ورطات العلائق في فيلم "أربعاء الألعاب النارية" لأصغر فرهادي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف: يرصد فيلم "أربعاء الألعاب النارية-2006" للمخرج أصغر فرهادي، بعض مظاهر التفكك في البناء الاجتماعي وآليات إدامة علائق الهيمنة. نستكشف من خلال السرد الدرامي، أطوار الصدام بين زوجين، بعد احتداد شكوك الزوجة في سلوك الزوج (شغفه بالجارة المطلقة)، وإصراره على نفي الاتهامات الموجهة إليه وإظهار براءته. ومهما ارتبطت تصرفات وسلوكيات الأبطال بخصائصهم النفسانية وانتماءاتهم الاجتماعية والطبقية وتكوينهم الثقافي، فإنها ترتبط كذلك ببنى ثقافية &- تاريخية ومستندات أنثروبولوجية وسياقات ثقافية قائمة على المجاورة. من البين، إذن، أن فيلم "أربعاء الألعاب النارية"، لا يكتفي بالكشف عن الاعتلالات الحالة بالعلائق الزوجية والشقاء النفساني والذهني الملازم لها أحيانا، بل يكشف كذلك عن الترابطات القائمة في الواقع الإيراني المعاصر بين الاعتلالات العلائقية وبين الاعتلالات الثقافية &- السياسية.
الشخصيات وورطات العلائق:
1- روحي:
روحي/ ترانة عليدوستي شابة مرحة مقبلة على الزواج بحبيبها عبد الرضا/ هومن سيدي. وفيما تتهيأ للزواج (تجريب فستان العرس)، تكتشف الوجه الآخر للعلائق بين الزوجين. تكتشف روحي الغرة، متاهات العلائق، ومظاهر العنف وآثاره النفسانية والجسدية ومكابدات النفس الإنسانية حين تستبد بها الشكوك والهواجس والفواجع والأحزان. وتجد نفسها - وهي المكلفة أصلا بمهمة محددة وظرفية - مطالبة بمهام غير متوقعة (إحضار الطفل أمير علي / متين حيدري نيا من المدرسة) ومنخرطة في مكائد صغيرة (الاتصال بسيمين/ بانثيا بهرام بتحريض من ماجدة / هدية طهراني وأخذ موعد لتزيين الحواجب) وشاهدة على حقائق نفسانية واجتماعية مقلقة ( شقاء الطفل أمير علي / متين حيدري نيا/ ضياع ماجدة / هدية طهراني واكتئابها الحاد /براعة مرتضى/حميد فرخ نجاد في التحايل والكذب والادعاء / عجز الأهل عن فهم ما يجري وعن التدخل لإنهاء المأساة).
2- ماجدة:
تغرق ماجدة/هدية طهراني في الاكتئاب والاحتقان والتوتر، وتكتفي بالاحتجاج والصراخ والتحايل الأرعن. وبما أنها تفتقر إلى سند اقتصادي (فهي غير مستقلة ماديا) أو اجتماعي (علائقها المتردية بالعائلة) ولا تملك أي مشروع حياتي قادر على منحها القوة في لحظات الاهتزاز النفساني، فإنها تدنو- مع توالي إخفاقاتها وعدم قدرتها على إيجاد الأدلة المدينة لمرتضى/ حميد فرخ نجاد -من الانهيار.
و فيما تنعم بوضع اجتماعي -مادي مريح ،بالقياس إلى روحي الفقيرة، فإنها تشقى بوضع نفساني غير محتمل. ففيما تستمتع بالمقتنيات ووسائل الراحة ،فإنها تغرق في عزلة ذهنية ووجدانية وفكرية كبيرة، ويزداد شقاؤها حين تجد نفسها في مواجهة خصم متلون مدفوع بغرائز ورغائب لا تني تتأجج.
3- مرتضى:
يتحكم الهوى أو الشغف في مرتضى/ حميد فرخ نجاد إلى حد كبير؛ فهو لا يتردد في الكذب والتحايل والمناورة والتضليل والمراوغة و الخداع واهتبال كل الفرص المتاحة، لإظهار براءته. ولا يكتفي بالدفاع عن سلامة موقفه فقط ،بل ينساق مع ميول سادية إلى تخطئة وتأثيم وتحطيم ماجدة نفسانيا. وفيما يحاول إدامة وضع (التمسك بالزوجة والتعلق بالجارة المطلقة) ملتبس ومولد للاحتقانات النفسانية ،فإنه يصطدم بصرامة المعشوقة الحازمة.
(ويتفق النزوق والعدائية مع نزعات نرجسية وحساسية كبيرة جدا نحو صورة الأنا . لكنهما يعبران كذلك عن نقص في تنظيم الوجدانية.)-1-
يتمادى مرتضى/ حميد فرخ نجاد في المناورة والعدائية المراوغة ،كلما أظهرت ماجدة/ هدية طهراني غرارتها النفسانية وقلة خبرتها بالأشياء والناس وخفايا النفوس وعجزها عن البرهنة على صواب آرائها وتقديراتها .ويغوص في ميوعة عاطفية ( البكاء بعد رفض سيمين/ بانثيا بهرام تعلقه بها)،حين تصارحه سيمين ،الخبيرة بالحياة والعارفة بتقلبات النفوس والقلوب ( تخلي الزوج المحب عنها)،بلاجدوى الاستمرار في علاقة لن تولد إلا الأوجاع والفواجع .
مسار اكتشاف الآخر وسبر مضمرات العلائق :
تكتشف روحي/ ترانة عليدوستي التلقائية والمرحة والحالمة بالسعادة الزوجية ،العناء والشقاء الملازمين لحياة بعض الأزواج(العنف والعدوانية و الكيد والرغبة في احتواء وتحطيم الآخر نفسانيا).تكتشف تدريجيا ومن خلال المراقبة والرصد والمشاركة، تعقيدات الذهنيات والسلوكيات وصعوبة التفاهم والتواد بين أشخاص لا تفصلهم فواصل أو حواجز ثقافية أو اجتماعية.
تتحكم في سلوك وردود أفعال واستجابات روحي / ترانة عليدوستي المحددات التالية:
1- اليفاعة والغرارة: فهي قليلة الخبرة بالحياة وبالآخرين ،وغير متمرسة بمناطق الالتباس والغموض واللاعقلانية في النفس البشرية بدلالة تحيرها إزاء تصرفات الزوجة المكتئبة والمغتاظة. وحيث إنها غرة، فإنها تتصرف عادة بتلقائية ولا تولي عناية كبرى لمآل الأقوال والأفعال في جو محتقن تستغل فيه كل الإيماءات و الإشارات والإفادات في بناء التصورات أو تبرير المواقف أو اتخاذ القرارات.
لم تستوعب دقة وحراجة الوضع في البداية، فسايرت ماجدة/ هدية طهراني ، من باب المجاملة والرغبة في الاكتشاف، وقبلت التجسس على سيمين/ بانثيا بهرام؛ إلا أنها ستكتشف أن المسايرة الغافلة عن التبعات لا تخلو من مخاطر، فحاولت تهدئة الوضع باصطناع أكاذيب صغرى، ونفي علم سيمين/ بانثيا بهرام بموعد سفر الزوجين إلى دبي. وسيزداد حذرها ،بعد احتداد الوضع عقب اعتداء مرتضى على ماجدة. وكلما ازدادت معرفة بالتفاصيل ونوعية المخاطر، ازداد حذرها، وتخلت عن المسايرة التلقائية و لمست نذر الأوجاع والعذابات.
2- الوضع الطبقي: فهي فقيرة تستكشف عالما غير عالمها ، وترصد سلوكيات غير متوقعة في وسط بورجوازي يملك كل مقومات الهناءة والسعادة دون أن يتمتع بهما (العنف والعدائية والكيد والتضليل).فهي منبهرة بهذا العالم، وخائفة من مفاجآته في ذات الآن.
3-التكوين الثقافي: لا تملك روحي /ترانة عليدوستي، الرأسمال المعرفي الضروري لفهم عالم غامض: عالم الأهواء والانفعالات والكيد النفساني والعدائية المراوغة، وبناء استجابات حذرة.
دوامات الشك واستراتيجيات التحايل:
يدين أصغر فرهادي للمسرح في بناء الشخصيات وإدارة الحوار وتطوير الحبكة الدرامية.
لا تنفرد ماجدة/ هدية طهراني بمرتضى/ حميد فرخ نجاد، إلا ليبدأ النزال ويحتد السجال ويشتد وكأننا في حوار حاد في مسرحية تراجيدية.
تواجه ماجدة / هدية طهراني المدججة بالشكوك والهواجس والظنون، مرتضى/ حميد فرخ نجاد، الغارق في العشق والوله والمتمرس بالتحايل. والواقع أنها لا تفلح كثيرا في زعزعة قناعاته وإزالة أقنعته بحكم افتقارها إلى الأدلة الواضحة وارتكازها إلى أحاسيس و ظنون وقرائن، وبحكم موقعها الاجتماعي الهش، بل ينساق مع عشقه، ويصر بعد احتواء الزوجة الثائرة وإرضاء الطفل التعيس والمعنف، على اللقاء بالجارة المعشوقة.
إن ماجدة محاصرة بالشكوك والحيرة والهشاشة والافتقار إلى السند العائلي. فهي تعاني وتتألم، دون أن تملك البراهين والأدلة، الدالة على صحة شكوكها.
تتجلى تراجيدية وضعية ماجدة /هدية طهراني فيما يلي :
-عجزها عن إقامة الدليل على صحة اتهاماتها؛ فهي غير قادرة على إيجاد الأدلة المقنعة، وصوغها وتنسيقها، لكشف تحايل الزوج. وكلما ثبت عجزها عن البرهة والتدليل، ازداد حنقها واحتد سلوكها.
-ارتهانها بالوجدان، وعجزها عن تدبر وضعها على نحو عقلاني. فبينما يركن مرتضى/ حميد فرخ نجاد إلى العقل الأداتي ،تقبع ماجدة/ هدية طهراني في مدار الوجدان ،فلا تصمد رغم احتدادها النفساني ،في المنازلات ولا تفلح في تفكيك استراتيجيات الزوج المتحايل.
(فالانفعالية العاطفية تطغى على الحوار والعلاقة. والعقلانية سرعان ما تطمس، مما يقود إلى انهيار التفكير المنطقي ويحجب وضوح الرؤية ويشل القدرة على تفهم الآخرين، أو على تقدير الواقع بالموضوعية الضرورية. تطغى الانفعالات دون حدود تقيدها، طامسة ملكة النقد.) -2-
إن شخصيات الفيلم أسيرة وضع نفساني واجتماعي، لا تملك إمكانيات الخروج منه. تلجأ إلى التكيف والتحايل والمدارة تارة وإلى العنف الرمزي والمادي تارة أخرى؛ إلا أنها لا تفلح في إيجاد المخارج. يسهم كل فعل في تأجيج الاحتقان، وتعميق الاختلاف، وتوسيع مدارات العنف .تعيش ماجدة/هدية طهراني أهوال الشك وتفقد توازنها النفساني ،ويزداد مرتضى/ حميد فرخ نجاد العاشق للجارة المثيرة ،عنفا ،ويكابد طفلهما ويلات التخالف والتعاند والتصارع بين الأبوين.
المناورة والكذب:
لا تجد شخصيات الفيلم، حرجا في الكذب والتحايل وتتويه الآخر، تلافيا للإحراج أو تجنبا للمآزق أو دفاعا عن موقف شخصي.
1- روحي/ ترانة عليدوستي:
تساير روحي/ترانة عليدوستي ماجدة/ هدية طهراني وتتواطأ معها حين تخبر سيمين/ بانثيا بهرام برغبتها في تزيين حواجبها استعدادا لزواجها القريب. كما تضطر حين يحتد الموقف ،إلى الكذب وتقديم أخبار كاذبة عن معرفة سيمين بموعد سفر الزوجين إلى دبي. كما تساير سيمين ،حين تدعي أنها بنت أختها، رغم أنها زبونة لا غير.
تقبل روحي على الكذب ومسايرة الآخرين، بفعل ما يلي:
-رغبتها في إرضاء الآخر والتجاوب معه لأسباب نفسانية واجتماعية ( مسايرتها لماجدة رغم إصرار الأخيرة على رفض خدماتها في البداية / مسايرتها لسيمين من باب التعاطف وتقدير لطفها..).
-رغبتها في تخفيف الاحتقان: (تقديم أخبار كاذبة عن معرفة سيمين/ بانثيا بهرام بموعد سفر الزوجين لتهدئة الزوجة الثائرة)؛
-اضطرارها إلى المناورة وإخفاء مشاعرها و أفكارها (رفضها الإفصاح عن دواعي صعودها إلى المنزل بعد تأكدها من صحة شكوك الزوجة(استعمال مرتضى قداحة سيمين /شم رائحة عطر سيمين في السيارة).
2- مرتضى / حميد فرخ نجاد:
يخفي مرتضى تعلقه الوجداني والعاطفي بجارته سيمين/ بانثيا بهرام، ويتهم ماجدة/هدية طهراني بالتوهم والرعونة والهوس. لا يكتفي بالكذب (نفي تهمة التعلق عاطفيا بالجارة المطلقة/ تأكيد حبه لماجدة) ونفي التهمة عن نفسه، بل يتحايل ويمعن في المناورة، لنزع الجدارة النفسانية عنها: فهي مهملة، لا تقبل على الطبخ، وهي متشككة إلى حد الهوس والخبل، وهي نزقة لا تستقر على قرار( ترفض السفر إلى دبي بعد أن أصرت عليه كثيرا).
لا يكتفي مرتضى بتبرئة نفسه او بإظهار سلامة طويته وموقفه، بل يناور من أجل إفقاد ماجدة تماسكها وتوازنها ولا يتردد في استعمال العنف الرمزي (اتهامها بالاعتلال النفساني والإخلال بالمسؤوليات العائلية والتهور) والعنف المادي (ضربها في الشارع أمام الملأ).
ويصر بعد احتواء ثورتها بمساعدة غير متوقعة من روحي/ ترانة عليدوستي، وأثناء حضور احتفالات رأس السنة الإيرانية ، على اللقاء بالجارة المعشوقة، والتعبير عن تعلقه الوجداني والعاطفي بها.
3- ماجدة / هدية طهراني:
تلجأ ماجدة الغارقة في الاكتئاب والاحتقان إلى الكذب، بحثا عن الحقيقة الغائبة. ويزداد احتقانها وتضطر إلى الكذب (إخبار روحي/ترانة عليدوستي برغبتها في النوم وخروجها فعليا للتجسس على زوجها)، كلما أمعن زوجها في مناوراته وعنفه ولجاجه وضراوته ( تحطيم زجاج النافذة).
4- سيمين/ بانثيا بهرام:
تكذب سيمين، بخصوص علاقتها بروحي، في معرض دفاعها عن سلامة موقفها وسلوكها وتفنيدها لاتهامات الجيران.
لا تجد هذه الشخصيات وهي في أوج التوتر والانفعال، إلا الكذب للتغلب على الآخر وإبطال هواجسه وإنكار اتهاماته، وإثبات براءة الذات.
تلجأ هذه الشخصيات، في مواقع المواجهة أو المنازلة أو المفاوضة (كذب سيمين حول علاقتها بروحي) تلقائيا إلى الكذب والتحايل.
ولئن أمكن الكذب وتحوير الوقائع لتهدئة الوضع المحتقن (كذب روحي لتهدئة الوضع المشحون بالعنف والغيظ والقلق)، فإن التصريح بالحقيقة، بعد التيقن التام من كذب مرتضى (استعمال قداحة سيمين /شم رائحة عطرها في السيارة.) متعذر(عجز روحي عن إخبار ماجدة بتعلق زوجها بالجارة .).
التسويات المعتلة وآفات المجاورة:
توجد شخصيات المخرج أصغر فرهادي دوما في المنطقة الرمادية، الباعثة دوما على التمزق والاحتقان والتمرد والتوجس والتحير.فلئن تجاوزت شعوريا، البنى التقليدية والأبوية، وانخرطت في مسارات الحداثة جزئيا ،فإنها مرتبطة لا شعوريا ،بالبنى المتجاوزة(حنين ماجدة /هدية طهراني إلى التضامن العائلي وإلى الأب الحامي ) ،وترهن مستقبلها بواقع تلك البنى من حيث لا تدري.
ولئن تحرر الفرد من الانتماءات الجماعية التقليدية ،فإنه لم ينخرط في بنيات تضامنية حديثة(ميل سكان العمارة إلى الحذر والترقب والتوجس من الآخر/افتقار ماجدة/هدية طهراني إلى السند العائلي /عجز حميها عن فهم ما يجري/ لامبالاة وسخرية الجيران ) ،بل اكتفى بحداثة استهلاكية .إن الفردانية مقترنة بالعقلانية والاستقلالية في التجربة الغربية ؛ والحال أن ماجدة/هدية طهراني تغرق أكثر فأكثر في عاطفية مانعة من النظر إلى وضعها نظرة عقلانية ،ولا تملك آليات التحرر من وضعها النفساني والاجتماعي العصيب لافتقارها إلى الاستقلالية المادية .فهي أسيرة وضع نفساني-اجتماعي صعب ،ناتج عن إغفالها التراجيدي لنسبية الحب وصعوبة المراهنة على العواطف في تمتين العلائق الإنسانية في سياق سياسي-تاريخي انتقالي .
لا تملك ماجدة/هدية طهراني الراضية بوضع اجتماعي-اقتصادي مريح ظاهرا ،إمكان التجاوز وإعادة بناء الذات ؛فهي تروم إدامة وضع نفساني &-اجتماعي (الزوجة المحبوبة )،لا يسمح به دوما مجتمع قلق ،ثقافيا وحضاريا.
لا تدرك ماجدة/ هدية طهراني هشاشة العلائق في مجتمع، تخطى عتبات التقليد الظافر، دون أن يبني مؤسسات الحداثة الظافرة ودون أن يكرس شعورا حداثيا بالتمايز وفردانية إيجابية، تبني الذات فيما تعقد أواصر التواشج والمؤالفة بين الشركاء والنظراء.
تحبل فترة ما سماه داريوش شايغان بالبين بين، بالتناقضات والتحولات اللاعقلانية والتوفيقات غير المستساغة؛ تظن الذات أن عقد تسويات عملية بين قدامة راسخة ومحمية مؤسسيا ( الالتزام بالتشادور /فرض برنامج مدرسي تراثي / التعبئة الأيديولوجية للأطفال في المدرسة ) وحداثة متطلبة ،يمكن أن يساعدها على تجاوز التصدع .إلا أنها تكتشف حراجة الوضع ،فتغوص في الاكتئاب والانفعالات الهستيرية.
(..وفي ميدان النمذجة الأنثربولوجية نصادف إنسانا هو الصورة المعكوسة للتي كانت مثالنا الأعلى ؛وأخيرا،وفي ميدان السلوك الاجتماعي،نحن إزاء وضعية عبثية لم تكن هي تلك التي حدثنا عنها كتاب مرحلة البين بين،بقدر ما هي وضعية عبثية فريدة في نوعها نجمت عن التداخل الصارخ بين مستويات ثقافية متنافرة.)-3-
إن ماجدة / هدية طهراني أسيرة وضع نفساني اجتماعي ثقافي عويص ،فقد بنت وجودها على تسويات عملية بين القدامة التداولية والحداثة المظهرية ،إلا أنها تكتشف بعد ازدياد شكوكها في زوجها اللجوج والعنيد والعنيف ،خطأ تلك التسويات .وبما أنها عاجزة عن الانتقال إلى مدار الفعل والتغيير أو إيجاد آليات وإواليات التجاوز وتغيير المسار ، اجتماعيا واقتصاديا ،فإنها تكابد وتغرق في الاكتئاب والعنف .لقد راهنت على تسوية قائمة على إمكان المصالحة بين القدامة والحداثة من خلال الحب ووهجه ،غير أنها اكتشفت هشاشة العواطف ،وقوة الشهوة ،وصعوبة استعادة الوضع الوجداني "الأصلي" .تنهار تسوياتها وتكتشف هشاشة وضعها ،إذ تكتشف صعوبة الجمع بين امتيازات الوضع البورجوازي(امرأة تتمتع بكل مستلزمات الحداثة دون أن تبذل جهدا. ) و بين إدامة وضع عاطفي &-وجداني يرضي نرجسيتها.
أوجاع الإنسان في المجتمع المركب:
إن المجتمع الإيراني مجتمع مركب، تتجاور فيه الأنساق الثقافية والنظم والقيم، وتتصارع بضراوة، مما يؤثر في توزان الفرد وقدرته على الفهم والفعل والرغبة في تحسين شرطه الاجتماعي-التاريخي.
ويبرز الفيلم هذا التركيب من خلال ما يلي:
-الارتباط وجدانيا وثقافيا بأعياد فارس الزرادشتية القديمة (النيروز والاحتفالات النارية)؛
-الارتباط بالتشيع :( خضوع الأطفال لتوجيهات إيديولوجية &-مذهبية صريحة في المدرسة)؛
-التبرجز والفردانية والإقبال على مباهج الحياة من منظور نرجسي ذاتاني لا يراعي رغبات ومواقع الآخر(أنانية الزوج ولامبالاة الجيران).
يتحكم التجاور لا التفاعل أو التجاوز إذن ، في المجتمع المركب ؛ ومن الطبيعي ،أن يحتد الصراع ويشتد ،دون أن يدرك الأفراد دواعي وسياقات هذا الصراع وإمكان إدارته بروية وحكمة.
لا يحتكم مرتضى/ حميد فرخ نجاد إلى نسق ثقافي منسجم ،بل يصدر عن مرجعيات متضاربة دون أن ينتبه في غمرة استغراقه في العشق والهيام و السعي إلى تحصيل اللذات الحسية ،إلى رخاوة مرتكزاته .فهو متشبع في ذات الآن بالقدامة (الاحتفال بالنيروز ذي الخلفية الفارسية &-الزرادشتية) والحداثة (خرق المعايير الأخلاقية التقليدية /التمتع بمباهج الحياة العصرية ).
أما ماجدة/هدية طهراني، فبورجوازية السلوك والميولات ،إلا أنها تقليدية التفكير ،تحن في مواقف الترنح إلى الأب الحامي ،وتكتفي بالتجسس (التجسس على مرتضى/ حميد فرخ نجاد /ارتداء التشادور أثناء التجسس)والشكوى والمراقبة و التهديد بمغادرة بيت الزوجية والاكتئاب والعنف (تعنيف الطفل أمير علي / متين حيدري نيا ) والتحايل (إقناع روحي بالتجسس على سيمين)والسلوكيات والتدخلات الهستيرية.
وبدلا من أن يقود التبرجز إلى ترقية الفكر والسلوك ،وإيجاد آليات ووسائل التساند والتعاضد وفق معايير وقواعد متفق عليها ، يصير دليل التحير والاستغراق في الوحدة والكآبة والعجز والهدر الوجودي والاجتماعي .وعوض أن تكون الفردنة ،عنوان تمايز الفرد وقدرته على ممارسة فرادته الوجودية والاجتماعية ،تصير أمارة دالة على العزلة والحذر والانغلاق والخوف من الآخر .
فلئن ترقت ماجدة/هدية طهراني اجتماعيا ،فإن ترقيها خادع ،إذ لم تستند، في الحقيقة ،إلى مجهود ذاتي ولا تقوى على مجابهة الغمم والعواصف كما لا تملك دراية عميقة بالنفس الإنسانية وأهوائها وتقلباتها .خلافا لماجدة/ هدية طهراني ،الهشة نفسانيا والمكتئبة من فرط القلق والهوس والعجز ،تظهر سيمين/ بانثيا بهرام كثيرا من النضج والمراس في التعامل مع الناس ( اعتناؤها بروحي / ترانة عليدوستي بدون مقابل/رفضها الاستمرار في الارتباط بمرتضى رغم بكائه وعناده )،وفي فهم الانفعالات الإنسانية (نظرتها المتفهمة والواقعية إلى تقلبات العواطف والقلوب .)وفي المفاوضة (استماتتها في الدفاع عن سلامة موقفها بعد إخبارها بضرورة إخلاء الشقة).
تتمثل تراجيديا إنسان المجتمع المركب، في تنقله غير المسوغ بين المرجعيات والمستندات المعيارية والمسوغات القيمية المختلفة، تبعا للسياق ولإمكانياته الذاتية؛ فهو مشدود إلى القدامة وقيمها وإلى المعايير التداولية الراسخة من جهة وهو حريص على فرادته وفردانيته من جهة أخرى.
تركيب:
يرصد فيلم "أربعاء الألعاب النارية " للمخرج الإيراني أصغر فرهادي بعض مظاهر الاعتلال في الحياة الزوجية ،بعد انطفاء جذوة الحب وغلبة العقل الأداتي و استشراء العدائية المراوغة و استحالة الحوار العقلاني بين الزوجين .وفيما يرصد أطوار المجابهة والمنازلة بين ماجدة/هدية طهراني،الغارقة في الاحتقان النفساني و بين مرتضى / حميد فرخ نجاد المناور دفاعا عن شغفه بالجارة المطلقة ،فإنه يكشف عن قسمات اجتماعية &-ثقافية( تعدد وتجاور الأنساق والنظم الثقافية وغياب الرؤية الثقافية المتناسقة والاكتفاء بالترميق الثقافي نظريا والسلوك الذرائعي عمليا ) وسمات أنثروبولوجية ،تتحكم في الأفكار والسلوكيات والعلائق بين الأفراد(الارتهان بالثقافة الفارسية القديمة ورموزها .).تقترن الهشاشة النفسانية للزوجين (هشاشة البناء النفساني لماجدة وهشاشة الأنا العليا لمرتضى ) إذن ،بضعف إبدال المجاورة ،وقلق وضع" البين بين" .
الهوامش:
1-هشام جعيط،الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي ، دار الطليعة ،بيروت ، لبنان ، الطبعة الثالثة،2008،ص.190.
2- مصطفى حجازي،التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،بيروت ،التاسعة 2005،ص.176.
3-داريوش شايغان ،ما الثورة الدينية ،الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة ، ترجمة وتقديم :محمد الرحموني،المؤسسة العربية للتحديث الفكري ، دار الساقي ، الطبعة الأولى 2004،ص.172.