توظيف العيطة في فيلم "جوق العميين" للمخرج محمد مفتكر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف: يقدم فيلم "جوق العميين -2015" للمخرج المغربي محمد مفتكر، نظرة خاصة إلى مسار فنان شعبي، خبر مخاضات ومجاذبات فترة السبعينيات. فقد سعى هذا الفنان العصامي إلى تقديم موسيقى نوعية وعالمة ،تستوحي وتستلهم قواعد الموسيقى العالمية ،إلا أن آماله خابت ،لأسباب ذاتية خاصة بتكوينه الفني والفكري المحدود وخبرته التقنية القاصرة وموضوعية مرتبطة بالسياق الثقافي والتاريخي ،المتميز-آنذاك- بالتقاطب الإيديولوجي الحاد ،وسيطرة أذواق وتوجهات فنية محافظة.
I-سيرة فنان شعبي:
يعرض فيلم "جوق العميين" للمخرج محمد مفتكر، أطوارا من سيرة الموسيقي والفنان الشعبي الحسين بيدرا /يونس ميكري، من منظور ابنه محمد / إلياس الجيهاني .
يتوق الحسين بيدرا إلى رئاسة الجوق الوطني وإلى إتمام ألحانه وتقديم موسيقى راقية وعالمة، إلا أنه يصطدم بعوائق ومثبطات متعددة: غياب السند المؤسسي/الاستغراق في نشاط فني متطلب/سيادة نظرة دونية إلى الإبداع الموسيقي( موقف الزوجة حليمة/منى فتو ،من إبداعات الزوج وتطلعاته الموسيقية .).
يحلم الحسين بيدرا بإبداع موسيقى مختلفة، تتجاوز الموروث الموسيقي الشعبي وقوالبه وجمله اللحنية وتستوحي الذخائر الموسيقى الغربية. إلا أنه لا يفلح في تحقيق آماله الإبداعية، بسبب انشغاله بإدارة جوقة شعبية، متخصصة في تقديم عروض العيطة للأسر المحافظة وغياب السند والرعاية والتشجيع (رفض بعض ألحانه / تأخره في إتمام الألحان.).
يمارس الحسين فن العيطة ،وهو يتوق إلى التفرغ لإبداع موسيقى معبرة وراقية ،تتلاءم مع قواعد الموسيقى الحديثة .فهو موزع بين فن شعبي ،يتطلب التفرغ الكامل (المشاركة في إحياء الأعراس وحفلات الختان والعقيقة / إدارة فرقة غنائية/الاستغراق في حياة فنية لا تخلو من الغواية والانجذاب العاطفي والمناكدات والمكائد الصغيرة. )،و بين إبداع موسيقى جديدة ، يتطلب إنجازها كثيرا من التنظيم والتركيز والعمل التقني الكثيف والمنظم.
وتضيع موهبته الموسيقية، ويفني أيامه في إحياء حفلات غنائية، لا تخلو من مخاطر (الاعتداء على أعضاء الجوق بعد تأكد منظمي إحدى الحفلات من إبصار أعضاء الفرقة /نقل أعضاء الفرقة إلى مخفر الشرطة)، وفي تحمل مشاق إدارة الفرقة بعد انفصاله عن مصطفى/محمد بسطاوي ،شريكه في إدارة الفرقة والإشراف على عروضها .
وفي غمرة انشغاله بتدبير تبعات تورطه في علاقة عاطفية بالراقصة فاطمة / مجدولين الإدريسي واكتشاف تحايل ابنه محمد-ميمو / إلياس الجيهاني وتلاعبه بالدرجات الدراسية واختفاء أخيه عبد الله / فهد بنشمسي، المعارض اليساري الماركسي، يصاب بمرض غامض ويموت، دون أن يتمكن من تحقيق آماله وأحلامه الموسيقية.
II-تفاعل المنزع الأبوليني والديونيزوسي:
تم توظيف فن وفرجات العيطة بشكل كبير في فيلم "جوق العميين".
يحتفل الفيلم كثيرا بفن العيطة و أجوائه وفرجته وعوالمه وطقوسه (توزيع الأدوار بين المكلفين بالعزف والغناء والرقص / تسخين البنادر والطعارج /تقديم كؤوس الشاي والحلوى /تقسيم المال المحصل...إلخ)ووظائفه الفنية والاجتماعية في سياق سوسيو-تاريخي خاص.
تلامس الذات من خلال المشاركة في عروض العيطة، آثار وجروح الذاكرة ،وعوالم البوادي وأنماط تدبيرها للعيش والندرة ،وأوجاع التاريخ القبلي ؛من الطبيعي ،أن يقبل الإنسان، في سياق انتقالي ، على الفرجات الشعبية ،ذات الامتدادات أو الاستمدادات الديونيزوسية و أن ينأى عن الفنون والموسيقات الطربية الأبولينية(الموسيقى العصرية المغربية المتأثرة - جزئيا -بالموسيقى الشرقية).تمنح عروض العيطة فرص الاندماج والذوبان، من خلال الرقص والتجاوب مع الأنغام والإيقاعات وصوت الشيخة الطباعة(المغنية المحورية في الفرقة) ، في المجموعة.
إن موسيقى العيطة ،نتاج تفاعل وتلاقح نغمي- إيقاعي بين الموسيقات الثلاث :الموسيقى الأمازيغية وموسيقى الملحون والموسيقى العربية البدوية،حسب أحد الباحثين.
(وعلى مستوى الميلوديات (الألحان) والإيقاعات ،تمثل حالة امتزاج لا يخلو من مهارة وحذق بين الموسيقى الأمازيغية وموسيقى الملحون على خلفية تقليدية تعود إلى الموسيقى البدوية التي جاء بها عرب بني هلال خلال العصر الموحدي.وتجسد هذه العيطة حتى الآن،في نظر الباحث الموسيقي المغربي المعروف[عبد العزيز بن عبد الجليل]،أجواق الشيخات.) -1-
إن المقاطع العيطية المقدمة في فيلم "جوق العميين"، جماع نصوص مختلفة النوع والمأتى الجمالي.
فالواقع أن العيطة جماع نصوص:
1-النص الشعري:
يختلط الابتهاج بالحزن، والافتتان بالجمال باستحضار الأحداث والوقائع التاريخية، والاستمتاع بأمارات الجمال بتأمل أعطاب الذات ،في النصوص العيطية.تحرك الكلمات المغناة ،الوجدان ،إذ تشحنه بذكريات وجراحات ومآسي الماضي وصبوات وشهوات ورغبات النفس ،وتغذي المتخيل إذ تحمله على استحضار مخزوناته وركام الصور والتطلعات والتوهجات الساكنة في قيعانه .
تم توظيف مقطع من عيطة عبدية أو حصباوية شهيرة اسمها:"حاجتي في اكريني " أو " سيدي أحمد". وهي عيطة عاطفية مشحونة بإحالات وإشارات وإفادات عن التاريخ القبلي وعن شخصيات طبعت تاريخ قبيلة عبدة (القائد عيسى بن عمر العبدي وابنه القائد أحمد بن عيسى وابنه الباشا إدريس بن عيسى العبدي ) ،وما اكتنف فعلها التاريخي من مجاذبات و مخاضات اجتماعية وتاريخية وفنية .
( وهادك انزول اهيا اهيا
لعداك لعداك يا وعد الله
ها هو يا سيدي احمد
هاهو يا احرش لعيون
ها هو هاهو اهيا اهيا
دابا إحن مولانا انصبح زاهيين.) -2-
يستدعي التذكر والتأسي والشوق ومكابدة لوعة الفراق، الاستئناس بالساقي، والانتشاء بالخمر.
(سر لا تبليني ،جرحي جديد
المالفاك أقيدي ،كاسي افريد
حاجتي في الساقي ،الساقي كب الكاس ، مايكون باس.)-3-
تؤجج أشعار العيطة لهب الذاكرة وتحفز الوجدان وتبعث على التأمل في المصائر وعلى استعادة ذكرى الشخصيات العرفانية الوازنة(سيدي حجاج و سيدي مسعود وسيدي بليوط ...إلخ).تتحد الذاكرة بالغزل ،ليصبا في مجرى التأمل في المعاني الوجودية الكبرى والحنين إلى عوالم وصبوات ووقائع تاريخية طواها الزمان.
ترتبط أشعار العيطة بالجمال والحب والتاريخ القبلي وأحداثه الدرامية والفروسية وبطولة الفرسان الأفذاذ والتصوف وشخصياته المؤثرة.
2-النص النغمي &-الإيقاعي:
يطغى النص النغمي-الإيقاعي عادة على النص الشعري، ويطوعه لأغراضه دون أن يلغيه. ولذلك، يتغافل المستمع-أحيانا- عن الشحنات الحزينة وخاصة في المقاطع السريعة، وينساق مع انسياب الأنغام وتدفق الإيقاعات وتسارعها (الميزان المهزوز في معجم شيوخ العيطة)،وينجذب إلى صوت وأداء الشيخة الطباعة ( الفنانة خديجة مركوم في الفيلم ) وتجاوبها مع أفراد المجموعة (الفنان محمد اللوز /عازف آلة لوتار/الكنبري ومغني فرقة جوق العميين)، وينغمس في طقوس الفرجة والانجذاب والجذبة(التصفيق والرقص وتحريك الرؤوس. ).
3-النص التعبيري-الفرجوي:
لا تكتمل قوة التعبير الشعري والأداء الموسيقى &-الغنائي، إلا بارتباطهما بتعبيرات الجسد وإيحاءاته الإغرائية ( الرقصات الإيروتيكية وحركات الجسد المعبرة ) واندماجهما في عوالم الفرجة الشعبية وما تحبل به من آليات تعبيرية وإشارات دلالية وبناءات رمزية.
لا تستقيم فرجة العيطة ،إلا بالرقص والمشاركة الوجدانية في حركية المجموعة ،وهي في لحظات توهج وجودي باعث على الفرح الجماعي أو على الانخطاف والجذب.
(فالفرجة التي يخضع الرقص لنظامها، تعرض الجسد في نظام بصري مشهدي يتغيا خلق المتعة وتوفير علائق إثارة وإغراء.) -4-
يستدعي الاندماج في أطوار الفرجة، إذن، الانخراط في مسارات تفاعلية وأداء قد يقارب الجذب أحيانا، وتعليق &"الغرامة" أو النقوط على أجساد الراقصات ومسرحة المشاركة إن أمكن ذلك (الاقتراب من الجسد دون ملامسته/مسايرة الإيقاع الجماعي...).
لا تكتمل الفرجة إلا متى اندمج المشاهد في الاحتفال، وجدانيا وعاطفيا وجسديا، وتحرر من مقتضيات المقام والوضعية الاجتماعية. ولذلك يتفاعل، من خلال التصفيق وتحريك الجسد والرقص والتعبير السريع -أحيانا -عن تأثره واستحسانه للعرض المقدم، والاندماج في حركية الأجساد، وخاصة أثناء أداء الانصرافات السريعة أو السوسة أو التجاوب مع التعريضة( الأداء الموسيقي المصاحب بالرقص ).
ينجذب المشاركون في فرجات جوق العميان إلى صوت الشيخة الطباعة الصادح (الفنانة خديجة مركوم) وإلى الأداء التعبيري ورقصات الشيخات (فاطمة /مجدولين الإدريسي وفاطنة/ فدوى طالب) ورقصات الخوالزي (الراقص اللابس ملابس النساء).
4- الموسيقى التصويرية:
وبينما تمتح الأغنيات المقدمة من معين فن العيطة( العيطة المرساوية والعيطة الحصباوية أو العبدية ) ،فإن الموسيقى التصويرية المعتمدة تمتح من معين موسيقي مختلف ومن نسق موسيقي غربي واضح.
وبينما تستحضر العيوط في مقام الفرح والاحتفال والجذل والانتشاء بمتع الحياة (الاحتفال بالختان والزواج) ،تستجلي الموسيقى التصويرية ،البواطن والدخائل وتحتفل بالشجن والحزن الشفيف والتأسي والإستشراف الأسيان.
وفيما يستدعي الغناء العيطي التجاوب الراقص مع أنغامه والانخراط في أجوائه، فإن الموسيقى التصويرية، الهادئة، تبعث على التأمل والحنين والتطلع إلى المخفي والرغبة في اقتحام المجهول (جاذبية الأنثى ووعود الحب وقوة الارتباط بالآخر والرغبة في التماهي به ....).
وفي حين تحتفل مقاطع العيطة المغناة بالمشترك الجماعي (جراح الإنسان وصبوات النفس ولوعة الفراق)، وتدعو إلى الذوبان في عوالم شعرية &-نغمية-وجسدية مفعمة بالانتشاء (الاستمتاع بمقاطع من عيطة حصباوية معروفة"حاجتي في اكريني " مثلا)، فإن الموسيقى التصويرية، تبعث على التأمل والتأني في استكشاف الذات وسبر معاني العواطف الأولى (تعلق الطفل مومو /إلياس الجيهاني بخادمة الجارة، شامة /علية عمامرة/ تأمل حركات وسكنات المحبوبة) ،وسبر الذاكرة ومخزونها العاطفي، واستكشاف أقطار المخيلة وهي تنسج ثوب الأحلام الوردية(الحلم بالاحتفال الجماعي بحب ميمو لشامة/ علية عمامرة.) في مقام تراجيدي محفوف بالمخاطر (اختفاء العم اليساري ومرض الجدة /فاطمة الركراكي وانفصال مصطفى /محمد بسطاوي وفاطمة /مجدولين الإدريسي عن الفرقة وموت الأب / الحسين بيدرا / يونس ميكري .)
تحضر موسيقى العيطة في مقام الفرح و الالتحام بالجماعة وذاكرتها من خلال الرقص ومسرحة التفاعل مع العرض؛ وتحضر موسيقى ديديه لوكوود (1956-2018) التصويرية ،للكشف عما تحفل به المواقف واللحظات الدرامية ،من مكنونات وتطلعات وعذابات ،وما يميز الأفراد عن سواهم ويشغلهم حين يكتشفون أسرار الحب و أفاعيله والعشق وتبعاته والحالات الوجودية القصوى (المرض والموت) ورجاتها النفسانية القاسية.
ثمة تكامل إذن، بين موسيقى شعبية ديونيزوسية ،مرتبطة عمقيا بالعرفان وبالإيروس وبالتاريخ القبلي &-المحلي ،وموسيقى عالمة متصلة بإرث موسيقي عالم أبوليني المنزع والهوى.
III-المجتمع وفن العيطة:
1-العيطة والتناقض الوجداني:
يتحكم التناقض الوجداني في الموقف الجماعي من العيطة بما هي فن وغناء شعبي في ذلك الأوان؛ فهي جذابة وتشجع على الاندماج في طقوس الفرجة ورقصاتها الجماعية وتوفر فرص التنفيس عن الضغوطات والتوترات من جهة، وهي محذورة، لارتباطها بسلوكيات إيروتيكية (الافتتان بجمال الأجساد المغرية، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من إغراء وإغواء ومكائد وتواطؤات عاطفية ) من جهة أخرى.
إن فرجة العيطة مبهجة ومؤثرة وجاذبة عمليا؛إلا أن حضورها مشمول بكثير من التحفظ ،باعتبارها ممارسة فنية شعبية ،لا تملك مقومات الفن الكلاسيكي المقعد( تعاطي الحسين /يونس ميكري فن العيطة من باب الضرورة الاجتماعية والفنية لا غير)،ولارتباطها ،بسلوكيات غير محبذة اجتماعيا( الانجذاب العاطفي والاستمتاع بلذات الخمر)، في الوعي الشعبي ، في سياقات تاريخية محددة.
إن العيطة فاتنة ومغوية؛ وتكمن فتنتها في جاذبيتها الشعرية والنغمية والإيقاعية وتكمن غوايتها ،في إمكان استثارة الوجدان والمخيلة والجسد أثناء عروضها ،و إمكان الغوص في بحر اللذات والغوايات ،غب تلك العروض.(انجذاب المشاركين إلى أجساد الراقصات في الفيلم).
يتحكم التناقض الوجداني ،إذن ،في موقف الكثيرين من العيطة ؛فهي مغرية وجذابة ومؤثرة مادامت تستثير الذاكرة والمخيلة والجسد وتمزج الفردي بالجماعي ( جمع المفتش مصطفى / محمد بسطاوي بين عمله الوظيفي وإدارة جوق العميان )،واللحظي بالتاريخي ،إلا أنها منفرة ،لأنها لا تتمتع بجاذبية وألق الفنون المكرسة في السبعينيات ( الملحون والموسيقى الأندلسية-المغربية والغرناطي والأغنية العصرية والموسيقى الكلاسيكية الغربية )،ولا تفيد ،ولاسيما في ظل هيمنة الطرب الشرقي(محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش و عبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي) والغناء الغربي (المنوعات الفرنسية والموسيقى الكلاسيكية )،في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمغني الشعبي وإخراجه من متاهات التهميش والدونية الاجتماعية.
2-الساكسفون والتجديد المرفوض:
يقترح عبد الله بيدرا/فهد بنشمسي ،المثقف اليساري ،تطوير موسيقى العيطة عن طريق استعمال آلة الساكسفون وتوظيفها في عروض الجوق ،وتجاوز رتابة وقصور الآلات الموسيقية( الماعون حسب لغة الشيوخ) الموظفة عادة في أجواق العيطة(الكمنجة ولوتار/الكنبري و البندير والطعريجة).إلا أن الحسين بيدرا /يونس ميكري يتجنب مناقشة وجاهة المقترح ،ويكتفي بالسخرية من أخيه و من كلفه الغريب بآلة غير مألوفة في المشهد الغنائي المغربي،دون أن يقدم أدلة معضدة لموقفه.
3-الإبداع المؤجل والإحباط الاجتماعي:
لا يتمكن الحسين من إنجاز ألحانه وإبداع موسيقاه المختلفة إلا عرضا (إنجاز لحن أغنية وطنية /تقديم معزوفة بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد ابنه محمد)، لانشغاله بإدارة جوق العميان، وافتقاره إلى سند مؤسسي. فليس من الممكن-في الحقيقة-إبداع موسيقى مختلفة وعالمة، في غياب السند المؤسسي، وآليات تقبل جديدة موجهة لذائقة مختلفة.
والواقع أن الحسين بيدرا /يونس ميكري ،لا يملك كفاءة الإبداع ،لقصور تكوينه الموسيقي ،واكتفائه بخبرات فنية وتقنية محدودة محصلة أثناء تتلمذه واتصاله بالفرنسيين .يتطلب إبداع موسيقى عالمة وقوية في سياق موسيقي مخصوص ،معرفة عميقة ،بالمورث المحلي والذخائر والقواعد الكلاسيكية ،وقدرة خلاقة على استيحاء الموروث وتجديده دون الارتهان بقواعده ومعاييره .يعزو الحسين عدم قدرته على الإبداع إلى العوائق المؤسسية وإلى هيمنة حساسيات واتجاهات جمالية على المشهد الفني (يأسه من إمكان إبراز حساسيات جمالية جديدة)،دون أن يدرك أنه يفتقر إلى رؤية وجيهة وعلمية للتجديد والإبداع الموسيقيين ،وآليات تنفيذهما عمليا ،في سياق فني منفتح على موسيقات الشرق (توظيف أغنية مصرية /توظيف الغناء الهندي في بعض مشاهد الفيلم) والغرب (حب عبد الله بويدرا اليساري للساكسفون ودفاعه
عن براعة وقوة هذه الآلة الموسيقية وضرورة استعمالها من أجل تجويد الأداء الموسيقي).
علاوة على ما سبق، فإن تطلعات الحسين / يونس ميكري، تطلعات مختلطة، فهي فنية واجتماعية في نفس الآن.
إن المنجز الموسيقي، لا يقصد هنا لذاته، بل يرتبط بتبعاته الاقتصادية والاجتماعية. وبما أنه لم يتمكن من إنجاز وعوده الفنية، فإنه يخلق الإحباط ويفقد ثقة محيطه (امتعاض الزوجة حليمة/منى فتو من وعوده الخلبية . ).
لا تثق الزوجة حليمة، في قدرة الحسين على الإبداع الموسيقى وإنجاز أعمال فنية متفردة، قادرة على إخراجه من دوائر الفن الشعبي المغلقة ومن التهميش الاجتماعي. تستهين بتطلعاته الفنية، وآماله، بسبب توالي إحباطاتها ويأسها من قدرته على تحويل الأحلام إلى منجزات.
4-التحير وشقاء الوعي الفني:
يعاني الحسين/يونس ميكري من شقاء الوعي الفني ؛فهو منبهر بالموسيقى الغربية ويتمسك بقواعدها ( المعزوفة المقدمة بمناسبة عيد ميلاد ابنه مومو/إلياس الجيهاني) ؛بيد أنه ينغمس كليا في عوالم العيطة،ذات الخصائص المقامية ( البياتي والحجاز والسيكا ..)و التراكيب اللحنية والإيقاعية الخاصة.
والحقيقة أن الحسين نفسه، ينظر نظرة متعالية إلى الفن الشعبي وفن العيطة بخاصة رغم مزاولته لهما، ويفتخر غير ما مرة باكتسابه قواعد الموسيقى أثناء احتكاكه بالفرنسين. ورغم طموحه الفني الكبير، ورغبته في تقديم منجز موسيقي ذي اعتبار، فإنه يعتز كذلك " بتشياخت" وبقواعدها ومعاييرها الفنية والأخلاقية (إقدامه على توبيخ الراقصة فاطنة).
ليس الغناء العيطي ،غناء طربيا يؤدى وفق قواعد ومعايير محددة ويتم التفاعل مع عروضه وفق إواليات مقررة ،بل هو فن جماعي ،يستوحي الذخائر العيطية ومخزونها النغمي وتراكيبها اللحنية وانتقالاتها الموسيقية، ويستعيد نصوصها الشعرية والنغمية الملائمة للمقام (عيوط غزلية /الساكن...إلخ)،في سياق قائم على التفاعل والتجاوب والاندماج. يقتضي الاندماج مبارحة الذات والالتحام بالمجموعة، وهي تعبر مسافات الحنين والصبوة والعشق والفراق والهجر، وتتملى علامات الجمال، وتمسرح عمليات التفاعل (تعليق الغرامة /عرض النقود/ الاستمتاع بكؤوس الشاي والحلوى / الاستمتاع خفية بكؤوس الخمر).
IV- تركيب:
تم توظيف أغاني وفرجات العيطة باستفاضة في فيلم "جوق العميين"،وتم الكشف عما يكتنف الإقبال على هذه الفرجة الشعبية من قلق وتناقض وجداني، في سياق سياسي- تاريخي محتدم بالمخاضات والتقاطبات.
يكشف الإقبال الكبير على العيطة المارساوية والعبدية ،في مدينة مثل الدار البيضاء،عرفت تحولات ديمغرافية وقيمية واجتماعية كبرى في السبعينيات ،عن قدرة اللاشعور الثقافي على الصمود في وجه رياح العصرنة والتحديث(الأغنية العصرية والموسيقى الشرقية الطربية والموسيقى الكلاسيكية)،والتمسك بذخائر موصولة عمقيا بالعرفان والبداوة والفروسية والتاريخ القبلي وصبوات النفس العاشقة .يفصح الفيلم إذن ،عن الارتباط بالجذور الفنية والذاكرة الثقافية البدوية واستحضار العرفان وحكمه وإيقاعاته وأشعاره ،رغم الانخراط في مسارات التمدن والتحضر والتغريب أحيانا (تمسك الحسين بتقليد الفرنسيين في اللباس والأكل و الاستمتاع بالخمر والعزف على الكمان والإبداع الموسيقي ) .تكمن قوة العيطة ،هنا ،في قدرتها على مزج التاريخ بالذاكرة،والعرفان بالحكمة ،والحب بالتوق إلى المسرات ،والعشق بالإيروس ،ونشوة اللقاء بلذة الخمر.
ولئن أراد الحسين بيدرا/ يونس ميكري إبداع موسيقى مختلفة وعالمة منفصلة كليا عن عوالم العيطة وتراكيبها اللحنية والإيقاعية ،فإن المجموعات الغنائية( ناس الغيوان ولمشاهب وتكادة بخاصة) المتمردة على الغناء الطربي الأبوليني ،جددت الموسيقى المغربية عن طريق استيحاء الفنون الشعبية( الملحون وموسيقى كناوة وعيساوة وهداوة وجيلالة ) ، مقامات وتراكيب وإيقاعات، وامتاحت من معين العيطة الثر وخلقت تقليدا موسيقيا-فنيا جديدا.
الهوامش:
1-حسن نجمي ،غناء العيطة ،الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب ، دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 2007،الجزء الثاني ،ص.117.
2-علال ركوك ،موسيقى آسفي &-نماذج وتجليات ،الرباط نيت ،الطبعة الأولى 2005،ص.92.
3- أحمد أشتيوي ، العيطة الحصباوية &-من التأسيس النظري إلى استنطاق النصوص &- محاولة في التوثيق، مطابع الرباط نت ، 2016،ص.135.
4-حسن نجمي ،غناء العيطة ،الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب ،الجزء الثاني ،ص.86.