ إن الواقع جماع ممكنات(طموح الأبناء وقلقهم/ مرح الجدة عفيفة/ أمينة رزق وعلاقتها الملتبسة بإدارة دار المسنين/ علاقة الساحررؤوف حبشي/ يحيي الفخراني الملتبسة بذاته والآخرين.. .) ومفارقات واختلافات ومخاطر(مخاطر ركوب سيارة الأجرة في ليلة رأس السنة/ صعوبة الاتصال بالآخر/ اكتشاف هشاشة الذات وهي تجابه صرامة الآخر و تطلبه ( إدارة المستشفى)ومخاطر الليلة الممطرة).
إن للحقيقة صلات وثيقة بالمتمنيات والأوهام، وللبوح منعرجات ونتوءات لا تمكننا، في الحقيقة، من معرفة الآخر. إن حديث الساحر ساحة ممكنات، جامعة بين جزء من الحقيقة( تقديم العروض السحرية والإصابة بمرض في القلب والإفراط في الخمر) وأجزاء من التمنيات والأوهام والتسويفات والأكاذيب.
-توسيع المنظورات والنظر إلى الحياة بما هي حقل ممكنات واحتمالات وأنماط وجود ونظرات إلى العالم.
التركيب:
تغوص نرجس رغما عنها في أرض الذات، بحثًا عن قناعة شخصية-وجودية راسخة(رفض الغفلية والمحو الوجودي).
ولما كان الوصول إلى مرفأ اليقين صعبًا( رفض الهجرة صراحة واختيار البقاء في البلد ورفض أنانية الأبناء وقبول اختلاف الرؤى)، كان من الضروري، اجتياز متاهات المسارة، وقسر الذات على مجابهة نفسها(اجتياز عتبات الشك والتردد والرغبة في إرضاء الآخرين والتغلّب على الإحساس بالذنب)، واختبار قدرتها على التحمل والفهم والتحليل والتحقق الكياني.