للمخرجة الأميركية من أصول فلسطينية بسمة الشريف
فيلم أوروبوروس: ما هو رمز الثعبان المدور وما علاقته بغزة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما علاقة غزة بـ "أوروبوروس"، رمز الثعبان المدور الذي يعض ذيله المستخدم في الميثولوجيا والتقاليد الغنوصية والهرمسية وما ارتبط به من ممارسات سحرية غامضة؟ وما الذي يجمع ساحل غزة وخرائب بنايته المدمرة بصحراء موهافي بولاية لوس أنجلِس الأمريكية وبقايا السكان الأصليين فيها؟ أو بمدينة ماتيرا القديمة جنوبي إيطاليا، أو بقصر تاريخي في مقاطعة بروتاني في فرنسا؟
على هذه المساحة الواسعة، تمتد رحلة فيلم المخرجة بسمة الشريف "أوروبوروس"، والتي تمتد حياتها هي بدورها على أماكن متعددة، فهي أمريكية الجنسية من أصول فلسطينية غزاوية، ولدت في الكويت وعاشت متنقلة بين فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا. هذا التنقل الذي سيترك أبلغ الأثر في تشكل هويتها وتساؤلاتها بشأنها.
وسنترك الإجابة عن هذه الأسئلة لتتكشف في ثنايا سرد هذا المقال، مع تحليلنا لعناصر هذا الفيلم البصرية والسردية، وسيرة وأفكار المخرجة وموقع غزة لديها؛ والتي اتخذت موقعا مركزيا دارت حوله معظم أفلامها، وجعلت من محاولة تقديم صورة أخرى عنها- مختلفة عن تلك التي نراها في وسائل الإعلام - مهمة أساسية لها في أفلامها أو أعمالها الفنية التي تعرضها في معارض فنية ومتاحف عالمية.
إذ عرضت أعمالها الفنية البصرية، على سبيل المثال لا الحصر، في نوماديك ديفشن في لوس أنجليس (2021) ؛ متحف الفن الحديث: موديرن مانديز في مدينة نيويورك (2020)؛ سالت غالاتا، اسطنبول (2020)؛ بينالي لاهور 02 (2020)؛ مركز الفنون المعاصرة، غلاسكو (2019)؛ متحف الفن المعاصر، تورنتو (2019)، فضلا عن مشاركة أفلامها في مهرجانات سينمائية بارزة.
تستعير الشريف رمزا قديما تتجذر أصوله في حضارات إنسانية عتيقة مختلفة من بينها الحضارة الفرعونية، التي انتقل الرمز من تراثها ولغتها الصورية إلى الميثولوجيا الإغريقية، وباتت له استخدامات مختلفة في الثقافة الغربية وفي ثقافات إنسانية أخرى.
وقد حظي بأثرة خاصة في التقاليد الغنوصية العرفانية والهرمسية، وما ارتبط بها من ممارسات خيميائية وسحرية غامضة. فبات رمز الأوروبوروس، الأفعى المدورة التي تعض ذيلها، رمزا للعود الأبدي، ودورة الحياة والموت والانبعاث، ورمزا للسرمدي وروح العالم.
توضح الشريف بنية عنوان فيلمها بالقول إن "أوروبوروس بالنسبة لي، كان مرتبطا بفكرة العود الأبدي، وبأن الطريق الوحيد أمامنا لكي نتحرك قدما هو النسيان. إذا لم نفعل ذلك، فإننا محكوم علينا بأن نعيد أخطاءنا وأن ندمر أنفسنا".
كيف وثق مخرج سويدي حياة أجيال من عائلة فلسطينية في غزة على مدى أربعة عقود؟
خمسة أعمال سينمائية حديثة تروي حياة الفلسطينيين
من "التغريبة" إلى "أنا القدس" كيف تناولت الدراما العربية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟
هذه ليست مجرد فكرة مفهومية تستعيرها بسمة الشريف بل تستحيل لديها إلى بنية سردية في فيلمها الذي يهجر بنية السرد التقليدية الخطية؛ من بداية ووسط ونهاية، إلى بنية تقوم على تواتر البناء والهدم في مسار دائري تلتقي بدايته بنهايته.
وهذه البداية والنهاية بالنسبة للشريف هي غزة التي تحدرت جذورها منها، فهي ما يبدأ فيلمها به وما يعود إليه في النهاية. تقول بسمة في مقابلة معها "أردت أن أصنع فيلما يستخدم هذه البنية وأن أبدأ بغزة وأن أمضي عبر تواريخ مختلفة، وقد قررت عبر هذه العملية أن أجعل من الفيلم نوعا من إبعاد غزة عن عزلتها بالقول إن هذا الشيء الذي يحدث الآن أمامنا".
وتضيف "والذي نشهده جميعا في الحاضر مرتبط نوعا ما بتاريخ السكان الأصليين في أمريكا، مرتبط بتاريخ الفاشية في إيطاليا، أو مرتبط بالكولونيالية في فرنسا. إنه ليس إعادة سرد التاريخ بل مساءلة واختبار قدرتنا على النسيان، وإلى اي مدى يمكن أن يكون ذلك أمرا صحيا أو العكس، فضلا عن الاحتفاء بغزة في الوقت نفسه".
هل يكفي ذلك لتوضيح بنية العنوان، واختيار رمز أوروبوروس؟ وهل ثمة دوافع أعمق من هذا التعبير المباشر عن هدف خارجي؟
والإجابة عن ذلك تتضح في ما تنثره الشريف من إشارات عميقة على مسار تطور أحداث فيلمها، ومن مقاربتها لموضوع الهوية فيه أو في نتاجاتها الفنية الأخرى، وأفلامها القصيرة، من أمثال: "بدأنا بقياس المسافة" 2009، "قصة حليب وعسل" 2011، "أبعد من العين يمكن أن نرى" 2012، "غزة هوم موفي" 2013، و"نوم عميق" 2014 وغيرها؛ وهو ما نراه تعاملا مواربا مع أزمة أو مفارقة الهوية التي تحاصر الشريف بين جذورها التاريخية وتنقلها وعيشها المستمر في مناطق جغرافية وثقافات مختلفة (الكويت، فرنسا، الولايات المتحدة، ألمانيا)، وأثر ذلك في تشكل هويتها أو قل هوياتها المتعددة.
ولا تبدو الشريف بعيدة عن استخدام رمز أوروبوروس في علم النفس التحليلي ولدى مؤسسه عالم النفس السويسري كارل يونغ ومفاهيمه عن اللاشعور الجمعي وأنماطه الأولية أو البدئية؛ التي تربط المرء بخبرات أسلافه من دون أن يشعر بها لأنها تكمن في لاوعيه الجمعي، ووصفه لرمز أوروبوروس بأنه نمط أولي (بدئي) يسبق مرحلة التفرد (individuation) أو بدء تمايز الهوية لدى الفرد.
وهو ما بنى عليه تلميذ يونغ، عالم النفس أريش نيومان، الألماني اليهودي الذي هاجر إلى إسرائيل مع صعود المد النازي في ثلاثينيات القرن الماضي ورأس رابطة علماء النفس التحليليين فيها، استخدامه هذا الرمز في كتابه "أصول الوعي وتاريخه" المنشور بالألمانية عام 1949.
وأصبح لديه كمرادف للنمط الأولي (البدئي) لما قبل تشكل الأنا "pre Ego" وهي بنظره تجربة في الطفولة تسبق التفرد وتمايز الهوية ولا يمكن الفصل فيها بين الطفل الفرد ونوعه الإنساني. ويسميها "حالة الفجر"، وهو العنوان الذي تستعيره الشريف لوصف غزة، بوصفها مهاد أصل هويتها، ما قبل تشكل هويتها الكوزموبوليتانية الجديدة.
وتمثل غزة، التي لم تعش الشريف فيها، موضوعا أثيرا لديها يحضر بقوة في كل أفلامها، لكنه في صورة منجم تحفر فيه لمقاربة هوية مأزومة، تحاصرها أنى حلت، مهما حاولت القفز عليها أو وضع أقنعة عليها، فنراها تنظر إليها من علو عبر عين الطائر، أو ترافلينغ لمرور سيارة مسرعة تلتقط بسرعة تفاصيلها (في فيلمها القصير "غزة هوم موفي" ) وفي هذه العودة إلى المادة الأولى إلى النمط القبلي السابق لتشكل الهوية لديها تبدو بسمة الشريف وكأنها تسعى لأن تدفن سؤال الهوية المأزومة في الفن.
فجر العالمتمتد أحداث فيلم "أوروبوروس" على مدى يوم، ولكنه يوم كوني يتسع لأماكن مختلفة وفي أزمان مختلفة، وإن وزعتها على أجزاء اليوم (فجر، ظهر، غسق وليل) لكن يومها يتوزع على سبعة أجزاء في الفيلم بسبعة عناوين تمثل البنية الدائرية لأوروبوروس (يوم وعكسه).
لذا نراها توزعه بالطريقة التالية (فجر ثم ظهر ثم غسق) ثم ليل (وهو أقصر أجزاء الفيلم) لتعكس الأجزاء الثلاثة الأولى لتصبح (غسق ثم ظهر ثم فجر) لتكتمل البنية الدائرية لديها التي تبتدأ بفجر غزة ثم تنتهي بتصوير لآخر لحظات الليل في شوارعها وفجرها من جديد، ثم تضيف مقطعا ختاميا لا يحمل عنوانا ويندمج بالمقطع السابع على أنغام أغنية روك راقصة يجمع لقطات من مختلف الأجزاء وينتهي ببحر غزة.
في المقطع الأول الذي حمل عنوان فجر، تستخدم الشريف كاميرا محمولة على طائرة مسيرة تصور موجات بحر غزة، لكنها تظهر بطريقة معكوسة حيث تبدو وكأنها تعود إلى البحر ولا تتحدر منه.
هذه الحركة المعكوسة تمثل استراتيجية أساسية في فيلم الشريف؛ فنرى شخصياتها في كثير من المقاطع تسير إلى الخلف، وحتى الأشياء تعرض بطريقة معكوسة : زيت الزيتون يعود إلى القارورة، الزعتر يعود من الصحن إلى العلبة، الدخان يعود إلى السيجارة بعد أن ينبعث منها، الأبطال يسيرون إلى الخلف بخطوات معكوسة ضمن زمنها الدائري.
ثم تواصل الشريف تصوير غزة من الجو، وكأنها تضع فاصلة بينها وبين المكان فتصوره بحيادية من الأعلى، فلا تختلط به، بل تظل تحوم فوقه أشبه بما تفعله كاميرات الطائرات المسيرة التي تراقب هذا المكان.
تقول بسمة " الصور التي استخدمتها هي نوع من المراقبة، تمثيلات بنظرة عين الطائر للمكان لتوضيح أنك لا تملك مدخلا الى هذا المكان وأنك تتعرف عليه عبر سطحه فقط".
ويلعب شريط الصوت هنا دورا جوهريا، ومفصليا لاحقا في بناء الفيلم السردي، إذ تستخدم الشريف صوت عزف ألة موسيقية هي نوع من الأرغن اليدوي تدعى (هردي غَردي) يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر ترافق حركة الطائرة المسيرة التي تصور بها، ثم تصبح هذه الآلة الموسيقية مدخلا للربط في مشهد ما قبل النهاية عندما نرى شخصا يعزف عليها في قصر تاريخي في مقاطعة بروتاني شمالي فرنسا، حيث نعود مع ما تعزفه إلى مشاهد غزة في بداية الفيلم.
ثم ننتقل إلى مقطع أخر في هذا الجزء، وهو عبارة عن لقطة طويلة مستمرة تصور منزل عائلة الشريف في غزة، وهو على ما اعتقد منزل عائلة جدها الدكتور حيدر عبد الشافي (المفاوض الفلسطيني في مؤتمر السلام بمدريد)، حيث نتابع مسيرة المرأة المكلفة بالعناية في المنزل الخالي من سكانه، والممتلئ بكل حاجياتهم وتذكاراتهم، من التذكارات الشخصية الأوسمة، التكريمات، (من بينها ميدالية من رابطة الشبان المسيحيين)، السماعة الطبية، عناوين الكتب في مكتبة المنزل.
يبدو كل شيء على حالة وكأن سكان المنزل غادروا للتو. ونرى المرأة في هذا المشهد وهي تسير بطريقة معكوسة (إلى الوراء) من ممرات حديقة المنزل إلى أروقة المنزل مع استعراض التفاصيل في داخله بحركة دائرية رسمت مساراتها بدقة بين ممراته، لتنتهي بخروج الكاميرا منه وإغلاق السيدة لباب المنزل الخارجي.
ويعد هذا المشهد ومشاهد مدينة غزة، هي المشاهد الوحيدة في الفيلم التي صورت بكاميرات رقمية، أما بقية الفيلم فقد صور بكاميرا 16 ملم .
في الجزء الثاني الذي يحمل اسم "الظهر" أو "منتصف الظهيرة" ننتقل على أصوات مونولوج بلغة شبه منقرضة هي لغة الشينوك واوا (وهي لغة خليط من لغات قبائل السكان الأصليين مع لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية، وكانت تستخدم كلغة للتفاهم والتجارة بين المجموعات اللغوية المختلفة في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر).
يؤدى هذا المونولوج بصوت الفنان والمخرج السينمائي سكاي هوبكينا، الذي يتحدر من إحدى قبائل السكان الأصليين في أمريكا، ويشترك مع الشريف في الكثير من الاهتمامات المشتركة في أفلامه كمشكلة الهوية والهجنة واستخدام استراتيجية تفكيكية للتخلص من هيمنة السرد التقليدي ونظرة المستعمر للسكان الأصليين.
ولا تبدو الشريف بعيدة عن بعض تنظيرات سينما السكان الأصليين في أمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، وسعيهم لمقاومة السرد السينمائي المهيمن، وقلب صورتهم المصورة بعدسة المستوطنيين أو في تلك الأفلام الانثروبولوجية التي رافقت حركة الاستعمار لأراضيهم. وسعيهم لمعادلة الصورة وتقديم سرد معاكس وتقديم تمثيل حقيقي لهم في السينما، لاسيما مع تقدم تقنيات التصوير الرقمي التي سهلت دخولهم عالم السينما. و(يقدم كتاب "لقطات معكوسة" الذي حررته سوزان نيب وويندي غي بيرسون، الكثير عن أساليب سينما السكان الأصليين هذه في السياق العالمي).
وتصر الشريف عبر استعارة صوت المخرج هوبكينا، ولغته المنسية، وبعض التقنيات السينمائية كالمشاهد المعكوسة التي تحدثنا عنها هنا ورفض السرد التقليدي المهيمن، على أن تكون حاضرة في هذا التقليد وعلى الإسهام في تقنيات "المقاومة" الفنية التي تنتشر في أفلامه.
بلا اسمبدءا من هذا الجزء، نتابع في الأجزاء اللاحقة حركة بطل واحد هذه المرة لا يحمل اسما، يؤدي دوره الفنان والمخرج الإيطالي دييغو ماكرون، وهو يتحرك على غير هدى في لوس أنجلِس في مقطع (الظهر) وبلدة ماتيرا الإيطالية في (الغروب) ثم صحراء ماهافي في كاليفورنيا (في مقطعين : "ليل"، وهو قصير، ثم تحت عنوان "غروب" من جديد) ثم إلى قصر تاريخي في مقاطعة بروتاني الفرنسية في مقطع "الظهر" ثانية.
في هذه الأجزاء نتابع هذا البطل غير المسمى، وهو يتنقل بحرية كبيرة في هذه المناطق المختلفة. ونراه يدخل أماكن ثم ينسل منها بطريقة معكوسة، ولا نرى منه أحيانا سوى الوشم الغريب على رقبته.
وتحرص الشريف هنا أن تضع مسافة فاصلة بينها وبين بطلها، فتصوره ببرود وحيادية وعن بعد، وخارج إطار حكائي محدد، ولا تظهر أي شيء يثير التعاطف معه. إنه مجهول يتحرك بحيادية في كل هذه الأماكن، بل يبدو متلصصا أحيانا على شخصيات تظهر في مشاهد حياتية ثم تختفي.
ويقابل حيادية الصورة كثافة عاطفية واضحة في شريط الصوت الذي تحمله العديد من الإشارات والإحالات والاستعارات. في أحد المشاهد نسمع صوت فريد الأطرش مغنيا "ليت أني من الأزل لم أعش هذه الحياة" بينما يبدو بطلها متلصصا على زوجين يبحثان في الاسطوانات عن استذكار للحظة عاطفية، ثم ينسل خارجا من المشهد وهو يسير بطريقة معكوسة.
وفي مشهد أخر نراه في مكتبة في موهافي مع امرأة تقرأ مقطع من رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد بينما يقاطعها الرجل بحيلة اختيار ورقة من ورق اللعب، لكنه يفشل في تحديدها في كل مرة.
أو في مشهد القصر في بروتاني نراه يجلس أمام امراة تقرأ كتابا وهو صافنا ناظرا إلى صفحات كتابها بينما ثمة عازف مجهول يعزف على ألة (هردي غَردي) الموسيقية في غرفة مجاورة يمتزج لاحقا صوتها بصوت مراوح الطائرة المسيرة وصورها من فوق لبنيات غزة.
إن الأماكن لديها تندمج وتتلاشى في سيولة مكان كوني موحد، ربما يعكس مفارقة حياتها وتنقلها في أماكن مختلفة، ومفارقة المقارنة بين حرية الحركة في هذه الأماكن وعزلة مدينة أهلها. إنها محاولة للاتصال وكسر الحدود المكانية وإعادة سيولة الحياة واستمراريتها لسكونية مكانها الأول المنعزل والمحاصر، غزة، إن لم تكن في الواقع فلتكن عبر الفن.
في الجزء الأخير من الفيلم الذي يحمل من جديد اسم "فجر" تعود لتصور عبر طائرة مسيرة شوارع غزة وبحرها في آخر لحظات الليل وانبثاق الفجر مع صوت الراوي بتلك اللغة شبه المنقرضة، وتظهرها وهي تتلاشى وتتحول إلى أشكال تجريدية ملونة.
ثم في لقطة من الأعلى بعين الطائر تظهر أطفالا يرسمون هذه الأشكال الملونة على الأرض مع نداء استغاثة غير مكتمل عبر ثلاث حروف تظهر على الشاشة من كلمة "HELP" الإنجليزية؛ من دون الحرف الأخير (بي) الذي يبقى ناقصا.
إنه نداء استغاثة ناقص، وربما كلمة جحيم باللغة الإنجليزية ينقصها الحرف الأخير؛ قبل أن تمتزج لقطات مختلفة من كل هذه الأماكن السابقة التي قدمتها في الفيلم في مونتاج متوازٍ على أنغام أغنية روك صاخبة يرقص عليها بطل فيلمها.
عاطفة بلا جدوىوأمام هذا التشتت والاستراتيجية التفكيكية في التعامل مع الصورة؛ بين آليات هدم وبناء و تراجع العلاقات المنطقية السببية في سردها لمصلحة العلاقات الترابطية الشعورية، يكتسب شريط الصوت أهمية استثنائية ويصبح (الاسمنت) الرابط لهذه البنى المفككة، وهو من يقود الصورة، وتنتظم الصور على خيطه، بديلا عن الحبكة السردية التي تقدمها القصة التقليدية؛ كما في صوت الأرغن اليدوي القديم في مشهدي البداية والنهاية، على سبيل المثال لا الحصر.
تقول الشريف "إن الصوت هو ما يقودها أكثر من الصور"، وتقدم شريطا صوتيا غنيا مرافقا لشتات صورها: من موسيقى تصويرية أصلية وضعها للفيلم يان غوردون وباني بيبول، أو استعارات ثرية مختلفة المشارب من موسيقى التبت، أغاني فريد الأطرش، وعزف البيانست الروسي فاسيلي بريماكوف لمقطوعة مندلسون "أغنية بلا كلمات"، بل وحتى تلك اللغة شبه المنقرضة التي تستخدمها في التعليق لها جرسها الموسيقي المميز ضمن شريط الصوت لديها.
كما تستخدم التعليق المكتوب على الشاشة كعنصر سردي إضافي يترافق مع استعارات قرائية من نصوص أدبية كرواية " قلب الظلام" لكونراد (التي حظيت بإثرة خاصة في الدراسات ما بعد الكولونيالية)، أو كتاب "المسيح توقف في إيبولي" لكارلو ليفي عن فترة نفيه إلى جنوب إيطاليا في حقبة الفاشية. أو من حكايات فلكلورية عربية.
من هذا النسيج المعقد من الاستعارات الفكرية والرموز والتقنيات السينمائية التجريبية والاستعارات الموسيقية، تبني الشريف دائرتها التي تشبه صورة الثعبان أو التنين الذي يعض ذيله؛ أوروبوروس، رمز الأبدية الذي يحوط العالم في الميثولوجيا، ويمثل روحه: الواحد الذي يضم المتعدد في داخله.
وتحتال عبر هذه الوحدة على جدران العالم الواقعي وسجونه وحدوده الفاصلة لتجعل الأماكن تسيل وتتمازج وتتداخل منقذة مكانها الأحب، غزة، من عزلته، دامجة إياه مع العالم الأرحب عبر الفن.
بيد أن محنتها الحقيقية تظل مع الذكريات التي تتناثر في هذا الفضاء عن المكان الأول المكوّن، والتي تشحب وتتوارى لتستحيل إلى مجرد استجابات عاطفية، ربما كانت بلا جدوى.